الغزارة البلاغية والتنوع الإيقاعي والدلالي في ديوان ” بقايا شجون بليلة ”
يصعب الإلمام بجل عناصر البناء الشعري في ديوان ” بقايا شجون بليلة ” للشاعر المغربي الطاهر لكنيزي نظرا لاطِّراد وتوالد معاني نصوصه وصورها وإيقاعاتها في سياق معجم ينهل من موروث لغوي تُمَيّزه جزالة اللفظ ، ومتانة العبارة أضفت على القصائد زخما جماليا وبيانيا ودلاليا موسوما بالتعدد والغنى والتنوع … وسنعمل من خلال هذه القراءة على مقاربة بعض جوانبه قصد تقديم صورة موجزة عن ديوان شعري بميزات إبداعية صادرة عن رصيد تعبيري طافح بالعمق والثراء في نحت ، وتشكيل النصوص بأسلوب ينم عن انتقائية ودقة لا تفقدها زخمها الشعري بنسق إيقاعه، ومجازية لغته ، وجمالية صوره.
ورغم ما يطبع نصوص الديوان من سمة مجازية ، وما يتولد عنها من صور وتعابير ترسم أفقا شعريا زاخرا بتنوع طرائقه الشعرية الخصبة والغنية إلا أن هناك تداخلا وتكاملا بينها وبين المكونات المعجمية والإيقاعية والدلالية.
فلغة المجموعة الشعرية تطغى عليها النزعة التراثية متمثلة في نماذج ك ( خُرْم ،تُفري،سدير، طرس ، الجداجد ، ميازيب …) وبشكل أقل ، إن لم نقل أندر، المعجم الحداثي في ورود لفظ «كاميرا» : ” تجوس كعين كاميرا ” ص38 ، أو «ماكينة» في قوله : “أرى الحرب ماكينة خَبِلَت ” ص 72 ، وفعل تأكسد : ” تأكسدت عناصر الوئام” ص 118 . وبما أن النصوص هيمن عليها العنصر البياني بصوره وتعابيره كان للطابع التراثي حضوره النسقي والسياقي في رسم مبنى القصائد ،وتشكيل معانيها حيث أفرزت وفرة وغزارة في صور طفحت بها ثنايا الديوان فأضحى معه مقاربة وتيرة تعاقبها يستلزم رصدا مضاعفا ، ومتابعة مشروطة بالحرص والدقة اعتمادا على أدوات تنهل من حقول معرفية متنوعة ( معجمية ، بلاغية ، إيقاعية ،سيميائية …) مما حتم علينا ، حسب طبيعة المقاربة وحدودها، الاقتصار على نماذج تعكس ما تحفل به النصوص من مكونات جمالية ودلالية.
ومن التعابير التي بها تعج قصائد المجموعة الشعرية : ” منذ أدمنت صمتي المديد .” ص 62 في تصوير لحالة الصمت المسترسل ، وما تفتحه، وتنفتح عليه من آفاق تأويلية موسومة بطابع الإيحاء والتلميح . ووصف للإحساس بالندم : “و توسدت جذع الندم” ص 6 في صورة ترقى لمقام تعايش معه يغدو معه ( الندم )ملازما ومصاحبا بحضوره في زمن النوم . وتماهي ثوابت الفكر مع انزياحات الخيال : ” أسرج الفكر خيل الخيال ” ص6 ، وما تزخر به تفاصيل التعبير من حمولة بلاغية ( استعارة ، وجناس). فيرتسم أفق شعري غني بأساليبه البيانية الموغلة في امتدادات دائبة التشكل ، دائمة البحث والتجديد عن ألوان وصف وتصوير ينمي نسغها الشعري ، ويطور أدوات الخلق والتشكيل داخل نسيجه الإبداعي بابتكار صور تطبعها الغزارة والتنوع مثل : “وللصمت لون البدائه ” ص 68 ، حيث يغدو الصمت ثابتا بديهيا ضمن منظومة تقاليد حياة محفوفة بالخنوع والخضوع ، ينتقل من صفة اللون إلى دائرة الحِجا : ” في ملكوت الحِجا ” ص 69 ، إلى رائحة الاندثار والامحاء : ” ورائحة المحو” ص 69 ، لتغمرها أثباج اليأس فتبتلعها لجته : ” ينداحها اليأس ” ص 69 لتؤول إلى مناطق الضياع فتخفيها سهوبه : ” بسهوب الضياع ” ص 69 . صور تؤثث تجلياتها، وترسم تمظهراتها عبر اللون ، والرائحة ، والمكان ( لون ، رائحة ، ملكوت ، سهوب ) ليظل ما قدمناه من صور وتعابير، في حدوده الانتقائية ، غير كاف لمقاربة غنى نصوص المجموعة ، وما يميزها من عمق، وغزارة ، وتنوع في أنماطها الإبداعية ، وصيغها البيانية ، ففضلا عما هو معجمي ومجازي تحفل مكونات الديوان بإيقاع متنوع ودال ينتظم نصوصه عبر جَرْس خارجي : ” وتداعى المجاز الكفيف … وهجرت يراعي الكفيف ” ص 5 ، أو : ” تداري الخجل المهروق من ذهولها المشنوق ” ص 46 ، وآخر داخلي يمثله حرف الطاء في : ” وعلى طرف الطرس طفل يرمم طيف هشاشته ” ص 51 ، وحرف السين : ” ساهمة كسقسقة العنادل وانسراب الُمزْن ” ص 74 . و لتنويع عناصر التعبير الشعري داخل متن الديوان لجأ الشاعر إلى التحوير في شقه الديني كما في : ” فأرى الصغار بعشهم متفكهين على الأرائك يحتفون بلحظة دانت لها الأضواء والألوان ” ص 115 في متح من آيات النص القرآني ( سورة الواقعة) ، أو سورة ( النور) كما في قوله : “نز من زيتونة شرقية الأعراق غربيتها ” ص 118 ، وإلى التضمين في جانبه البلاغي : ” فأعوي ، وأعوي كما صورة حاصرتها ضباع التشظي ِبكُمّ القصيد الحصيد ولعلعة الحشو تدمي استعاراتها بمخالب لغو عديم ” ص 61 ، بتوظيف مصطلحات ذات مرجعية عروضية / إيقاعية ( القصيد) ، وبلاغية ( الحشو، استعاراتها ) ، فضلا عن مصطلح نقدي حديث ( التشظي ) ، والإيقاعي : ” أراود قافية سنحت فجأة متبرجة بين لغط الزحام ” ص 131 ، والسردي : ” تحت ضغط اللغط ينفلت خيط السرد من بين أنامل الحكاية ” ص 104 ، واستخدام الحوار أيضا كما في نص «لوحة» حيث تشكلت أطرافه من قبرة وصغارها : ” في الوكر صاح صغار قبرة أماه، هل رحل الوطن؟ ردت بزقزقة : وإن لا تأبهوا، أنى نسافر” 125 ، تضمين لم يخل من الإشارة لشخوص من صنف أعلام خلفوا بصمتهم في سجل الإبداع الكوني ك «فانغوخ» الفنان التشكيلي الهولندي الاستثنائي و الرائد : ” يلبسني قتامة لوحة ثكلى ل «فانغوخ» ص 52 ، أو« ببينلوب » إحدى شخصيات أوديسة هوميروس في نص « على كتف الغد » : ” كما «بينلوب» أفك سداة انتظار ترهل ” ص 121 ، وما تزخران به من إشعاع رمزي وتاريخي دائب التوهج والإشعاع تساوقا مع شخصيات من محيط الشاعر مثل «حمادي» : ” في كأس من غابوا ك «حمادي» ” ص 97 ، تأسيسا لثنائيات ضدية على مستوى الشخوص ( فانغوخ ، وبينلوب) كرمزين بطابع كوني أثيل ، و(حمادي) المنتمي لفئة من فئات مجتمع توحد أفراده هموم حياة بسيطة تمتنها عرى تواصل لا يخلو من تآزر وتكافل ، وأيضا المعاني : ” تأتي على الظاهر والباطن ناضجا ونيئا ” ص 104 حيث التقابل بين ظاهر وباطن ، وناضج ونيئ مع يحبلان به من دلالات بلاغية جمالية، وفكرية عقدية.
ولابد من الإقرار أخيرا بمحاولتنا ، في اقتضاب وانتقاء ، كشف جوانب من مجموعة «بقايا شجون بليلة » الشعرية لشاعر لا تعوزه المَلَكة الإبداعية بمكوناتها اللغوية والبلاغية والإيقاعية ، وما قدمه وراكمه من منجزات أدبية مميزة و قيمة شعرا ( دواوين شعرية ) ، وسردا ( روايات ،وأضمومات قصصية ) ، وترجمة ( من خلال ما ترجمه من نصوص ومؤلفات) أثرت المشهد الإبداعي الأدبي المغربي والعربي ابتكارا وتطويرا وتنويعا.
عبد النبي بزاز ــ المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ الكتاب : بقايا شجون بليلة ( شعر ) .
ــ الشاعر : الطاهر لكنيزي.
ــ الناشر : حلقة الفكر المغربي / فاس 2021 .