الـيـَمـيـن الفاشي في أوروبـا
الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين
الفاشية، كوباء اجتماعي خطير، لم يزل بزوال الأنظمة الفاشية في ألمانيا وإيطاليا، بل بقيت جذورها (التي لم تستأصل أصلاً) تستمد الحياة والاستمرار من تربة الأزمات التي تجتاح المجتمعات الأوروبية.
وتشير كل الدلائل إلى أن خطر انبعاث الفاشية ما زال قائماً حتى الآن. يؤكد هذا بروز أحزاب واسعة الانتشار يمارس أعضاؤها نفس أساليب الفاشية التقليدية، ولو بلون جديد. فهم يتحدثون عن الديموقراطية، ولكنهم لا يتورعون عن شن حملات القتل والقمع والإرهاب ضد العناصر التقدمية والديموقراطية. وهم، في بعض الدول، يمارسون اللعبة البرلمانية، ومع ذلك يتهمون المؤسسة البرلمانية (وغيرها)، بالعفوية والعجز، ويدعون للقضاء عليها. وهم ينادون بالعدالة الاجتماعية، ولكنهم يقيمون أقـوى التحالفات مع الاحتكارات الضخمة التي تلتهم فكرة المساواة الاجتماعية، ويعادون الأحزاب التي تناضل من أجل مجتمع أكثر عدالة. وأخيراً، فهم يقولون باستقلال بلادهم (ألمانيا الاتحادية)، ولكنهم يتبعون سياسة مُغرقة في العنصرية والتعصب إزاء القوميات والشعوب الأخرى، وحتى الشعوب الأوروبية نفسها.
وهذا المقال لن يعالج قضايا تاريخ الفاشية وأسباب ظهورها؛ وإنما يحاول الإجابة على سؤالين رئيسيين:
الأول: من المعروف أن الفاشية، في ألمانيا وإيطاليا، لم تُحطم بواسطة ثورة داخلية، أو انقلاب، أو حركة جماهيرية، وإنما انهارت بفعل عوامل خارجية. والسؤال المطروح هو: لماذا عمّرت الأنظمة الفاشية التقليدية هذه الفترة الطويلة من الزمن؟ وما سُّر ذلك؟.
الثاني: ما هي أسباب النجاحات التي تحققها الفاشية الجديدة، على الرغم من المجازر والمآسي التي ارتكبتها الحركة الأم (الفاشية) بحق الشعوب والأفراد؟.
في معرض الإجابة على السؤال الأول، لا بد من التأكيد على أن فترة ظهور الفاشية قد توافقت، زمنياً، مع مرحلة الأزمات الاقتصادية الاجتماعية الحادّة، التي ألمت بالعالم الغربي في العشرينات. وبفضل ظروف اجتماعية وتاريخية، برزت الفاشية على المسرح السياسي كقوة وحيدة مؤهلة للخروج من الأزمة وإنقاذ النظام الاجتماعي القائم، وليس تغييره وهذه نقطة مهمة، لأن الأنظمة الفاشية لم تقضِ على الأسس الاقتصادية للنظام القائم. جُلّ ما فعلته هو إنها غيّرت شكل الحكم من ديموقراطية غربية إلى ديكتاتورية عاتية متسلطة؛ بهدف ضمان هيمنة أكثر الفئات الاحتكارية رجعـية. ومع ذلك، فالدكتاتورية الفاشية هي نظام حكم استغلالي من نمط جديد، فهي:
أولا: إرهابية؛ لأن الفاشيين سعوا، منذ البداية، لتأسيس جهاز حكم قاس يعمل على مبدأ الطاعة العمياء. وقد مارس النازيون أسلوب التصفية الجسدية الشاملة بهدف القضاء على معارضيهم السياسيين. ففي ألمانيا وحدها، ابتلعت “مصانع الموت” عشرة ملايين شخص، ومثل هذا تكرر في إيطاليا، ولو بصورة أقل . وقد أدت هذه الممارسات إلى إبادة قوى سياسية بأكملها، سواء عن طريق القتل أو التهجير.
ثانياً: جماهيرية؛ فالحركات الفاشية سعت لخلق قاعدة واسعة لها بين الجماهير. وتم هذا عن طريق تملّق الشعور بالسخط لدى الفلاحين، الذين اضطروا للهجرة إلى المدينة، ولكنهم بقوا فريسة للجوع والخوف من المستقبل. والأحزاب الفاشية أوهمت صغار التجار والحرفيين ومالكي المصانع الصغيرة بقدرتها على رفع خطر الاحتكارات الذي يتهدد وجودهم، حتى أن زعيم الفاشية الإيطالية، بنيتو موسوليني ، كان، حتى بداية الحرب العالمية الأولى، أحد القادة الاشتراكيين. إلا أن الحزب الاشتراكي فصله بعد فترة. كل هذه المظاهر خلقت انطباعاً بأن الفاشية واحدة من الحركات الجماهيرية التي تدافع عن مصالح الفئات المتوسطة وحتى المسحوقة.
ثالثاً: أيديولوجية، فقد اهتم الفاشيون، بشكل جدي، بالعمل الأيديولوجي. وذلك من أجل زيادة تأثيرهم على الجماهير وتخريب وعيها، حيث لجئوا إلى أسلوب “التربية الأيديولوجية” بروح الفاشية والتفوّق العنصري.
ومن أجل تعميم هذه التربية طوّرت النظم الفاشية أساليب وأجهزة الدعاية. كما لجأ رجال الدعاية الفاشية إلى سرقة الشعارات من مختلف الأحزاب اليمينية واليسارية على حد سواء. وكان القصد من وراء ذلك إيجاد مجموعات مؤيدة لهم، بين الجماهير وفي صفوف الفئات الحاكمة.
نعود، الآن، إلى الحديث عن أسباب النجاح الذي حققته الحركات الفاشية الجديدة، و خاصة في الدول الأوروبية. ويمكن إرجاع ذلك إلى العوامل التالية:
1 – العامل الاقتصادي: الأزمات الاقتصادية المتكررة التي حلّت بالدول الغربية؛ وخاصة في الستينات، عمقت التناقضات الاجتماعية بين الجماهير الكادحة وأصحاب رؤوس الأموال. هذا الوضع أدى إلى بروز ظاهرتين:
الأولى، زيادة شعبية الأحزاب الشيوعية والاشتراكية (وخاصة في فرنسا وإيطاليا).
الثانية؛ تزايد نفوذ الأحزاب الفاشية الجديدة التي تطرح المخرج الرجعي للتخلص من الأزمة. وهذا الحل يعني القضاء على الحكومات “العـفـنـة” والأحزاب البرجوازية، وخلق “دولة قوية” قادرة على التصدي لهذه الأزمة.
وليس ثمة شك في أن أغلبية الأحزاب المحافظة تحبذ الحل الثاني، إذا ما وجدت نفسها أمام حتمية التغيير الثوري. وهذا أمر يجعل خطر انبعاث الفاشية قائماً.
كما طغت على السطح مشاكل الشباب: الظلم في نظام التعليم، تمزّق العلاقات الاجتماعية، الفراغ الفكري، ووطأة الهموم اليومية. في البداية، عبّر الشباب عن احتجاجهم على ذلك، برفض الواقع والهروب منه واتخاذ مواقف سلبية إزاء ما يجري من أحداث. ولكن هذه الموجة انحسرت في أواخر الستينات، عندما انفجرت اضطرابات الطلبة في فرنسا ( ما يعرف بـ “ثورة أيار 1968، ومن زعمـائها البارزين كوهين بـنديت ، التي هـددت حكم الجنرال شـارل ديغول الذي فكر “باللجوء الى القوات الفرنسية المرابطة في المانيا”،. وبدأ الشباب، في الدول الأخرى، يعبرون عن سخطهم من خلال الانتظام في صفوف الأحزاب السياسية المعارضة للنظام القائم، سواء الشيوعية أو الاشتراكية أو الأحزاب الفاشية الجدية.
2 – العامل التاريخي: بعد القضاء على الأنظمة الفاشية في ألمانيا وإيطاليا، بقي العديد من أنصار هذه الأنظمة على قيد الحياة. ولم تمضِ فترة طويلة حتى عاد هؤلاء إلى نشاطهم، وباشروا تأسيس حركات، استطاعت خلال فترة زمنية قصيرة، أن تتحول إلى قوة سياسية متـنـفـذة.
3 – العامل السياسي: لا بد من الإشارة إلى أن سياسة التهاون، التي اتبعتها الحكومات الغربية في علاقاتها مع القوى الفاشية، لعبت دوراً كبيراً في بروز هذه المنظمات ونموها. ففي العديد من الدول تّم إلغاء القانون القائل بمنع الأشخاص ذوي الماضي الفاشي من شغل أي منصب، وكانت النتيجة أن الكثيرين من أولئك الذين شغلوا مراكز حساسة أيام هتلر وموسوليني عادوا إلى تقـلد مناصب سياسية لا تقل أهمية.
وبالإضافة إلى ذلك، عقدت بعض الأوساط العسكرية الغربية تحالفات سّرية مع المنظمات الفاشية. وذلك بهدف تصفية القوى التقدمية، وممارسة الإرهاب ضد الأحزاب الديمقراطية. وهذا عامل رئيس ساهم في تقوية وجود الفاشية الجديدة.
4 – العامل المعنوي: ويكمن في حالة التمزق النفسي والروحي التي نتجت عن التطبيق السَّيء لمنجزات الثورة العلمية التقنية. يضاف إلى هذا، أزمة القيم التي تجلت في بروز مفهوم “المجتمع الاستهلاكي”. هذا الوضع جعل أناسا كثيرين – وخاصة الشباب- يشعرون بغربة حقيقية عن المجتمع، وحتى بانسلاخ مادي وأخلاقي عنه. ولا شك في أن الفرد، الذي وصل مرحلة فقدان الشعور بالانتماء للمجتمع، وضياع الثقة بكل ما يحيطه من قيم، سيكون فريسة سهلة للفاشية الجديدة التي ترفع شعارات برّاقة المظهر عن العدالة الاجتماعية والانتقام من أجهزة السلطة…
هذه بعض العوامل الرئيسية التي جعلت الفاشية الجديدة قوة لها وزنها السياسي والجماهيري في المجتمعات الأوروبية.
الفاشية الجديدة في ألمانيا الاتحادية
ما كادت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، حتى ارتفعت أصوات أصحاب رؤوس الأموال والموظفين النازيين تطالب بإعادة ممتلكاتهم ووظائفهم. وسرعان ما ظهرت إلى الوجود حركات نازية مثل “الحزب المحافظ” و “الحزب الألماني الامبراطوري” و”الحزب الاشتراكي الراديكالي”، و”اتحاد البناء الاقتصادي”، التي تبنت مطالب النازيين القدامى، واستطاعت فرضها على سلطات الاحتلال .
ومنذ ذلك التاريخ، أخذ نفوذ هذه الحركات بالنمو المستمر، وزاد عدد أعضائها بشكل ملحوظ، ولا بد من الإشارة إلى أن العمليات التي قامت بها القوات الغربية ضد أنصار الفاشية، فيما بعد، كان الهدف منها تمهيد الطريق لإعادة تسليح ألمانيا الاتحادية. إلا أن تزايد خطر “النازية الجديدة”، قد وضع أنصار التسلح في وضع مربك. فكان لا بد من الحد من انتشار الفاشية الجديدة للمضي قدماً في تنفيذ مخطط الدول الغربية القائم على تحويل ألمانيا الاتحادية إلى قلعة للنضال ضد دول المعسكر الاشتراكي.
ومنذ تلك الفترة بدأت موجة الفاشية بالتلاشي، لكنها عادت إلى المسرح السياسي في ألمانيا في أواسط الستينات. وكانت هذه المرَّة، أكثر فعاليّة وتصميماً على انتزاع مواضع لها. وقاد نشاط هذه القوى “الحزب الديمقراطي الوطني” الذي تأسس في كانون الثاني “يناير” عام 1964. والحزب الفاشي الجديد يرتبط بشكل وثيق مع الاحتـكارات الصناعية في ألمانيا. ومن المعروف أن هذه الشركات تقوم بتمويل حملات الحزب الانتخابية ومصروفاته التي بلغت عام 2019، ما يزيد على 40 مليون يورو. كما أن أقطاب الصناعية الألمانية يشغلون مراكز قيادية في هذا الحزب.
الفاشية الجديدة في إيطاليا
على الرغم من النفوذ المتزايد الذي تتمتع به القوى التقدمية في إيطاليا، ونجاحاتها الكبيرة في الانتخابات النيابية الأخيرة، إلا أن العناصر الفاشية استطاعت إيجاد كيان قوي لها. فشعار “فيفا موسوليني” (يحيا موسوليني) لازال يسمع حتى في قلب العاصمة الإيطالية. وقبر “الدوتشي” الموجود في الشمال الشرقي من إيطاليا، يؤمّه الفاشيون الجدد. والحركة الفاشية الجديدة في إيطاليا، ممثلة في أحزاب مختلفة أهمها “الحركة الاجتماعية الإيطالية” وتضم هذه الحركة اتجاهات سياسية مختلفة يمكن إجمالها في تيارين:
الجناح الكلاسيكي: ويشمل أنصار موسوليني والعناصر المحافظة التي تنادي بممارسة الإرهاب ضد القوى الديموقراطية. وهذا الجناح يلقى معارضة شديدة من جانب الرأي العام الإيطالي الذي عانى من الدكتاتورية الفاشية. ولهذا، ظهر الجناح الآخر، وهو الجناح الليبرالي في الحركة، الذي يرفض العنف، ويدعو لاستخدام العمل السياسي المنظمّ للوصول إلى السلطة.
في الانتخابات الاخيرة ، حصلت “الحركة الاجتماعية الإيطالية” على 9% من مجموع الأصوات، وقد استطاعت الحركات الفاشية الجديدة التسلل حتى إلى الدول التي دخلت الحرب ضد ألمانيا وإيطاليا، إلا أن نفوذ هذه الحركات ضعيف نسبياً، وذلك لسببين:
قوة الحركة التقدمية التي منعت بتحالفها انبعاث الفاشية (كما حدث في فرنسا).
توطد النظام البرلماني والتقاليد الديموقراطية التي تمجّ اللجوء إلى العنف، والشكل الديكتاتوري للحكم (بريطانيا).
ومع هذا، فقد ظهرت في بريطانيا بعيد الحرب 185 منظمة إرهابية فاشية أسست “الحركة التحالفية”. وتزعم هذه الحركة الدكتور أوزوالد موسلي، الذي كان، قبل الحرب العالمية الثانية، أكبر شخصية فاشية خارج ألمانيا وإيطاليا.
وظهرت كذلك “الحركة الوطنية الاشتراكية”، التي يتزعمها كولين جوردان. وتجدر الإشارة إلى أن الحركة الفاشية أنشط نسبياً في فرنسا، حيث لها جذور عريقة. وكانت “منظمة الجيش السري” (التي بدأت نشاطها عام 1961) من أهم الحركات ذات الطبيعة الفاشية في فرنسا، إضافة لكونها وقفت بقوة ضد استقلال الجزائر. وتشير المراجع إلى أن “منظمة الجيش السري” كانت تضم مائة ألف مسلح، وعشرين ألف عميل، وثلاثة آلاف من خبراء التخريب. وعلى الرغم من أن هذه المنظمة لم تكن ممثلة رسمياً في “الجمعية الوطنية” الفرنسية، إلا أنها استطاعت إيجاد كتلة مؤيدة لها قوامها 90 نائباً.
في ذلك الوقت ظهر خطر انقلاب فاشي في البلاد، ولكن هذا لم يحدث لوجود “الحركة الديغولية” التي تمتعت بمواقع قوية في صفوف اليمين الفرنسي، ولمقاومة اليسار الفرنسي. وبعد انقراض “منظمة الجيش السري”، ظهرت حركات فاشية جديدة كـ “حركة الانبعاث الوطني” و”الكتائب الفرنسية”. ولكنها جميعها لم تستطع كسب تأييد جماهيري. وعلى الرغم من أن هذه الحركات تنفي أية علاقة لها بالفاشية، إلا أن هذا يتم بهدف الوصول إلى مواقع قوية، وتجنب الاصطدام بالرأي العام الفرنسي المناهض للفاشية، وخاصة في أوساط المجموعات اليسارية.
وبـعــد ؛
إن الفاشية التي سببت الكثير من المآسي والكوارث،
لا تستطيع اليوم إبراز وجهها البشع.
ولذا ترتدي أقنعة مختلفة، وتطرح شعارات سياسية لا تؤمن بها أحياناً.
وعلى الرغم من هذه الأساليب الملتوية التي تلجأ إليها الفاشية الجديدة،
إلا أنها عاجزة عن إخفاء جوهرها العنصري والمعادي لكل القيم الإنسانية،
وسيظل مكانها – كما كان دائماً- في مزبلة التاريخ.