الـبـُنـيـة الـداخـلـيـة لـثـقــافة الخَــوف
الـدكـتـور عـبـد الـقـادر حـسـين يـاسـين
يعرّف الخوف على المستوى الكينوني (الأونتولوجي) بأنه نزعة غريزية قطيعية، هي استجابة طبيعية للنزعة الحيوانية للسيطرة. إذن يوجد الخوف طبيعياً حيث توجد إرادة السيطرة طبيعياً، وهو بالمآل ثمرة علاقة الأقوى بالأضعف، في عالم الغاب، وليس استمرار هاتين النزعتين الحيوانيتين إلا نتاج ما ترسب في اللاوعي الجمعي للبشر، قبل أن ينفصلوا عن الطبيعة ويتحسسوا ذاتهم ككائنات إنسانية، الأمر الذي من شأنه أن يفضي بنا إلى الاستنباط القائل بالاضمحلال التدرجي لإرادة السيطرة ورغبة الخضوع كلما تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة، وعمّق منجزاته المدنية والحضارية.
وعلى المستوى الفردي (العاطفي والشعوري) فإنه بمقدار ما تزداد مساحة الخوف في الداخل الإنساني، بمقدار ما تضيق مساحة الشعور بالحب والشجاعة والإحساس بالكرامة والتوادد والرحمة، حيث يلعب الموت دوراً محورياً، إذ يتم من خلاله – حسب هوبز – الفرار من التساوي أمامه إلى تمايز يؤمن البطولة والشهادة والخلود، وهنا يتدخل الشأن الإلهي، لتأسيس قانونيته القائمة على الأمر والطاعة.
أما على المستوى الاجتماعي – السياسي، فتحدد ثقافة الخوف وفق معيار درجة ديموقراطية الحياة الاجتماعية والسياسية، أو الهيمنة الشمولية الطغيانية.
يقارن ياسين الحافظ برهافة مشوقة بين بنيتي المجتمعين، الغربي المدني الديموقراطي، والشرقي الاستبدادي الطغياني، يقول في سيرته الذاتية:
“في الغرب، كنت أذهل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف! هناك الفرد ديك، هنا الفرد دودة. هناك حبل صرة الإنسان موصول بالألوهة، وهنا حبله مقطوع بتاتاً، بما هو عبد، هناك العنفوان، وهنا الوداعة، هناك بروميثيوثية طاغية، وهنا القناعة وراحة البال، هناك الشك والتساؤل والنقد، وهنا اليقين والتلقين والامتثال”، وعندما يتساءل عن العوامل والأسباب التي أدت إلى هذه القوة للفرد الغربي، يجدها في حقيقة “أن بلاده كفت عن أن تكون بلاد الخوف”. بينما الفرد في ديارنا العربية، منذ سنواته الأولى وربما منذ شهوره الأولى، تتعاوره أشكال لا تحصى! الخوف من العائلة، من المعتقد الإيماني، من التقليد، من المجتمع، من المدرسة، وأخيراً من السلطة الاستبدادية الشرقية، ففي بلاد الخوف، سرير “بروكست” ينتظر كل فرد، ويتمدد فوقه ولكن لتقطع خصيتاه فيغدو ضحية وديعة مذعنة، حياتها فرار، وموتها خلاص.
هكذا تتحد ثقافة الخوف، بمثابتها نتاجاً مكثفاً مزدوجاً للطغيان، طغيان السلطة الاستبدادية وطغيان ثقافة الغالبية، عندها يدخل المجتمع والسلطة معا نفق الرعب، القوة، البطش. وكلما ازداد البطش استفحالا ازدادت النفوس خواء وفقرا. فقيرة تلك النفوس، التي تنظر إلى داخلها فلا تجد إلا الخواء، فتملؤها بالبطش والعنف، هكذا يتأمل أفلاطون أحوال زمانه وحكامه.
عندما تنعدم الحرية، يسود الظلام ويكثر الوشاة، وتحاك الدسائس والمؤامرات، ويسود الشك والحذر والريبة، حتى يطاول الحاكم المدجج بكل صنوف القوة، الذي يعيش أسير قوته، بعد أن يفقد الثقة بالجميع ممن يحيطون به، ولهذا يجعلهم جميعاً عيوناً ليس على الناس فحسب، بل وعلى بعضهم بعضاً.
وإذا تطلب الأمر فانه لا يتردد بسبب شكه أن يبطش بأقرب المقربين له، وعلى هذا يخلص أفلاطون، إلى أن قوة الحاكم ليست إلا نتاج ضعفه، وهو إذ يتوهم السيادة فانه في حقيقة أمره “عبد”. إنه عبد لشهواته، وميوله الحيوانية العدوانية للسيطرة، وعبد هواجسه التي تجعله يقضي حياته خوفاً على أوهام رفعته التي كانت قد شوهتها السلطة، فجعلته أشد الناس حسداً وغدراً وظلماً، وأتعس الناس قاطبة، فهو بلا أصدقاء، لأن كل من يحيط به محكوم بالرغبة أو الرهبة، والتزلف والتملق، الذي يبلغ حد إضفاء الألقاب الإلهية، والصفات النبوية على ذاته البشرية، حتى إن الوليد بن عبد الملك استفسر ذات يوم في عجب “أيمكن للخليفة أن يحاسب؟!” طبعاً إن سؤاله هنا لا يتوجه إلى حقوق الرعية بمحاسبة حاكمها، بل إلى حقوق الله ذاته.
يحدثنا السيوطي عن يزيد بن عبد الملك إنه “… أتى بأربعين شيخا فشهدوا له، ما على الخلفاء حساب ولا عذاب” وكان قد سبقه أبوه عبد الملك بن مروان في خطبته الدستورية عندما صعد المنبر ليقول: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه، ثم نزل”!.
وفق هذه الفلسفة التراثية التي تميز خصوصية الذاتية الحضارية للدستور السياسي العربي التي يُنظّر لها فلاسفة الأصالة المُحَدثَنَة، فان ديار العروبة تبدو اليوم هي الأكثر تمثلاً لهذا الجانب التراثي التليد، حيث غياب دولة الحق والقانون، وشخصنة السلطة، هي السمة المميزة للنظام العربي القائم، فكيف – والأمر كذلك – لا تكون ثقافة الخوف، هي الثقافة الجامعة، والموحدة للحاكم والمحكوم، حيث الخوف يعشعش في صدور الحاكمين والمحكومين على السواء. المجتمع يخاف السلطة، والسلطة تخاف المجتمع، وكلهم في فلك الرعب يسبحون.
البنية الداخلية لثقافة الخوف:
يحدد جورج أورويل في روايته (1984) عناصر بنية ثقافة الخوف، بأنها البنية المؤسسة على التفكير المزدوج. فما هي هذه العناصر؟ إنها: أن تعرف وأن لا تعرف، أن تعي حقيقة صادقة كل الصدق وترى بدلا منها كذبات موضوعة بعناية، وأن يكون لديك في اللحظة نفسها وجهتا نظر متباينتان وأنت تعتقد، وتؤمن، بهما كليهما. وأن تستخدم المنطق ضد المنطق، وأن تنكر الفناء بينما تدعيه، وأن تعتقد بأن الديموقراطية غير ممكنة وفي الوقت نفسه تنادي بأن الحزب الحاكم هو حامي للديموقراطية، وأن تنسى ما تدعو الضرورة أن تنساه ثم تستعيده إلى الذاكرة في اللحظة التي تحتاج فيها إليه ثم تعود فتنساه مرة ثانية. والأنكى من ذلك كله، أن تطبق الطريقة نفسها في حالة الإيجاب والسلب. (الرواية صـفـحـة 174).
يقدم لنا الراحل سعد الله ونوس في مسرحيته “يوم من زماننا” مثالا نموذجياً للتفكير المزدوج، الذي يستخدم المنطق ضد المنطق، ونسيان ما تدعو الضرورة أن تنساه، ثم تستعيده، ثم تعود فتنساه.
يقول مدير المنطقة ممثل السلطة داعياً إلى نسيان مفردات ذات دلالة لا ضرورة لها وفق حاجات السلطة، واستبدالها بمفردات جديدة تبدو ضرورية في اللحظة، وقد يتطلب الوضع العودة عنها، فتنسى، ليتم استعادة الأولى، هكذا وفق جدل المنطق ضد المنطق، والمعرفة وعدم المعرفة في اللحظة ذاتها.
يرى ممثل السلطة ضرورة إلغاء المفردات الآتية: “الرشوة” و”النهب” و”الفساد” “الإثراء و”النصب” و”الاحتيال”. ويطالب باستبدالها واستخدام كلمات “المنفعة” و”العمولة” و”الربح” و”اقتناص الفرص” و”العصامية” و”المرونة” و”العلاقات العامة”.
إن فاروق أستاذ الرياضيات في” يوم من زماننا” يتمزق عقله الرياضي بين مدير مدرسة البنات الذي يعتبر ممارسة تلميذاته للدعارة مجرد هِـنة من الهنات ما دام ولاؤهن لا شك فيه أمام أم الفضائل وهي محبة “الجنرال” رئيس البلاد والولاء له، ولذا فالمدير مشغول بالبحث عن التلميذات اللواتي يكتبن ضد الجنرال على جدران المراحيض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى منطق مدير المنطقة الذي يريد إنتاج لغة جديدة تدمر المنطق، فلا يجد الأستاذ ملاذا في مواجهة التفكير المزدوج، سوى تمزق العقل والهروب من العجز واللاجدوى، الهروب من شحوب وحشة هذا العالم الذي يقدم الولاء على الشرف، عندما المدرسة تتحول إلى مبغى، هارباً بفضائله نحو الموت… نعم “الموت ولا التعريص مع دولة هذه الأيام كما يقول فاروق” (ص 284 من المجلد الثاني). لتكون هذه الأطروحة خاتمة المسرحية، وأمثولة مسيرة الراحل سعد الله.
قاعدة التفكير المزدوج تتيح لك الهروب من تفكيرك، وتنقذك من ضغط الإكراه والخوف من الحرية، عندما تتبنى وجهتي نظر متباينتين وتؤمن فيهما كليهما، فالغرب مرحَّب به كسلعة، فإذا قلت لابد، منطقياً، معرفياً، تاريخياً، من امتلاك مقومات العقل الذي أنتج السلعة انقض عليك طغيان عقل الغالبية الناطقة باسم التاريخ والمقابر ومديري المقدس من شيوخ النفط إلى شيوخ البازار إلى شيوخ الإعلام العربي الرسمي، فلابد من نسيان العقل واللهج باسم السلفية، وإذا قلت إن هذا التقدم العلمي والتقني والثورة المعلوماتية ما كان لها أن تحقق هذه الإنجازات الباهرة، لولا الاعتراف بالفرد ذاتا حقوقية مستقلة غائية فاعلة عاقلة، مالكة لحياتها وبدنها وذهنها، وهذا ما سيتوج المبادرة الحرة، ويتوج مفهوم “الاعتراض والمغايرة”.
فحب الشهرة – المذموم والمدان عندنا كأنه معادل للتشهير – هو من أول الدوافع التي حركت أهواء الفرد في عصر النهضة توقا إلى المجد والشعور القوي بالذات: كديك لا كدودة، وروح التحدي والصراع البروميثيوثي، والتوق الحار والجامح للنجاح، والاعتزاز والفخر والمباهاة بالابتكار، كل هذه الطاقات التي تتفجر في ذات الفرد للانتصار على الشك والخَوَر الذي يقود إلى الشلل فالعجز، فالالتصاق العبودي بالأديم، هذه المثل تتحول إلى عناصر فاعلة في القوة المنتجة ذاتها ولتعدل من العملية الإنتاجية نفسها، ولولا هذه المنازع (الشهرة والنجاح والعمل المبدع والمبتكر) التي تغدو قوى، ما كان يمكن الرأسمالية الحديثة أن تتطور، وكل ذلك تحقق في فضاءات من تعميق مكتسبات المجتمع المدني في الديموقراطية وحرية التعبير والتفكير والتنظيم والقول، وحرية الأحزاب والنقابات والصحافة الحرة، واستقلال السلطات، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع… الخ.
عندما تقول أن تفوق السلعة الغربية، ما كان له أن يحقق هذه النجاحات بدون الإنجازات الديموقراطية الآنفة الذكر، وأن يستحيل حل المشكلة اقتصادياً، وضعيا، تقنيا، ومن ثم ترقيعيا، بدون هذا الإصلاح السياسي ينقض عليك الطغيان السلطوي منددا مهدداً، متوعداً متهما بالخيانة والعمالة للغرب!! وذلك لأن وكلاء شركات السلع الغربية يريدون علاقة مع الغرب، بدون حق المجتمع في الرقابة والتدخل، فالمجتمع بالنسبة إليهم ليس إلا موضوعاً أي سوقا للتصريف، لا ذاتا فاعلة أي قادرة على التصرف.
ولكي تتحرر من خوف طغيان الغالبية وطغيان أجهزة السلطة، عليك اللجوء إلى التفكير المزدوج، أن تنسى أن للسلعة الغربية تاريخا عقليا، معرفياً، ثقافياً من جهة، وأن لها تاريخاً سياسياً، ديموقراطياً، مدنياً، تعاقدياً، من جهة أخرى، وبإمكانك فقط أن تسمح لذاكرتك أن تستحضر هذه التواريخ من بهو الذاكرة، فقط ( للعَلْك ) التنظيري الأكاديمي، وتلفظه على الفور من ذاكرتك خوفاً من أن تنسى فتتشدق فتأتيك السهام من كل الجهات، هكذا ينقدك جورج أورويل من منطقك بمنطقك ومن ذاكرتك بذاكرتك، ومن نفسك بنفسك وتقهر روحك عبر طمس معالم الذات.
في الـعـالم الـعـربي ، هـذا السجن المـفـتـوح الذي يـمـتـد من طـنـجـة إلى أم الـقـيـويـن ،عليك أن ترى في الهزائم انتصارات، لأنه ليس مهما خسارة الأوطان، بل المهم أن يحفظ الله لنا السلطان. هكذا حمدنا الله بعد حرب 1967 وفي الـعـالم الـعـربي عـليك ألا تفكر كما في المـهـاجـر والـمـنـافي، فلكل دولـة خصوصية ونسق، لأن التفكير المزدوج يرغمك تحت أوامر الخوف أن ترى الأشياء متجاورة ثنائياً، أي سلسلة من المزدوجات، تتجاور وتتضايف، وتتناظر محاورها لكنها لا تلتقي إلا في اللانهاية، إلا بإرادة الله.
فإذا كان الغرب الرأسمالي مثلا يسرق فضل القيمة، فان خصوصيتنا هي سرقة القيمة وفضلها، وإذا كان هناك سرقة لقوة العمل، فهنا السرقة لقوة العمل والعمل ومادة العمل، وإذا كان هناك متاح للمسروق أن يعلن حزبياً، إعلامياً، نقابياً أنه مسروق، لكن في الـعـالم الـعـربي ، عليك أن تُسرق وأنت تمدح آناء الليل وأطراف النهار سارقيك لتفضلهم عليك بفرصة عمل تتيح لك أن تكون موضوعاً للسرقة. فهذه الفرصة تتيح لك على الأقل لقمة عيش عليك ألا ترى بتاتاً بأنها مُغـمـَّسة بالذل والهوان!!
في الـعـالم الـعـربي أنت لا تملك من أمر نفسك شيئاً، بل حتى من أمرك إلا بضع سنتيمترات مكـعـبة داخل جمجـمـتك يكمن فيها دماغـك، ولا تملك في صدرك سوى “قـلب فـأر” على حـد تـعـبيـر لـيـو تولستوي، قلب لا تستطيع ساحرة تولستوي، ولا أي ساحر في العالم ولو ألبسه جلد نمر، أن يمنعه من الهرب أمام القط.
في روايـة “1984” ، يقول المحقق لوينستون: “كل شيء في داخلك سيموت، لن تعود قادراً على الحب، والصداقة أو التمتع بالحياة أو الضحك أو التعجب أو الشجاعة أو الاستقامة، إنك ستكون كصدفة فارغة، سنعـصرك حتى تصبح كالجـيـفـة الخالية من كل شيء ثم نملأك بأنفسنا” .
خصوبة اللامتوقع:
في ديار الخوف تتسع “خصوبة اللامتوقع” لتتجاوز حذر رجل الدولة حسب برودون، إلى حذر المجتمع الذي قد يتخذ شكل رُهاب وسواسي، حيث يتبادل المجتمع والسلطة الحذر من مجهول آت غير محدد، مادام المجتمع لا يحتكم إلى منظومة حقوقية قانونية تنظم علاقته بالنظام، الذي يتميز عربياً بأنه جوهره غياب القوانين، سلطانيا كان أم جمهوريا، فكل البلدان العربية ولايات استيلاء بالعصبية والشوكة والغلبة وفق صياغات عـبـد الرحـمـن ابن خلدون.
هذا القمع المفرخ للخوف، واللاجم بالأنا الاجتماعية، يقتل الأنا الأخلاقية داخل الفرد، فيرتد إلى أحط أنواع الدناءة والخسة وانتهاز الفرص، والخنوع الذليل للعلاقات التراتيبية “الهيرارشية” حيث تتأسس علاقة عبودية، بين كل درجة وما دونها، أو ما فوقها، وصولا إلى تكريس نوع من الأبوية الربوبية تبدأ بالأب “رب البيت” ولا تنتهي بالأب السلطوي الحاكم بأمر الله “رب الزمان” حيث التنزل والتنزيل، هو الذي يحكم هذه العلاقة” “الهيرارشية” فالأمر يصدع من الأعلى وما على الأدنى سوى الإذعان استمراراً لحمكة أزمنة الانحطاط التي صيغت بقول أبي حيان التوحيدي: ما تطاول أحد على من دونه إلا بمقدار ما تصاغر أمام من فوقه.
الخوف لا يقتل الأنا الأخلاقية في الفرد فحسب بل يقتل الأنا القانونية في داخله، عندما يكون جوهر العلاقات الحاكمة للنظام المستبد هو الاعتباطية المقيدة على حد تعبير حنة أرندت، فان كل شيء يغدو ممكنا في ظل دولة جوهر نظامها الاستبدادي غياب القوانين، ولأنها اعتباطية تتيح بعض الحرية ولو كانت فوضوية، فإن في دولة غياب القوانين ليس كل شيء ممكنا فحسب بل أيضاً يغدو كل شيء مستحيلا، وعلاقة الممكن بالمستحيل تحددها درجة القرب أو البعد من مركز القمع. ، فإذا كنت قادراً على التخويف فكل شيء ممكن، وإن كنت في دائرة المفعولية فكل شيء مستحيل، حتى تصل درجة المفعولية إلى درجة التعدي إلى مفعول له ثان، أو مفعول مطلق! والمستقبل يغدو قنبلة موقوتة، لكنها تطلق دقاتها في كل لحظة حسب ستيفن سبندر، هكذا تتسع فضاءات خصوبة اللامتوقع.
في هذه الفضاءات تنحل الطبقات الاجتماعية إلى جماهير، حيث تجري عملية “تدهيم” يومي لها لتبلغ بدهماويتها الدهماء حد عبادة جلادها، خوفاً من الحرية هرباً من العجز واللاجدوى إلى السلطة المجهولة المعالم حسب تعبير فروم، سواء أكانت هذه السلطة ثيوقراطية سلفية أم أوتوقراطية طغيانية محدثة.
وهكذا تتحول “المواطنة” إلى “رعية”، والرعية بسبب ممارسة التغييب اليومي لفردانية الفرد وإلغاء شعوره بأناه الفردية وطموحاته البشرية المشروعة للاستجابة لضغوط داخله عواطف ومشاعر وحنينا وحباً وكرهاً، ففي ثقافة الخوف لا مكان إلا للكره والألم، لا مكان للعواطف الراقية ولا للآلام العميقة والمعقدة بعدما احتل الخوف شاشة النفس الإنسانية فطمس معالمها…
لقد مضى ذلك الزمن الذي كان الإنسان يعيش حاراً وطازجاً، يحب ويصادق، وحيث كان يقف أفراد العائلة إلى جانب بعضهم بعضاً دونما حاجة إلى معرفة السبب، فالخوف عندما ينشب أظافر خلاياه السرطانية في العالم المشاعري للبشر فانه يفتك بكل المشاعر العظيمة: الحب والصداقة والتضامن والتراحم، لأن هذه المشاعر كفيلة بإحساس الإنسان بعظمته ونبله الإنساني.
ففي ثقافة الخوف لا فسحة للعظمة والنبل ونكران الذات بل للضعة والخسة والدناءة، حيث الكل يترافس والأكثر نجاحاً وتفوقاً هو القادر على رفس من دونه، وكلما ازداد ارتفاعاً في المكان فاعلم انه ازداد انحداراً في المكانة، ففي مجتمع ثقافة الخوف لا يرتقي سوى الأوغاد.
إن قتل هذه الفردانية في الفرد، سرعان ما تحول مجموعة الأفراد هؤلاء من “رعية” إلى “رعاع” والرَّع هو من لا يملك شروى نقير، إنه المُعـدَم، الذي لا يملك إلا ما يرعاه يومياً على هذا فهو لا يملك حتى نفسه، ولا يملك منظومة قيم روحية وأخلاقية ووجدانية تؤهله لاستعادة نفسه ودمجها في النظام الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع، وهذه الرعاعـية تشكل الخزان البشري لكل أجهزة القمع في الدولة الأمنية، وهؤلاء لا يبعـثون الخوف في نفوس الخلق فحسب، بل ينتجون حالة من الذعر المعمم، هو نتاج علاقتهم بماضيهم الذي يحملون نحوه رعباً عصابياً ورهابياً من أن يعودوا إليه، ويهبطوا إلى عالمهم السفلي الذي تحدروا من سفليته، فهؤلاء هم أداة البطش الذين تتساوى أمام سكاكينهم رقاب البشر ورقاب الخراف، وهم الثمرة الموضوعية لمجتمع الخوف حيث يتوالدون يومياً، ويقدمون جمهوراً للحاكم أو المعارضة، لأن الدولة الأمنية لا تنتج معارضتها إلا من جنسها ونسلها وجوهرها ولا يمكن لمجتمع الخوف أن ينتج سوى المسوخ والخصيان عـنيني الإرادة والروح سلطانا ورعية.
هذا الـمـجـتـمـع لا يمكن أن تنتج قيماً للحوار، والتعداد، والتكافؤ، والتعايش. إنه مجتمع الإقصاء المتبادل، جماعات، وأفراداً، بعدما جردوا من هويتهم السوسيولوجية كأفراد ينتمون إلى طبقات، أي جردوا من هوية “المواطنة”، وتحولوا إلى جماهير، رعية، رعاعية، همجية، دهماوية، والرابطة التي تحكم الكتلة الجماهيرية هذه، هي رابطة توحيدها حول الخوف وداخله، بعدما فقدت حسها الاجتماعي بالمواطنة، وارتدت على المستوى الروحي والذهني إلى حالة من التكسير والتفتيت، والتذرير، فتستبدل رابطة المواطنة، برابطة الدم، القرابة العائلية، العشائرية، الطائفية، المّلية، النحلية.
في هذا المناخ الطقسي البربري لا يمكن أن يتاح للثقافة المضادة إلا أن تكون بصورة وثنية إيمانية قروسطية في وجه إلحاد أخلاقي مُهجن، كمعادل لصورة السيف (الثيوقراطي) والبوط (الخف) الأوتوقراطي الذي يطبق على عنق المجتمع خوفاً ورهقاً، في فضاء سديمي أغبر من الأنانية الدنيئة، فالأنانية ليست متطابقة مع محبة النفس، بل هي متطابقة مع عكسها كما يـقـول الفيلسـوف الألماني إريك فروم (1900 – 1980) الذي يرى في كتابه Escape from Freedom (الـهـروب من الحرية ص 98) :
“إن الأنانية نوع من الشره، وهي مثل كل الشره تحتوي على زعزعة نتيجة عدم وجود إشباع حقيقي إطلاقاً، إن الشره عبارة عن حفرة لا قرار لها تستنفد الإنسان في جهد لا نهائي لإشباع الحاجة بدون الوصول إطلاقاً إلى إشباع. والملاحظة الدقيقة تبين أنه بينما يكون الشخص الأناني دائماً قلقاً في ما يتعلق بنفسه، فإنه لا يكون قانعاً إطلاقاً. دائماً يكون مساقاً بالخوف من ألا يكون قد حصل على ما فيه الكفاية، الخوف من أن يكون قد نسي شيئاً، وأنه محروم من شيء. إنه ممتلئ بحسد حارق تجاه كل شخص يكون لديه أكثر. وإذا لاحظنا بدقة أشد، وخاصة الديناميات اللاشعورية، سنجد أن هذا النوع من الأشخاص ليس مغرماً بنفسه أساساً، بل هو يكره نفسه حتى الأعماق”.
والمآل، لا سبيل إلى تصفية الخوف إلا بإحياء مؤسسات المجتمع المدني وما يشتق من هذا المفهوم العام من نسل مفاهيمي تتفرع من صلبه متمثلة بـ (التعددية، حقوق الإنسان، دولة الحق والقانون، الديموقراطية) وإلا فإن القمع/ الخوف سيعشعش ليس في خلايا المجتمع فحسب، بل وفي خلايا الإنسان الذي تضمحل إنسانيته إلى المستوى الهماوي، الرعاعي. والرعاعية هذه لا تشكل خزاناً بشرياً للقمع السياسي فحسب بل وللقمع الثقافي لأن نظاماً لا يستند إلى أية شرعية، لا بد له من البحث عن مشروعية ثقافية ما، ليجدها بالإعلام الذي تكمن وظيفته بإضفاء المشروعية التقديسية على وثنية السلطة، لممارسة إرهاب ثقافي على عقول الجماهير، التي فقدت إحساسها بفرديتها، واجتماعيتها، وذلك لأن الفرد في المجتمع المدني الديموقراطي، تتحدد علاقته بالمجتمع عبر وسيط المؤسسات، لكن في مجتمع القمع والخوف، لا يجد الفرد ملاذاً إلا بوسيط الجماعة (ابن جماعته) العائلي، العشيري، القبلي، الطائفي.
ولأن المجتمع بذلك يفقد تنضيده السوسيولوجي الطبقي، فإنه يتحدر إلى علاقات عضوانية بين الجماعات، التي تنتج مثقفيها، فيغدو المثقف بذلك مثقف جماعة، لا مثقف مجتمع، حتى الأحزاب التي يفترض أنها بنى مؤسسته، تتحول إلى جماعات فصائلية لها مثقفوها، ومن هنا تنشأ علاقات الاستبعاد والإقصاء الثقافي المتبادل، بين جماعات تتخابط في سديم أغبر، حيث التحاسد والتباغض، والنمائم، والدسائس، تحركها عصبية جماعة الدم، أو السياسة، وروابط الدم بالسياسة وشيجة في الدولة الأمنية، حيث يتبادل هذان العنصران الدور الفاعل في البنية التكوينية للسلطة من حيث تشكيلها، فهي لها جماعتها، وإن كان على مستوى الوظيفة، فالدماء التي تجري على يد السلطان، أكثر من الدماء التي تدفع العدوان.
ومثقف السلطة، في هذا السياق قادر على صوغ ترسيمة نظرية عن (الكلمة/ الرصاصة) وليس مهماً لمن تتوجه الرصاصة، وهو مثقف يعيش حالة ذعر السقوط الدائم، فليس له إلا أن يتهاوى ويتساقط على أقدام حماته كائناً رخوياً. ولذا لن نستغرب أن نجد في سوريا ، عـلى سبيل المثـال لا الـحـصـر ، رئيساً لاتحاد الكتاب قائماً على رئاسة “جماعته” منذ قيام السلطة ولية نعمته، ليس رئيس اتحاد الكتاب فحسب، بل ووزير الثقافة، ومفتي الجمهورية ، بل وقادة الأحزاب “الجماعات” أنفسهم، لأن كلمة “التغيير” في فضاءات الطقس الديني تعني الهرطقة، وذلك لأن الله لا يحول ولا يزول ولا تدركه العقول… وعلى هذا ، ليس مستبعداً أن ينيط المستبد بمثقفه “المتمجد” مهمة إلغاء كلمة “التغيير” واستبدالها بـ “التأبيد ” وذلك كما فعل مدير المنطقة في “يوم من زماننا” وكما يفعل سليم في رواية 1984 عندما يضع قاموساً جديداً يتناسب مع شمولية النظام الجديد.
والمثقف المتمجد حسب عـبـد الرحـمـن الكواكبي هو عكس المثقف “الماجد” فالأول مثقف سلطة والثاني مثقف مجتمع ماجد، حيث هذا المثقف العضوي صاحب الهمّ الوطني والديموقراطي مطوق بالخوف من الوحدة والعزلة عندما يجد أنه غريب، وأغرب الغرباء من كان في غربته غريباً، وفق الصياغة المتأسية التي عبر عنها أبو حيان التوحيدي بلوعة صوفية حارقة وشفافية لدنيّة حارقة، إنها الغربة التي ستلاحق المثقف الماجد الذي يعلو بقامته الفكرية والروحية على زمنه الرديء، وذلك مبعث رأي الروائي الفرنسي Honoré de Balzac أونـوريـه دو بلزاك في أن الوحدة الخلقية هي “أشد أنواع الوحدة رعباً” ، أو بتعبير الحديث الشريف الذي يستشعر هذه الوحدة نبوياً وذلك عندما يقول: “فالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى”.
ولذا فالمثقف “المتمجد” لا يزال يطارد المثقف “الماجد” منذ اليهودي المنافق كعب الأحبار مثقف عثمان بن عـفـَّان وهو يطارد أبا ذر الغـفـاري، مروراً بالمثقف الفقيه واعظ السلطان الذي يلاحق الفيلسوف ليتوج انتصاره بحرق كتب ابن رشد، وصولاً إلى أبي الهدى الصيادي، شيخ إسلام السلطان عبد الحميد وهو يطارد جمال الدين الأفغاني، ودس السَم للكواكبي، ويتناسل اليوم في صورة المفتي ووزير الثقافة ورئيس اتحاد الكتاب…
في الدولة الأمنية التي لا تكتشف لذاتها خصوصية، سوى خصوصية الاستبداد، وتفريخ الأوابد، وإنتاج ثقافة الخوف، لا يملك المرء سوى أن يترحم على أبي العلاء الـمـعـري ، الذي يذكر أولئك المتمجدين المتغطرسين أنصاف المتعلمين، أنصاف الأميين، بأن “يخففوا الوطء..!”، فما أديم الأرض إلا من الأجساد البشرية التي وحـَّد الموت تراتبيتها في صف واحد، وأن يترحم على الشـاعـر السـوري الراحـل نزار قباني القائل:
“حين يصير الناس في مدينة
ضفـادعا مفقوءة العيون،
فلا يثورون ولا يشكون،
ولا يـُغـَنـّون ولا يبكون،
ولا يموتون ولا يحـيون،
تحترق الغابات، والأطفال والأزهار،
تحترق الثمار،
ويصبح الإنسان في موطنه،
أذلّ من صرصار..!”