الـدكـتـور عـبـدالقادرحسين ياسين
تمثل الشخصية العربية إشكالية أساسية من إشكاليات الأدب العبري الحديث،
فالعربي يمثل “الآخر” في أقصى صوره السلبية،
وهي صورة “العـدو” الذي يجب قهره وإبادته إن أمكن،
وممارسة كل أشكال العنف والعـنصرية ضده.
نشأ داخل الأدب العبري الحديث ما يسمى بالمشكلة العربية ،
التي تشير إلى الوجود العربي التاريخي الأصيل،
وإلى المواطن الفلسطيني صاحب الأرض ،
الذي يجب على المجتمع الإسرائيلي الناشئ ،
إما التخلص منه في الزمان والمكان من خلال عملية تهويد فلسطين،
وإما من خلال عمليات الإبادة أو التعايش معه ،
وتحديد صورة هـذا التعايش في شكل علاقة التبعية المضيّعة للهوية.
يظهر كل هذا بجلاء في كتاب “العـربي في الأدب الإسـرائـيـلي” ،
الذي أصدرته جامعة إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية.
صـورة العـربي في قـرن
يتناول الكتاب بالشرح والتحليل صورة العربي في الأدب الإسرائيلي.
منذ بداية القرن العشرين ، حين كانت إسرائيل حلماً ،
يراود أفكار أساطين الصهيونية ، وحتى فترة الثمانينيات ،
مروراً بعام النكبة (1948)، حين أصبحت إسرائيل واقعاً أليماً ،
وخنجراً مغروساً في صدر الأمة العربية ، وكابوساً يجثم على أنفاسها،
وهو ما يساعـدنا على تفهم هذا الأدب وإدراك أبعاده ومضمونه وفحواه.
وهو بتناوله صورة العربي في الأدب العبري ،
طوال ما يقرب من قرن يلقي الضوء على هذه الصورة ،
بأشكالها المختلفة خصوصاً في مجالي القصة والرواية.
وقد عرض الكتاب منها شتى النماذج،
كما لخص الكثير من الأعمال الأدبية لمعظم الأدباء الإسرائيليين المؤثرين والمعروفين،
وكذلك لنخبة من الكتّاب الـفـلـسـطيـنـيـيـن الذين يكتبون بالعبرية.
غاصت مؤلفة الكتاب في أغـوار الذين تناولتهم وعرضت إنتاجهم ،
فكانت موفـقة غاية التوفيق ، خاصة فيما يتـعـلـق بأثر الخرافة والأسطورة ،
في تشكيل وجدان الأدب العبري الإسرائيلي ،
وهو ما أوضحته تفصيلاً في خاتمة الكتاب.
يسد الكتاب النقص الواضح في المكتبة العربية ،
في مجال الدراسات التي تتناول الأدب الإسرائيلي بالبحث والتمحيص،
وصورة العربي في هذا الأدب على وجه الخصوص.
وإعمالاً لمبدأ “اعـرف عـدوك” يحتاج القارئ العربي ،
إلى معرفة ما يعتمل في نفس الإسرائيلي وما يمور في عـقـله ووجدانه ،
من أفكار متضاربة وآراء مشوهة عن شخصية العـربي ،
وما يرسمه الأدب الإسرائيلي لها من صور واقعية أوخيالية.
ويتبع الكتاب المعالجة العلمية لعلاقة المشروع الصهيوني ،
بالوجود العربي التاريخي في فلسطين وتطورها في الأدب العبري،
منذ بداية المشروع الصهيوني وحتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين،
ترد في هذا الكتاب بصورة مؤصلة وجامعة للأعمال الأدبية العبرية،
التي تناولت العربي، مما يجعله أول مؤلف جامع لمراحل الأدب العبري،
في تعامله مع الوجود العربي ، وذلك على الرغم من أن المعالجة في هذا الكتاب،
تتسم بروح غربية صهيونية متحيّزة في فهم السياق التاريخي للصراع.
يـشتمل الكتاب على ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول عن الكتّاب الأوائل من بداية القرن ،
حتى مأساة عام 1948 ونشأة إسرائيل،
والجزء الثاني من كتّاب جيل عام 1948 ونشأة إسرائيل،
أما الجزء الثالث فقد تناول كتّاب مرحلة الدولة من بداية الستينيات ،
وحتى نهاية الثمانينيات ، مع توضيح الخلفية الثقافية المؤثرة لكل حقبة منها.
كما تضمن الكتاب خاتمة تسلط الضوء على خلفيات معظم الأدباء،
وتأثرهم سلبا أو إيجاباً بما مرّ بهم من أحداث وتفاعلهم بالمجتمع،
وأثر ذلك كله في إثراء أفكارهم وأساليبهم كما ظهرت في إنتاجهم الأدبي.
بين الـبدوي والأفـنـدي
تناولت المؤلفة في الجزء الأول صورة العربي في أعمال الكتّاب اليهود،
الذين هاجروا إلى فلسطين وعاشوا فيها قبل قيام إسرائيل عام 1948.
ويتكون هذا الجزء من خمسة فصول ، يركز كل منها على أعمال كاتب معين.
وهؤلاء الكتّاب هم بالترتيب: موشى سيملانسكي، يهودا بيرلا،
ايتسحاق شامي، يوسف حييم بيرنر، وإيتسحاق شنهار.
ويمكن أن نتبيّن في أعمال هؤلاء الكتّاب ،
خصوصاً في أعمال سيملانسكي وشامي وبيرلا ،
أن علاقة الكاتب بالعربي أخذت شكل الانجذاب ،
نحو الحياة البدوية التي تخلو من القيود الثقافية الغربية.
ويظهر العربي في أعمال كتّاب تلك الفترة كنموذج نمطي،
وتعكس أعمال سميلانسكي وشامي كثيراً ،
صورة متملقة للعربي كمتوحش نبيل….
وتمدح هذه القصص الروح العربية في تأكيدها الولاء للقبيلة،
وبالمثل تأخذ الصورة السلبية العربية شكل النموذج النمطي.
وبينما أثارت صورة البدوي الخيال، فإن صورة “الأفندي”،
كانت مناوئة للأفكار الاشتراكية والصهيونية ،
لدى أولئك الكتّاب الذين كانوا أيضاً أبناء للثورة الروسية،
وقد اختلط كل هذا مع الإحساس بالخوف الذي تصاعد ،
بعد هجمات الـفـلسطينيين في أعوام 1921 و1929،
وفي الفترة بين عامي 1936 و1939.
“انبهار رومانسي”
وهنا لا بد أن نقول إن ما تعتبره المؤلفة مرحلة “الانبهار الرومانسي”،
من جانب الأدباء اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين قبل عام 1948 ،
وإعجابهم بنمط الشخصية العربية البدوية وتراثها الأصيل ،
لم يكن في الحقيقة اعترافا بأن هذا العربي ، له حق تاريخي في أرض فلسطين.
بل إن هذا الانبهار الرومانسي كان حيلة نفسية ،
لجأ إليها الأدباء الصهاينة للتوحد بهذه الشخصية العربية ،
باعتبارها امتداداً للوجود العبري القديم،
وبالتالي انتحال وجودها وسماتها ونسبة هذا الوجود ،
وتلك السمات إلى المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
في الجزء الثاني من الكـتـاب (كتّاب جيل عام 1948) ،
تـتناول المؤلفة صورة العربي في أعمال الكتّاب اليهود ،
الذين شهدوا حرب 1948 وهم: س. يزهار، موشى شامير،
أهارون ميجد، وناتان شحوم.
وفي الجزء الثالث من الكتاب (كتّاب مرحلة الدولة من بداية الستينيات حتى نهاية الثمانينيات). خصصت المؤلفة فصولاً مستقلة لأهم كتّاب هذه المرحلة وهم:
آ.ب. يهوشواع، عاموس عوز، بنيامين تموز، سامي ميخائيل،
شمعون بلاس ودافيد جروسمان.
أما الفصل الأخير في هذا الجزء فقد تناول الكتّاب الـفـلـسـطينـيـيـن الذين يكتبون بالعبرية مثل أنطون شماس.
قـلـب الأدوار
وبدءاً من أوائل الستينيات، عـَمـَّـت الأدب الإسرائيلي روح مختلفة تماماً،
فأخذ الكتّاب الجدد يبسطون فكرة رئيسية ،
قدمها يزهار في قصة “خربة خزاعة”،
وهي قلب الأدوار في العلاقات اليهودية العربية،
فقد أصبح العربي في أدبهم هو الضحية، ابن البلد الذي اجتُث من جذوره،
وهكذا أصبح العربي جزءاً من النفس الإسرائيلية ،
وبالتالي جزءاً من القلق الإسرائيلي.
وقد أدى ذلك إلى جو عام من الغموض ،
الذي اكتنف الأدب القصصي الإسرائيلي منذ الستينيات.
إن ظهور العربي في الأدب الإسرائيلي أخذ خطوة أبعد،
فبينما نجد البطل العربي في رواية “في مواجهة الغابات” (1963) ،
لم تتح له فرصة الكلام، نجد أن الأدب الإسرائيلي بعد عام 1977 ،
بدأ يعطي مساحة للعربي ليتحدث بشخصه.
ومن الأشياء الـمـلـفـتـة للـنـظـر أن العربي يظهر في أعمال اليهود الشرقيين،
مثل رواية “الملاذ” لسامي ميخائيل ،والتي ظهرت عام 1977.
تمثل القصتان تحدياً كبيراً للنماذج النمطية للعربي الموجودة من قبل.
وفي رواية “بروتوكول” (1982) ، والتي كتبها اسحاق بن نير،
تستخدم مدينة حيفا كمدينة عربية إسرائيلية.
في هذه الروايات الثلاثة نجد العربي ،
يسقط شكله القديم ليصبح شخصية كاملة الأبعاد.
الـعـربي.. ذلـك المجـهـول
يندرج الكتّاب الإسرائيليون عموماً في ثلاث مجموعات:
(1) أولئك الذين وُلدوا خارج فلسطين (مثل موشى سميلانسكي)،
(2) كتّاب وُلدوا في فلسطين قبل عام 1948 (مثل س. يزهار)،
(3) والكتّاب الذين كانوا صغاراً عام 1948 ،
وبالتالي لم يشتركوا في حرب 1948 (على سبيل المثال عاموس عوز، آ. ب. يهوشواع).
كل هـؤلاء الأدباء ، ورغم الاختلافات الكبيرة فيما بينهم ،
يُظهرون في أعمالهم عدم الفهم الصحيح للشخصية العربية.
فالأشكناز (اليهود الغربيون) منهم كانوا مفتونين بالشرق وسحره ،
لكنهم تجاهلوا مشاكل الفلسطينيين.
أما اليهود الشرقيون فقد فهموا الثقافة العربية ،
لكنهم لم يُظهروا أي تعاطف تجاه العرب ،
رغم جو السماح الذي عاشوا فيه قبل رحيلهم إلى فلسطين المحتلة.
أما كتّاب ما بعد حرب 1948 فقد كانت معرفتهم بالعرب جيدة ،
لكنهم لم يستطيعوا تقبل فكرة أن للعرب حقاً في أرض فلسطين.
ونتيجة لكل هذا، نجد أن صورة العربي في الأدب العبري ،
لا ترتفع أبداً عن صورة النموذج النمطي المحمل دائما بكل ما هو سلبي.
لا تحاول مؤلفة الكتاب أن تخفي ذلك لكنها تحاول أن تلطف من هذه المواضيع.
فهي على سبيل المثال، تتجنب ذكر مصطلح “المتوحش النبيل”،
، والذي يستخدمه بالفعل كتّاب إسرائيليون كثيرون لوصف العربي ،
وتستخدم بدلاً منه مصطلحاً أخف وقعاً هو “ابن البلد”.
وهكذا تصوّر المؤلفة العربي كغريب أو دخيل بالنسبة لليهود ،
وهي هنا تقارن صورة العربي في الأدب الإسرائيلي ،
بصورة اليهودي في الأدب الأوروبي كغريب أو دخيل.
لكن هذه المقارنة ظالمة وليست متوازنة.
لأنه إذا كان يهود الشتات أجانب في أوطانهم الأوروبية ،
فإن الفلسطينيين لم يكونوا أبداً غـرباء في فلسطين ،
بل هم في الواقع أصحاب الأرض الحقيقيون.
أبواق للأكاذيب
ولا يخلو الكتاب من الأخطاء التاريخية الفادحة التي يروج لها الـصـهـايـنـة ليلاً ونهاراً.
فمثلاً يردد سميلانسكي في الفصل الأول على لسان أبطال أعماله،
الأكاذيب التي رددها المستعمر الغربي طويلاً في أنه جاء بالتقدم والرفاهية ،
لا بالتخلف والبؤس، للدول التي احتلها على مدى عـقود طويلة.
وأن اليهود جاءوا بالخير والنماء إلى أرض فلسطين ،
التي كانت خراباً عندما هاجر اليهود إليها ،
وأنهم أحالوا صحراءها إلى جنّات وبساتين يانعة.
وكل هذا كذب وبهتان يخالف حقائق التاريخ والواقع.
ومن الأخطاء الأخرى التي تروجها المؤلفة قولها ،
عند الحديث عن سامي ميخائيل (عراقي الأصل) ،
أن يهود العراق عانوا الخوف والاضطهاد المستمرين.
فهذا القول غير صحيح تماماً والثابت تاريخياً أن معظم يهود العراق ،
نتيجة لازدهار أحوالهم المادية وجو الـتـسـامـح الموجود ،
رفضوا الهجرة إلى إسرائيل عام 1948 ….
وهنا تحركت الـمـنـظـمـة الصهيونية العالمية ،
وتم تفجير عـدة قنابل في المقاهي التي يتردد عليها اليهود ،
وفي أحد المعابد اليهودية بواسطة عملاء يهود ،
لإرغـام اليـهـود الـعـراقـييـن على الـهـجـرة إلى إسرائيل.
كما أغـفـلـت المؤلفة أو تغافلت عن عملية نزع الصفات الإنسانية ،
عن الشخصية العربية التي ظل الأدباء الإسرائيليون يمارسونها ،
بعد مرحلة الانبهار الرومانسي الأولي. وهو ما يظهر حتى اليوم في الأدب العبري.
فالعربي “متخلف” و”حيوان شرس” و”كائن طفيلي” و”مخرب”،
بل هو خال من القيم الأخلاقية، فهو “لص” و”سفاك دماء”،
وما إلى ذلك من سمات بشعة ألصقها هذا الأدب بالشخصية العربية.
إن عملية نزع الصفات الإنسانية تلك تكشف ، من ناحية ،
عن الكراهية العنصرية للعربي ، بعد أن رفض الانصياع لعملية السلب الصهيوني،
فهي تؤدي دوراً مهماً في شحن القارئ الإسرائيلي بحالة احتقار وكراهية ،
للشخصية العربية تجعل عملية قـتـلها أو إبادتها أو تشريدها ،
عملاً حضارياً في وعي الإسرائيلي لا يستوجب تأنيب الضمير أو الإحساس بالذنب،
فتطهير الأرض من هذه الكائنات العربية هو بمنزلة تطهير لها من الآفات والحشرات.
وهذا المنطق نفسه هـو الذي قـامـت عليه جميع عمليات الإبادة العنصرية ،
والتطهير العرقي على مدار التاريخ.
ولعل هـذه الـسـيـاسـة تكشف للقارئ عن التكامل الوظيفي ،
الذي يضم المؤسسة العسكرية والمؤسسة السياسية والمؤسسة الثقافية ،
بما فيها الأدب في عملية سلب الشخصية العربية وحقوقها،
وإحلال ادعاءات صهيونية زائفة.
يندرج الكتاب تحت طائفة المعالجات المنحازة ضد العرب ،
والتي يقدمها باحثون يهود في جامعات الغرب ،
محاولين تشويه صورة الـفـلـسـطـيني في نضاله ضد الصهيونية ،
وإكساب الجرم الصهيوني مشروعـية لدى القارئ الغربي غير اليهودي.
وهذا يتطلب التصدي بالكلمة الواعية ،
والدليل الدامغ ومخاطبة الغرب بلغـتـه….