الـ ( ببيشا..) !
كان شتاءً ماطراً يتسابق وبرَد الكانونين..
كذلك أبي يقسو لكن بقسوة حبات – البَرَد – المرتطمة بواجهة زجاج السيارات، ترتدُّ بموسيقى تشابه نوطة حركات مفاتيح البيانو لشوبان .. في متابعته لي، كان حريصاً على أن أتفوّق في دراستي .. فترة المراهقة من الحساسية تحتاج الى عين تراقب الأبناء، تتابعهم باهتمام.
في احدى المرات وجدني متغيبا عن دوامي في مدرستي المتوسطة رفقة بعض الاصدقاء نتأمل مانشيتات احد افلام (أم الهند ) في معرض واجهة السينما القريبة لمدرستنا في لواء الديوانية.. لم أفق الّا ودراجة والدي تحاصرني في باب السينما، حاولت التملص من محاصرته فركضت هلعاُ ورعبٌ ينتابني لا ألوي على شيء حتى قفزت ساقية صادفتني خلت اني نفذت بجلدى وسيتعذر عليه اللحاق بي، واذا بالدراجة المقذوفة تعبر الساقية كنمر ورقي لتجثم على ظهري فتلقي بي أرضا!
كان اغلب الآباء يحتفلون ، يتنادمون زمن توفّر أرقى أنواع عرق المستكي.. فالجو العام لستينيات القرن الماضي تجاوز مثل هذه السفاسف التي تُعد اليوم على ايدي اصحاب السلاح المنفلت من جلل الأمور، إذ غالبا ما يصادرون ” المُنْكر” ، ثم يتبركون ببيعه على من شحّت عليهم منافذ بيعه وبالثمن إياه.. يبدو ان القوانين غدت مطاطة تتغاضى عن تفجير محلات بيع المشروبات الروحية وتحاسب من يحوز على بعضها عند السيطرات – المقدسة -!.
كان والدي يعود رفقة احد صحبه سكرانا بالتمام والكمال. وما أن يحط في عشّته حتى يبدأ عتاب الوالدة التي يحبها وتهواه. هي الملتزمة بالصلاة والتي جاهدت حتى جعلت منه تقيّاً ورعاً فتخلى عن معاقرته للخمرة وصار يصلي ويشارك القوم مناسباتهم الدينية ويطالع على ضوء القمر ليُسْمِع حبيبته أولاً بأول – سيف بن ذي يزن – و – فتاة غسان – وعروس فرغانة والزير سالم وعنترة بن شداد.
من نافلة القول، وبعد تخرجي وتعييني كمدرس خفف والدي من تشدده وخصوصا حين وعى توجهي اليساري- هو سائق قطار طوروس من ثم سائق الكاشفة البخارية / الطرزينة وعامل فحص السكك الحديد في زمن كان يٌحظر على اليسار من ممارسة حرية التعبير أو حق التظاهر.
حين تابع كثرة ضغوطات ازلام حزب السلطة للتضييق على ولده البِكْر ، صار يتعاطف معي بل صار يفتخر ان ابنه قد عرف كيف يختار طريقه دون اطماع فردية وان كان خَطرا على حياته وحياة العائلة للغاية.
في عصارى ذلك الشتاء من أعياد الميلاد منح الأب الملتزم بأمور حياته الدينية ، ابنه زجاجة ويسكي! وكم كانت دهشة الأبن ” الضال” تجاه هدية الأب لولده وصديقه!
اشتدت الريح على عنفوانها فيما هرعت الغيوم تتلاطم وصار بَرَدُ السماء ينزل بشكل زخات زخات. فرصة جميلة حقا وأنا امسك بكأسي الفارغة عاليا لأجمع بداخلها بضع كرات من حالوب راح ينتشر على بساط نجيل الحديقة وتحت عيون النخيل الدهِشَة. النخلة التي تعرّفت على من يكرم تيجانها الغضّة باللقاح تلمُّ سعفاتها لتحميني من ضربات ( الحالوب) المتقافز!
وسط الحديقة وبساطة الحياة وعفويتها اكتمل كأسي بالحالوب وتراقص سائل الويسكي بين ثنايا حبات الحالوب.. و( ببيشا) – هكذا كنت أدلعه – يتأملني من خلف زجاج النافذة . اضحك من الأعماق واشيره صوب السماء غامزا فيما بلل المطر يدغدغني بقطراته الثقال، فيستدرك اشارتي – هو من يبعث لي مزّتي من الحالوب .. – !!
تتسعُ ابتسامةُ أبي الجميلة وتتخاتل أمّي كمن يحتمي بظهر ابي .. يثني عليّ او ربما لسان حاله يهمس :
ما أروع أن نعيش الحياة دون تعقيد ..
ألا تبّاً لمن يظن أنه أفضل منّا فيما نستنشق بعمق عبق الشتاء!
ويبقى سؤالي عالقاً : هل التقيت بوالدتي التي تحبّك يا أبي؟ وهل تذوقتما خمور انهارها الموعودة .. فأنا أصلّي بالكلمات البسيطة البريئة عَلّي أتلمّس جرف ذلك النهر، أنا لا أرغب بالحوريات ولا فاكهتها الدانية القطاف ولا بمتكأ السرائر .. ربما احتاج إلى ورقة موز تكرمني باحتضان حفنة من خمره.. وأخرى لحبيبتي التي افتقدها منذ ان سرقتها دهشة التسوّق بالمجان هناك..
انما ساوصي بضم بعض بذور شجرة نارنج حديقتنا يودُعها خادم – المغتسل – باطن كفي، اذا ما رحلت بعد عمر يزيد على المائة ، كي ازرعها رفقة الليمون والرمان ..
هل ما تزال تلكم الانهار هناك يا أبي أم أخضعت هي الأخرى لسيطرة ميليشيات جماعته وربعه ونصّه وزعانفه وبقاياه !؟