د. جمانة القروي
حينما وطئَت قدماها باب البناية التي فارقتها منذ ثلاثة اشهر،كان العرق يتصبب من جميع مسامات جسمها، كأنــــه شق على طول ظهرها مجرى لــــه ، فبللها تماما،وشعرت برطوبته اللزجة بالتصاق ملابسها على جلدها، بالرغم من ان الشتاء كان قد دق اوتاده منذ بضعة اسابيع ..
وقفت امام المصعد تراقب الارقام تتناقص كي يهبط..أرادت لملمــــة شتات نفسها فقد احست بأن شيئا مخيفاً ينتظرها ! لم تقوَ على الانتظار، تسلقت درجات السلم الذي تعرفه جيدا والذي حسبت عددها عشرات المرات، عندما كانت تهبط او تصعد بعد اضطرارها لقضاء بعض احتياجات البيت او شراء ما يلزمها ..
هواجس وافكار هاجمتها بقوة .. تصبب العرق مدرارا، فكرة واحدة سيطرت على تلافيف عقلها ، فكانت تردد مع كل سلمة ترقاها !”سأكشف خداعه .. وكذبه.. ساجدها حتما في بيتي .. لقد استغل غيابي وسفري ، لن يتوقع مجيئ الان” !! صعدت ، تدفعها الغيرة من المراة التي في احضانه منذ ايام ، ارتابت من خلال صوته على الهاتف وهو يتصنع النوم احيانا، او انه في مكان عام احيانا اخرى!! يكلمها من شرفة المنزل، حتى لا تسمعه الاخرى !! لكن ذلك لم يخفَ عليها، فمنذ ان تزوجا قبل بضع سنوات وهي تعلم تماما بانه يخونها كلما سنحت له الفرصة لذلك ..
توقفت قليلا في احد الطوابق، لم يعد صدرها يحتمل قرع طبول الرهبة من الاشباح التائهة التي تتراقص امامها ! حانت منها التفاتة الى ساعة يدها، لم تتجاوز التاسعة صباحا بعد، قررت العودة وانتظار مرور الوقت .. نزلت بضع درجات ، إلا انها سرعان ما عادت ! “يجب ان أكشف خداعه الذي تمادى فيه .. وليكن ما يكون، يكفيني مذلة وقهر” حدثت نفسها.!
تأوهت متالمة!! لقد ضاقت ذرعا بخيانته المتكررة، وفي كل مرة يقدم لها عذرا او سببا تافهاً، فتسامحه وتغفر له زلاته.. فحبها لـــــه كان يجبرها على العفو..” لكن لماذا ” ؟؟ سالت نفسها مئات المرات ! لقد ضحت باهلها وبكل ماتملك من اجل ارضائه،لكنه لم يقدر ذلك !! طفح كيل العفو، حتى الحب اخذ يتلاشى ويموت في قلبها !!
على درجات السلم المعتم ، كعتمـــــة ايامها معه، تتلمس طريقها رغم ظلمته الحالكة !! تتقاذفها مشاعر الشك باليقين، مثلما تتقاذف الامواج الهائجة السفن التائهة في عرض البحر، افكارهـــــا مبعثرة متشظية، ” ياترى ماذا يفعل الان ؟ كيف سيتصرف حينما يراني امامــــه ؟ هل أظلمه” !!
احاسيس غريبة ايقظت وجع سنواتها العديدة معه ، صوت من اعماقهـــــــا يهتف بها ” لاتكوني ساذجة!! “انت قربان لاي امراة مهما تكن واطئة “!! لامت نفسها” انا من سمحت له بذلك ، انا من اذلت له نفسها، لكني اليوم ساواجهه بحقيقته التي طالما تسترت عليها حتى امام نفسي “!!
تناوبت عليها الافكار والهواجس وكأنها اسراب من النحل التائه!! جربت ان تنفض عن عقلها تلك الافكار المحمومة ، لكنها لم تتمكن، فقد طاردتها كما لو انها حقيقية .. لمست المفتاح في حقيبة يدها. لكنها قررت ان تطرق الباب اولا !
تسمرت أمام باب شقتها لبرهة، مرت كأنها دهر !!! اختض جسدها كما السعفة الجافة امام ريح عاتية، أقتربت بسبابتها من جرس الباب الكهربائي، إلا انها سحبتها بسرعة، مرات عديدة ترددت في الضغط عليه، حاولت من جديد ! سحبت نفسا عميقا ،فدخل الهواء الى احشائها كأنــــه نار أحرقتها ! بسرعة مدت اصبعها فلامس الزر البارد فضغطت بكل ماتحمله من الم في اعماقهــــا !…سكون يعم البيت، رنة اخرى!! صمت..وثالثة.. جفلت لجلبة رنت بالداخل .. وصوته يسألها :” منَ؟ منَ في الباب “!! لم تستطع الرد فقد جف بلعومها، وتحشرجت الكلمات فيه !!كرر سؤاله.. تمالكت زمام نفسها واجابته مغيرة من نبرة صوتها
-انا افتح!!
-منَ انت؟
ازدادت سخطاً واشمئزازاً “هل من المعقول انه نسي صوتي أنا التي عشت معه خمس ســـــنوات “!!! ماهي إلا لحظات حتى سمعت صوت المفتاح يدور، انفتح الباب عن شق صغير بالكاد يظهر نصف راسه منـــه!! بدا وجهه متجهماً كئيباً.. تبادلا نظرة مليئة بانفعالات ، وفصل بينهما صمت طويل ..!! دفعت الباب بكفها محاولة الدخول ، إلا انه اغلقه دونها ..!! دهشت ، اتسعت له عيناها، وقد ايقنت تماما ان امرأة اخرى في بيتها وعلى فراشها ..!!
استمرت بطرق الباب تارة بالجرس الكهربائي واخرى بيديها.. لم تعِ كم من الوقت مضى حينما فتح الباب ليظهر هو بملابس البيت وبيده المفتاح .. حاولت ان تدخل إلا انه دفعها عن طريقه، اغلق الباب بوجهها، دون ان ينبس بكلمة واحدة، او يعلل سبب رفضه دخول بيتها.. هابطاً السلم.
هدأ كل شئ ، غابت الخطوات .. حتى الهواء اصبح ثقيلاُ وقاسياً،أصبح بالنسبة لها كأئن غريب لا تربطه بها أية علاقة ،ندت عنها آهات الهم والحسرة، كأنها دخان نار صب عليه ماء بارد.
افاقت ، مجفلة من تأثير الصدمة، التي مازالت تعيش انفعالاتها.. حدقت في الظلام ، فتراءت لها فكرة فتح الباب بمفتاحها الذي تاه عن عقلها في لجة البراكين التي تطفح بحممها فيه ..
ازداد الخوف بداخلها عندما خطت قدمها عتبة بيتها ، فمن الوهلة الاولى شعرت بزمجرة العاصفة .. اتجهت الى غرفة نومهما ، شئ ما معلق على حافة السرير تقدمت، قلبتـــه .. قميص نسائي ” اي استهتار هذا بأحاسيسي ” !! خاطبت ذاتها المجروحة .. فجأة سمعت وشوشة خلفها، التفتت لترى أمراة مختبئة خلف الباب وهي ترتجف !!!
تسمرت في مكانها ، قلبتها بعينيها، رمقتها بنظرة شزرة ساخرة ، ولبرهة أجرت مقارنة بينها وبين من تقف خلف الباب، مشعثة الشعر،بدينة، دميمة الوجه، قصيرة كأنها احد اقزام الحكايات، حتى جلبابها، قديم باهت الالوان .. ماالذي تملكه، لماذا اثرها ؟؟؟ بحثت عمن يلجم تلك الخيول المتراكضــــة فــــي راسها!! ويرد على تساؤلاتها !! فجأة ، دخل ليقف بينهما بكل ضخامته،ثم طوقها بكلتا ذراعيه بقوة وعنف، دافعاً اياها للغرفة المجاورة …
كل شئ في المنزل من صنع يديهــــا، هي من نسق ورتب الاشياء الصغيرة ، هي من خاط الستائر واختار الونها..!! بنوبه احتجاج وغضب مستعر، صرخت ..”لم تعد تعنِ لي شيئا، ولكن، لماذا .. فقط اريـــد ان اعرف لمــــــ اااا ذذ ااا “؟؟ ردت عليها كفه الثقيلة، ادارت راسها للناحية الاخرى، سقطت اثرها متهاوية على الارض! هجم عليها كغول أحمق بقسوة وغلظة ، واخذ يضربهـــــا بوحشيــة وبشاعـــة ، غول معتوه فقد زمامه، لم تعد ترى شيئا ، اختفى المكان، وتحول الى عدم، تلاشى كل شئ تحت ضباب اسود.. حاول قطع انفاسها بعد ان احكم يديه على رقبتها.. كان يرعد بكلمات رعناء” اخرجي من حياتي لم اعد اطيقكِ”!! لهنيهة ارتخت يديه عنها ، عندئذ دفعتـــــه بكلتا رجليها على صدره، فتراجع للخلف، كان صدره يعلو ويهبط وعروق رقبته قد نفرت.. انقض كرة اخرى على جسدها الرقيق ،واخذ يضربها بكل شبق الضغينة.. حمم من الجنون سيطرت عليه وعصفت به، لمحت عينيه الجاحظتين بالهلع، فاستغلت لحظة الضعف تلك لتتخلص من قبضته، وقد كظمت غيظاً مضاعفا عليه، مكثت تتلظــــى.. ثم ألتفتت إليه ، كانت اعماقهــــا تتمزق، وبكاء صامت مكبوت تحجر في مقلتيها،..اصبح كائناً لاتربطها به إية علاقة، اشبه بطحالب البحر التي تتقاذفها الامواج..!!