“الـمـَسْـلـَخ الـبـَشـَـري…!!”
الـدكـتـور عـبـد الـقـادر حـسـين يـاسـين
تـقـرير “منظمة العـفو الدولية“Amnesty International ،
الذي صدر في الأسـبـوع المـاضي بعـنوان “عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا“، أثار ردود أفعال واسعة، بالنظر إلى ما يوثقه من الأهـوال والفـظائع داخل سجن واحد.
وكان جديراً بالانتباه أنّ الاهتمام بهـذه الوثيقة إقـتـصر، عـملياً،
على وسائل الإعلام المختلفة، ووسائط التواصل الاجتماعي،
وبعـض التعـليقات الدولية غير الرسمية.
أمّا على صـعـيـد الحكومات، فإنّ وقائع “المسلخ البشري“ الرهـيبة،
قوبلت بصمت مطبق، أو يكاد؛ولم يكن العكس ،
أي الشجب والإدانة، في الحدود الدنيا ، منتظَراً، في كلّ حال.
ذلك لأنّ هذا التقرير ليس الأوّل من نوعه،
رغم أنه هـذه المرّة يأتي على تفاصيل أشدّ وحشية؛
إذْ سبق للمنظمة ذاتها أن أصدرت الـعـديد من الـتقارير،
حول سجون النظام السوري ومعـتـقـلاته، كما وثّـقـت تقـنيات التعـذيب،
وسجّـلت شهادات شخصية لمعتقلين سابقين،
ورسمت خرائط مفصّلة لمواقع التعذيب وأسماء الفروع الأمنية؛
بل ورصدت أسماء بعض الضباط الذين أشرفوا على ارتكاب جرائم حرب ،
أو مارسوها بأنفسهم أيضاً.
كذلك أصدرت عشرات البيانات التضامنية مع معتقلي الرأي والضمير،
وأطلقت حملات عديدة تميط اللثام عن، وتفضح،
أعمال عـنف محددة، وتصفيات جسدية، ومجازر جماعية.
منظمة أخرى بارزة، هي Human Rights Watch ،
أصدرت في العـام الماضي تقريرها الشهير ،
“لو تكلم الموتى: الوفيات الجماعـية والتعـذيب في المعـتقلات السورية“؛
والذي تابع مقتل الآلاف في معتقلات الفروع الأمنية وأقبية المخابرات.
سيمر تقرير منظمة العـفـو الدولية عن “المسلخ البشري“،
حالياً على الأقل، مثلما مرَّت قبله عـشـرات الـتـقـارير،
التي أصـدرتـهـا المـنـظـمـة نـفـسـهـا في الأعـوام الـقـليـلـة المـاضـيـة.
ربما يـُعـبـر الأمـيـن العـام للأمـم المتحدة عن قـلقه الشهير،
وربـمـا نـقـرأ بعـض تصريحات الاستنكار من “المجتمع الدولي”.
فهذا هو “سقـف” قـيم هذا المجتمع الغارق في هـواجسه،
بشأن “الإرهاب” واللاجئين والانتخابات ،
التي تأتي باليمين المتطرف إلى بعـض دوله،
من غير أن يتساءل عن أسباب هذه الظواهر ومسببيها.
يـُشكل سجن صيدنايا الذي يتناوله الـتقرير امتداداً لتقليد سجن تدمر الصحراوي،
سواء من حيث معاملة المحتجزين أو مصائرهم.
فقد أشـار وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، في مذكراته،
إلى المحاكم الميدانية التي كان يصادق على قرارات الإعـدام الصادرة عـنها،
“بالعـشرات كل أسبوع” في تلك الحقبة السوداء من تاريخ سوريا.
وفي وسع المرء الإشـارة إلى الغالبية الساحقة من الـدول الغربية،
من الولايات الـمـتحـدة إلى بريـطـانيـا وفـرنـسـا وألـمـانـيـا وإيـطـاليـا.
كلها فـضّلـت التعامل مع “الشيطان الذي تـعرفـه“،
خادم مصالحها الأمين، الطيّع التابع الخنوع؛
ولتذهـب، إلى الجحيم، تقارير منظمات حقوق الإنسان،
وحـشرجات سجناء الرأي.
لقد أسمعـتْ لو أنها نادت الأحياء من قادة الديموقراطيات،
رافعي ألوية حقوق الإنسان!
الحديث عن حقوق الإنسان حديث دائم ومستمر،
بسبب تصاعد الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان العربي،
وأثرها السلبي في الاستقرار السياسي والاجتماعي والحضاري…
إنه حديث عن المبادئ والأطر التي تحفظ حياة الإنسان،
وتصون كرامته وتحترم آدميته ،
وتفتح له الطريق للإبداع الخلاق ،
وتدفعه للنضج والتقدم.
إنه حديث عن العـدالة الاجتماعية ،
التي هي الأساس والضامن لتلك الحقوق…
فبإهدار هذه الحقوق يمسي الإنسان مهاناً ،
تتكبل كل طاقات الخلق والإبداع لديه …
والمشكلة تكمن في فرضية أولية أساسية،
تغـيـيـبـها يبيح هذه الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان،
هذه الفرضية والنظرة الأساسية ،
تنبع من مدى الإعـتراف المبدئي بإنسانية المخلوق البشري .
فهذا الإعـتراف هو المدخل لاحترام حقوق الإنسان،
وبغيره تهون الحقوق الإنسانية لهذا المخلوق الراقي.
وموقف الدول والأفـراد من هذا الاعـتراف،
هو الذي يحدد توجهاتها وممارساتها بشأن احترام حقوق مواطنيها…
وليست هذه مشكلة فـلسفيـة ،
وإنما في عمق أسباب انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي والحاضر،
وقد أدركت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك إدراكا جيدا،
عـند إعـداد وإصدار “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان“،
في العـاشـر مـن كـانـون الأول 1948 ،
إذ اشترطت في ديباجة الإعلان أول شرط لكفالة حقوق الإنسان وهو
“الاعتراف للمخلوق البشري بصفة الإنسان ،
بصرف النظر عن جنسه،لونه، دينه ومعتقده …”
وبالرغم من ذلك فقد ضجر العالم من ممارسات الدول،
التي لا زالت تحكمها أنظمة فردية وسلطوية وعسكرية،
تغالي في ممارسة القمع والعنف ضد مواطنيها.
هل هذه الدول تجهل أن للإنسان مجموعة من الحقوق الملزمة،
التي لا تقبل المصادرة أو التعطيل أو التأجيل بأي حجة من الحجج؟؟
إن لكل إنسان ،وتحت كافة الظروف العادية والاستثنائية والطارئة،
الحق في حياة حرة كريمة وآمنة،
وله الحق في التعبير عن آرائه وأفكاره ،
وله الحق في المشاركة في الحياة العامة،
وله الحق في عدم التعـرض للتعـذيب،
أو معاملته معاملة حاطة بالكرامة ،
هذه الحقوق كونية وأصيلة ،
وإهدارها هو انتهاك ومصادرة لكرامة الإنسان وإنسانيـتـه…
نحن بحاجة إلى نفض تلك الفكرة ،
المتمثلة في أن حقوق الإنسان هي مبادئ “مستوردة” ،
مفروضة من الثقافة الغربية الاستعمارية،
كآلية سيطرة وتدخل غير مباشر …
إنه ليس بالضرورة أن نشيد بالغرب ولا أن نعاديه،
فنحن دائما نبالغ في آرائنا وردود أفعالنا.
فكما ارتكب الغرب أبشع المجازر ضد الإنسانية،
تحت مبررات حمايتها من الضلال ،
قام أيضا بحركات سياسية واجتماعية ،
ساهمت بشكل لا ننكر تأثيره في تحرير الإنسان ،
وإذا كانت المصالح النفعـية المباشرة ،
غالبة في توجيه السياسة الخارجية للـدول،
فلا بد لنا أن نتوقف عن دور المشاهدة والاستجداء ،
بانتظار الدعم بكل أشكاله بما فيه الدعم الثقافي؟؟؟
ونحن بغنى عن ذكر تفاصيل ممارسات انتهاك حقوق الإنسان،
في الـعالم العربي، فيكفي أن نذكر دكتاتورية الحزب الواحد ،
وفتح المعتقلات متعـددة المواهب والتخصصات،
واضطهاد ليس فقط الرأي الآخر بل الرأي ذاته ،
فمن يعتقد أنه يمـتـلـك الحقيقة يرفض الحوار مع الآخر الجاهل الكافر!!
بل إنه لا يتحاور حتى مع ذويه من أصحاب نفس العقيدة أو نفس الحقيقة!!
والتفرقة القائمة على نبذ الآخر سرعان ما تنقلب إلى اضطهاد هذا الآخر…
ومن الواضح أنه لا توجد دكتاتورية أكثر كبتا من الدكتاتورية الدينية،
أيا كانت إسلامية، مسيحية، بوذية أو هـندوسية…
وهذا الاضطهاد للآخر أبعـد ما يكون عن احترام حقوق الإنسان،
لأنه يولد الخوف ، والخائف إنسان يهرب،يكذب، وينافق ،
وبالتالي هو فاقد لهويته مسلماً كان أم مسيحياً…
إن حرية الرأي والتعـبير ليست غاية في حد ذاتها،
بل هي وسيلة ومقدمة أساسية لتشكيل شخصية الإنسان اجتماعياً وسياسياً.
وهذه الحرية هي المدخل الأساسي لتكوين قناعة ذاتية،
باتجاه فكر أو آخر ،أو تصديق معلومات أو تكذيبها،
وهي أمر يتشكل داخل الإنسان باجتهاده الشخصي ،
للوصول للحقيقة وليس بعمليات غسيل المخ ،
لحقن يقينه الداخلي بقناعة متعسفة …
فمساحة الحرية في اعتناق الآراء مساحة تتمتع بخصوصية متميزة ،
وتعتبر من مطلقات الأمور الشخصية التي يجب ألاً تخضع،
لأي تدخل مخل من جانب السلطات والأفراد .
والفرد إذا كان حراً في إبداء رأيه ،
فإن ذلك من شأنه أن يوقظ في نفسه قدراته الإبداعية،
ويشعره بقيمته الذاتية وشخصيته المنفردة ،
مما يجعله قادراً على العطاء ومرحباً بتحمل المسؤولية.
فالإنسان الممتهن إنسان محبط عاجز عن العطاء،
وحرية الرأي تتطلب من المرء قبل أن يمارسها أن يفكر قبل أن ينطق،
وأن يكون على إطلاع بالموضوع قبل أن يجزم فيه برأي،
وأن يبحث ويتحرى الحقائق…
فتكوين الرأي مسؤولية وليس عملا عشوائيا،
فلا بد لأعمال الفكر للوصول إلى نتيجة تتسم بحد أدنى من المنطقية.
وقد جاء النص على حرية الرأي في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان“ ،
حيث نصت المادة 19 على أن “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير“
ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة،
وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين ،
بأية وسيلة ، ودونما اعتبار للحدود الجغرافية …
وترتبط حرية الرأي بحرية أخرى هي حرية التعبير ،
فهما وجهان لعملة واحدة .
في الدولة الأمنية التي لا تكتشف لذاتها خصوصية، سوى خصوصية الاستبداد،
وتفريخ الأوابد، وإنتاج ثقافة الخوف،
لا يملك المرء سوى أن يترحم على أبي العلاء الـمـعـري ،
الذي يذكر أولئك المتغطرسين أنصاف المتعلمين، أنصاف الأميين،
بأن “يخففوا الوطء..!”، فما أديم الأرض إلا من الأجساد البشرية،
التي وحـَّد الموت تراتبيتها في صف واحد،
وأن يترحم على الشـاعـر السـوري الراحـل نزار قباني القائل:
“حين يصير الناس في مدينة
ضفـادعاً مفقوءة العـيون،
فلا يثورون ولا يشكـون،
ولا يـُغـَنـّون ولا يبكـون،
ولا يموتون ولا يحـيون،
تحـترق الغابات، والأطفال والأزهار،
تحترق الثـمار،
ويصبح الإنسان في موطنه،
أذلّ من صرصار..!”