خاص لمعارج الفكر
……………………………………
“العنوسة”: كلمةٌ مقرونة بالمجتمع الذكوري. هي حروفٌ سوداء اللون محمّلة بالآثام والأوزار التي تثقل كاهل المرأة بالموروث الثقافي الذي لا تلبث أن تعيد إنتاجه بنفسها. كلمة تحمل في رنين صوتها وقع السوط لجلد المرأة ووسمها بالنقص وإستعبادها الذاتي والغيري.
إذا ما نظرنا في لسان العرب لإبن منظور فسوف نرى أنّ العانس هي كلمة مقرونة غالباً بالمرأة. فالعانس هي من طال مكوثها في منزل أهلها بعد إدراكها (بلوغها) حتى خرجت من عداد الأبكار.
أسئلة عديدة تطرح نفسها في هذا المجال: حتى وإن كان الزواج من أسمى الظواهر الإجتماعية التي تنعكس إيجاباً في حياة الفرد وبناء المجتع وإعمار الأرض، ولكن لماذا تعيش الفتاة هلعاً ورعباً من عدم الزواج أو مما يسمى العنوسة؟؟ هل هناك رجل عانس ولماذا؟؟ هل هناك معايير حتمية لتكون المرأة عانساً؟؟ بين الفعل الإرادي واللاإرادي أين تقع العنوسة؟؟
منذ الطفولة تتدرّب الفتاة على دور الزوجة/ الأم، ذلك الدور الذي سيحدّد لاحقاً مكانتها وقيمتها في المجتمع. منذ الطفولة وهي تتعلّم كيف تطبخ وتكنس وتجلي وتمسح وتربّي الأطفال وتعتني بجسدها/ كنزها الذهبي الذي ستقتنص به عريساً يصون شرفها ويستر عليها ويجعلها محميّة من المجتمع عامة ومن أطماع الرجال خاصة… تنشأ الفتاة وتتربى على أنها ضيفة في بيت أهلها؛ بيت ستغادرها عاجلاً أم آجلاً!! فأيّ خيبة ستصيب الفتاة وأيّ إحباط نفسي سيدمّرها إنّ مرّ قطار العرائس/ الرجال ولم يقبض أحد منهم على هذه الغزالة البرية ليضعها في قفص الزوجية ويمارس عليها سلطته في “الترويض” والهيمنة!!!… أيّ خيبة ستصيبها إن لم تحقق ذاتها في ممارسة أدوار جندرية حدّدت لها وكأنّها قدر حتميّ بدونه ستكون موصومة بالعار…. أدوارها محدّدة بتمتيع الرجل جنسياً وإنجاب الأولاد خاصة الذكور منهم. فإن كانت نظرات الشفقة ستلاحق المرأة “العاقر”/ “العقيم” لأنّها لم تمارس واحداً من دوريها، فإنّ “العانس” أولى بالشفقة لأنّها لم تمارس أيّاً من الدورين…. امرأة ولدت وستموت دون أن يروي الرجل أرضها التي تُفترض خصوبتها!!
ليست العنوسة همّاً يثقل كاهل الفتاة فقط، وإنّما يثقل كاهل أهلها. ففي إنتظار الزوج ستبقى مراقبتها (أو لنقل مراقبة جنسانيتها الفاعلة) مسؤوليتهم الشخصية. إنّها بضاعة يجب المحافظة عليها بإنتظار تسليمها للمالك الأصلي. أذكر في إحدى المرات أنّي سمعت إحدى جاراتنا وهي أمٌّ لسبع بنات تقول “الحمدلله نفقت بضاعتي!!”…. في البداية لم أفهم ما تقصد!! ولكنّي عرفت لاحقاً أنها كانت تشير سعيدةً إلى كونها زوّجت كامل بناتها!! إنّ الفتاة هنا بضاعة يُفترض بيعها قبل أن تكسد ولا تجد مشترياً يدفع بها ثمناً مقبولاً.
إنّ العنوسة ظاهرة جندرية بامتياز؛ فإن تساءل سائل عن حال الرجل العانس، بدا السؤال غير مألوف!! فالعنوسة لا تذكّر!! لماذا؟؟ لأنّه وتبعاً لمخيالنا الإجتماعي المترع بالذكورية، فلا شيء يعيق الرجل عن الزواج. ألا يتداول الناس مقولة “رجال وما في شي يعيبه”. إذاً، هو لم ولن يعنّس إطلاقاً حتى ولو وصل سنّ السبعين. إنّه فحل من المهد حتى اللحد!!! فحلٌ يمكنه إرواء جميع النساء!! وأمّا المرأة فالسنّ الذي تدخل فيه طور العنوسة يختلف تبعاً للزمان والمكان وتبعاً للنمط الثقافي السائد.
في بعض المناطق البدوية يدقّ خطر العنوسة والكِبر والضرورة الملحّة في الزواج بمجرد أن تبلغ الفتاة الثامنة عشرة او العشرين من العمر. في القرى التقليدية النائية ذا البنية العشائرية تعيش الفتاة على حافة العنوسة ما إن تتجاوز الخامسة والعشرين دون زواج. أمّا في المدن فيختلف الحال نوعاً ما. هذا وتجدر الإشارة أنّ الإنتماء المناطقي ليس وحده هو من يتحكّم بتصنيف الفتاة في خضمّ العنوسة أو خارجها. فللمستوى التعليمي أثره وكذلك طبيعة العمل الممارس من قبل الأنثى أضف إلى معيار الإلتزام الديني وغيره كثير.
إذا ما كان السعي للزواج ومجابهة وحش العنوسة هو الشغل الشاغل لكل فتاة، فما هو السبب الذي يجعل بعض الفتيات سجينات لتلك الوضعية؟!! إزاء هذا السؤال هناك جواب حاضر سلفاً في المخيال الإجتماعي للناس. هو جواب/ حكم نمطي يتربع عرش الإحتمالات!! إنها العانس “القبيحة” التي افتقدت معايير الجمال التي تجعل منها زوجة مرغوبة !! لم يأتِ هذا الحكم النمطيّ من العبث، بل من بنية إجتماعية ذكورية تفترض الجمال الأنثوي معياراً أساسياً في الزواج، ذلك أنّ الرجل لا يبحث عن شريكة (في الجسد والجنس والروح والفكر والعاطفة)، إنّما يبحث عن جسد أنثوي، وليمة شهية سيلتهمها كاملة ليبحث لاحقاً عن وليمة أخرى!! ولكن!! هل هذه الأحكام النمطية صحيحة بالمطلق!!
لا بدّ من التأكيد أنّه حتى لو كان الجمال معياراً أساسياً في الزواج، فهو ليس المعيار الوحيد!! هناك معايير أخرى كالقرابة (بنت العم مثلاً) وقوة المرأة في العمل (خاصة في العمل الزراعي) والمال والنسب والصيت والسمعة والإرث ومقدار التديّن….. إنّها معايير كثيرة نجعلنا نصادف يومياً الكثير من الزوجات/ الأمهات اللواتي لا يملكن إلا القليل جداً من الجمال أو أنّهنّ يصنفن أحياناً في خانة القبح. فهل تصحّ تلك التنميطات المطلقة بين ثنائيات مثل متزوجة/ عانس، جميلة/ قبيحة؟؟؟!!
نعتقد أنّ المسألة أكثر أهمية من معيار الجمال والقبح. إنّها مسألة تدفعنا للتسأؤل: إذا كنا قد نفينا عن الرجل صفة العنوسة بحجة العزوبة الإرادية اللامشروطة، فما هو موقع “العنوسة” الأنثوية بين الإرادية واللاإرادية؟؟
يحضرنا بداية عدد من الأسماء المعروفة والتي لا بدّ من ذكرها: رابعة العدوية إمامة الصوفيين في زمنها وصاحبة مدرسة خاصة في هذا المجال!! ماري عجمي أديبة نابغة وشاعرة أصلها من حماة!! حسانة التميمية أديبة وشاعرة أندلسية!! هلين كيلر أعجوبة القرن العشرين!! مي زيادة الأديبة اللبنانية المعروفة!!!سلوى نصار عالمة الذرة الأولى والوحيدة في الشرق من بلدة الشوير اللبنانية!! أملي ديكنسون الشاعرة الأميركية الرائدة!! إليزابيت كيني مكتشفة العلاج الفيزيائي لمعالجة شلل الأطفال!! ويللا كاثر رائدة الأدب الروائي الأميركي!!
لقد أوردنا هذه الأسماء تمهيداً منّا لكي نسأل القارئ. إذا كان من البداهة وجود فتيات عانسات لأنّ العريس المنتظر(المبادر) لم يطرق بابهنّ، فهل تعتقد يا عزيزي القارئ أنّ مثل تلك النساء اللواتي ذكرنا أسماءهنّ أعلاه كنّ يعشن العنوسة المعنونة بالإحباط النفسي والتعاسة والخوف من الوحدة؟؟!!! وبالتالي هل تعتقد أنّ النساء اللواتي تسميهنّ اليوم “عانسات” هنّ في خانة واحدة، هذا مع العلم أنّ تلك النظرة الذكورية- وبغضّ النظر عن الخانة- هي نظرة مرفوضة ومدانة بالكامل!!
برأيي الخاص إذا ما كان علينا أن نقرن العنوسة بتلك الحالة المأساوية التي فرضها المجتمع على المرأة فسوف يكون هناك متزوجات “عانسات” بالمعنى المجازي للكلمة!! وإلّا فما هو حال أولئك النساء اللواتي يخضعن للزواج الإجباري!! ما هو حال النساء اللواتي يستعبدن من خلال الزواج المبكر أو حتى الطفولي ليكنّ مجرد أرحام للإنجاب المستمر؟ ما هو حال أولئك اللواتي فقدن مجمل أنوثتهن وهنّ في بداية الثلاثين ولديهنّ عدد كبير من الأولاد!! أي تصنيف ستخضع له هؤلاء النساء.
إنّ في هذه المقالة دعوة مبطنة كي نتوقف جميعاً عند وضع المرأة تحت مجهر المراقبة!! فلنتوقف عن معاملتها كضلع قاصر وعنوان للشرف الذي يُفترض بالرجل حمايته، عبر إدخاله في عداد ممتلكاته. فلنتوقف عن جعل العقلية الذكورية بوصلة حياتنا ولنحاول أن نرى في المرأة كائناً مستقل، له من العقل الإرادة والقدرة وحق المبادرة ما يتساوى به تماماً مع الرجل.
(سوسان جرجس)