عبد الواحد الزفري
“الفايس بوك”
– جدران “الفايس بوك” مفعمة بصور و”ألبومات” من لا يشبهوك وقد يش…: شيوخ بلغوا من العمر الثريا، يطلبون صداقات صبيات لازال حليب أمهاتهن على شفاههن الحمر، عسى أن يعودهم الشباب ذات “شات” مع إحدى البنات على “msn” أو “skyp”… ، أو في لقاء ساخن، مباشر على الهاتف الناقل لصوت فتاة كالذي للعنادل (وللعلم قد تحسن النسل)؛ كي تعندل على طبلة أذنه المترهلة أناشيد صبابةِ الصِّبَا الذي عنه ولى، وأقسم ألا يعود. و”شيخات” لم يترك في هن الدهر للعطار ما قد يصلحه، أو للطبيب ما قد يعيد صياغته من جديد، بدون اللجوء لنفخ الشفاه والصدور بالسيلكون، أو شفط الفائض من الدهون المحيطة بالخصور والبطون، و تكرار عمليات التجميل والجدب والربط المزورة لخلق الله، باختصار؛ ورش كبير للهدم والترميم، والشذب والتقليم، كي يصطدن من يؤنسهن قبل أن يأخذهن عزرائيل “إن شاء الله”. وفي الطرف الآخر شبان سباع، يستعرضون عضلات كالتي كانت ل “شوارزينغير” (ولم تعد)، شعورهم مذهونة ب “gel” وسراويلهم من نوع “jeans”، وقميص الصدر مفتوح للريح كي يداعب زغب فحولة الغرام (يا سلام)؛ في انتظار من قد تعفيهم ركوب مغامرات قوارب الموت ( أيّاَ كان دينها)، المهم أن تخرجهم من قبو عطالتهم البهيم. وشبان من نوع ثان من خلال “الفايس بوك” أشعلوا الثورات، وأطاحوا بالدكتاتوريات العتيدة في رمشة “شات”. وشابات كاللائي وصفتهن طرته؛ يقتدين بابن خلدون ويقدمن هن الأخريات مقدماتهن، ويستأخرن ما وراء ظهورهن، ويبرزن شفاههن كأنها ملفوحة بالفلفل الحار، ويسبلن عيونهن مغريات بالفحشاء، ويتركن منافذ لرياح مفاتنهن وهن في وضعيات “إستربتيزية” ابتغاء التباهي بلحم سيأكله الدود لا محالة؛ لإثارة وملء العيون الفارغة، وجلب أكبر عدد من المعجبين بل والمعجبات أيضا! إلى صفحاتهن للإيقاع بواحد من عرسان غفلة “الفايس بوك”. أما من لا حسن لهم ؛ نساء عازبات كن أم محصنات ورجالا متزوجون أو غير… فيستعيرون من المشاهير وجوهها، ويعوِّلون على العشرة الطويلة مع محاوريهم على “الشات”، لاعتقادهم الراسخ أن العشرة أدوم من القشرة وأصلح من هيأة فانية، بل قد تأتي بما لا يحلم به الشخص وإن كان جماله ” top model “.
“الفايس بوك” مؤثث بفسيفساء من البشر المفتوح على كل الاحتمالات الممكن حدوثها في سياق الاختيارات المعروضة، عدا مثقفون ومثقفات استخدموه للمزيد من التواصل لتأصيل فكر لمناهضة فكر آخر، والكل يجري في نقاشات أصيلة ورزينة. و”متثاقفون” ذووا شهادات عالية؛ في مزاولة اللغة الراقية من قبيل: “لا فض فوك”، “دمت بهية” “مبدعة أنت، ما أجملك!”، “فتحت لنا الشهية ما أمتعك !” وكل الكلام ذي النبرة العاطفية، والمزكوم بالمجاملات الحلوة الندية، المفتوحة على كل الخيارات المفرحة منها أوالمخزية”.
هكذا تكلم “زارادوشت” (لقب صديقي مصطفى) وأردف قائلا:
– “تصور يا أخي! أني فتحت حسابا ب “الفايس بوك” وأنا: ما تعاف، وغير وسيم كما تعرف؛ للجميع أرسلت طلبات الصداقة، لا أحد وافق عليها. كشفت رقم هاتفي للعموم؛ ما رن لي شخص رنة ولو عن طريق الخطأ. انتقيت أجود ألفاظي، دهنت فمي بالسمن والعسل وعلقت على صور الجميلات ومجهولات الهويات، بعدما رششته بأجود عطور الأوصاف الجميلة، كتبت شعرا ما أطرب، نشرت أفكارا ما همت أحدا، على صفحتي نشرت قصصا ما لقيت مددا، على جداري حملت كل أغاني” top one” ما علق أحد ولو ب “j aime” ولا حتى فتح الأغاني أصلا.
– استعرت اسما وصورة لإحدى الفنانات الفاتنات، وعرضتها في صفحة حسابي الجديد، فإذا بجيوش عرمرم من الرجال من مختلف الأقطار والأعمار؛ على صفحتي تقاطرت طالبة راغبة في الحصول على صداقتي، حتى أني غرقت في بحر “الإيمايلات” المفعمة بالكلام المعسول؛ إذ قبلت صداقة الجميع، وغمرتني التعاليق على كل ما أنشره من كلام تافه، أو على ما أُحمله من أغاني؛ وإن كانت لا تمت للفن بأية قرابة أو جوار، إن قلت:
– “إن الأرض تدور…”.
ردوا:
– “يا لروعة الاكتشاف…”.
وإن أخبرت بميلاد عزيز، كبروا وباركوا ، هللوا وزغردوا، وإن تعلق الأمر بوفاة قريب، نعوه بمرثيات طويلة، وكالخنسساء نوحوا كثيرا.
من نافذة “الشات” أطل أحد الشيوخ؛ من أنصار النسيب والتشبيب، وكلام الغزل المغرض والغرام المفرط، سحرت إذ قرأته، بل كدت أنسى أني رجل بوجه الحطيئة وقت هجوه لخلقته:
– ” ذوقك في الاختيار يا آنسة، جعل صفحتك لي ملاذا وموطنا، فهلا منحتني أوراق الإقامة فيك؟ وجنسية لا تدين إلا بك أميرة الروح وملكة “الفايس بوك”؟؛ فكل ما تنشرينه سيدتي أحفظه عن صدر قلب، ويؤكد أنك الأجمل وأبعد من صورة الفنانة بألف فرسخ، فهلا حاورتني كي – في صفحتك – أترسخ ؟.
رقنت له:
– ” lol” ما أجمل ما تقول! .
بسرعة المتمرس على التعامل مع مفتاح الحاسوب (وأظنه كان محمولا) رد:
– كم هو جميل صوتك!.
– ههههههههههههههههه.
– يا لسحر البدر الضحوك!.
– وهل سمعتني من خلال المكتوب!؟.
رقن:
– بل إن بسمتك اخترقت أوصالي، وزلزلت مشاعري، وقطعت جميع الأوصالِ. فهلا شرفتني برقم هاتفك النقالِ؟.
تركته ينتظر جوابي، ورحت إلى المطبخ لأعد عشائي، بل تناولته على أقل من مهل؛ وأنا – كما لا تعلم – ثقيل جدا في ما يتعلق بشؤون الطبخ والأكل، ربما استغرقت في تهيئة ذاك العشاء وتناوله ساعتين ونيف، دون احتساب الوقت الذي قضيته في إعداد الشاي، شربه وتدخين سيجارتين وعيادة المرحاض مرتين. لكني لما عدت للحاسوب؛ لم أرمق أحدا على صفحة شخصيتي الحقيقية، أما على المستعارة “يا لطيف!” تقاطر عليها رجال من كل حدب وكبث؛ كتبوا حرمانهم المعتق، ورفعوا أيديهم عن مفتاح الحاسوب يتلهفون لسماع ردي، وكان منهم ذاك الشيخ الذي ينتظر مني أن أرجع له صباه، وقد كتب ما لم يعد جسمه النحيل قادرا على تحمله:
– سأنتظر رقم هاتفك ساهرا غاية الصبح…
يا قمري بل وشمسي أيضا…
سأنفق عمري كله كي أنال رضاك…
له رقنت :
– كم عمرك؟.
هو الآخر رد راقنا:
– في عقدي الخامس، لكني عدت بعمر شاب لما حاورتك، فهات رقمك إن كنت قد أعفيتني السهر، رحماك! حقيقي لي هذا الأمل، فالغد يا منى الروح يوم عمل!.
– وما عملك؟
– أنا صاحب أملاك عظيمة، غير خاضعة لأية ضريبة و…
كتبت له رقمي وأخبرته أن هاتفي غير معبأ.
قبل رده توصلت ب “ميساج” بتعبئة من عنده؛ لم أحلم بها، ولم تزر هاتفي المحمول منذ أن اشتريته من سوق “الخردة”.
شكرته على صنيعه، رقن حنانه وقطر ما تبقى من فيه عسلا:
– أنا أعشقك إذن أنا كلي لك…
– كلك على بعضك ذوق…
سأظل متيما بهواك…
من أية أصناف البشر يا حلوتي اصطفيت؟.
كتبت له:
– صنفي ذكر، واسمي مصطفى.
هههههههههههههههههههه…
أغلق نافذة الحوار، محا اسمي من قائمة الأصدقاء، بل لعله قد أطفأ الحاسوب إلى الأبد”.