اذا كان علم النفس يعتبر العدوانية (متضمنة العنف) غريزة طبيعية في الإنسان، فما هي وجهة نظر علم الإجتماع إزاء هذا المفهوم؟؟ هل هناك عنف بالمفرد أم بالجمع؟؟ أي عنف ذلك الذي يمارس على المرأة في المجتمعات البطركية؟ لماذا وكيف؟ ما هي باختصار الآليات السلطوية التي تستخدمها المرأة للحدّ من هذا العنف؟؟
تعريف العنف:
يُعرّف العنف كونه سلوكاً “يتسم بالعدوانية، يصدر عن طرفٍ قد يكون فرداً أو جماعة أو طبقة إجتماعية أو دولة بهدف إستغلال وإخضاع طرفٍ آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة إقتصادياً أو إجتماعياً أو سياسياً، مما يتسبّب في إحداث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفردٍ أو لجماعة أو لطبقة إجتماعية أو لدولةٍ أخرى”. ليس العنف في هذا الصدد ظاهرة بيولوجية أو نفسية وإنّما هو ظاهرة ثقافية نسبية. إنّه فعل مكتسب يتشكّل تبعاً للنظام الإجتماعي والثقافي والوضع الإقتصادي والمستوى المعيشي والسياق التاريخي للمجتمع. وهو يستوجب، إن كان على الصعيد الفردي أو المجتمعي، علاقة ثنائية تضادية ما بين السيطرة والخضوع أو بين الهيمنة والتبعية.
هذا هو تعريف العنف بشكلٍ عام، وأمّا العنف الرمزي، ذلك الذي ينضوي على العنف اللفظي والإيمائي والسيكولوجي وغيره، فهو حسب “بيير بورديو “كل سلطةٍ تتمكن من فرض دلالات بإعتبارها شرعية ومقبولة، وذلك عبر إخفاء موازين القوى التي تقوم عليها هذه السيطرة وهذه السلطة”. إنّه ذلك العنف “الناعم” الذي يفترض تواطؤ “الخاضع” مع “المهيمن”، حيث يغرق في التصورات والمشكلات التاريخية والإجتماعية بما لا يسمح له برؤية العنف الرمزي الممارَس عليه كشكل من أشكال العنف.
يمارَس هذا النوع من العنف عبر التفاصيل الحياتية كاللباس، واللغة، والحركة ضمن المجال، وأسلوب المشي والأكل والكلام والجنس، وذلك كأداة أساسية لإضفاء المشروعية على منظومة تلك المرجعية لتعبئة رضا الجماهير بها. بذلك يصير العنف مبرَّرًا أخلاقيًّا ومعقولاً، وهذا هو حال العنف الممارس على المرأة في المجتمعات البطركية.
وإذا كنّا سنبيّن موضعة مفهوم العنف ضد المرأة بشكل رسمي مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أنّ هذا العنف الذكوري وتبعاً للمنظور الأنتربولوجي يغور بجذوره التاريخية أبعد من ذلك بكثير.
تعريف مفهوم تعنيف المرأة:
إنّ تجليّات التمييز القائم على الجنس وإنعكاساته المباشرة على المرأة لم تجرِ موضعته ضمن مفهوم العنف إلّا مع الإعلان العالمي للقضاء على العنف المسلّط على النساء. وهو الإعلان المنبثق عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب التوصية عدد 48/ 104 المؤرّخة في 18 كانون الأول 1993. فعُرِّف العنف ضد المرأة على أنّه “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجّح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسّفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”.
إنّ مراجعة الفقرة الأولى من المادة الثانية العائدة للإعلان المذكور أعلاه ، كما مراجعة تقرير المنظمة العالمية للصحة لعام 2002 يبيّن أنّ العنف ضدّ المرأة (العنف المنزلي) يأخذ أشكالاً متعدّدة منها ما هو جسدي- جنسي ضمناً – كالضرب والإغتصاب الزوجي والإعتداء الجنسي على أطفال الأسرة الإناث؛ ومنها ما هو رمزي كالإهانة والحطّ من قيمة الشريك وإشعاره بالخجل، ومنها ما هو إستغلالي إقتصادي كالعنف المتصل بالمهر واستغلال عمل المرأة وأجرها .
وإذا كانت الدراسات الميدانية الكثيرة تشهد تعرّض النساء للعنف الذكوري بدرجات متفاوتة، وبأشكال مختلفة تتراوح بين مصادرة اللغة الأنثوية وجرائم الشرف المبنية على مخيال إجتماعي رمّز الشرف بطريقة جندرية، فما هي الدوافع التاريخية لهذا العنف ضد المرأة تبعاً للمنظور الأنتربولوجي.
العنف ضد المرأة من منظور أنتربولوجي:
تؤكّد الدراسات الأنتربولوجية والتاريخية أنّ الصراع بين الجنسين شكّل أولى مظاهر الصراع الإجتماعي داخل المجتمع البشري، وقد أدى ذلك الصراع حول النفوذ الإقتصادي والسياسي، وبالتالي حول المكانة الإجتماعية، إلى إفراز أدوار متمايزة، وصور إجتماعية ترسم حدود الهيمنة والخضوع لكل طرف من أطراف ذلك الصراع . إنّ العنف المبني على أساس الجنس هو ظاهرة متأصلة في البناء الإجتماعي؛ وهي على علاقة وثيقة بتشكيل الهوية الرجولية، بما تحمله هذه الأخيرة في طياتها من هيمنة وإستغلال ذكوريّ للمرأة بصورة عامة، ولجسدها بصورة أكثر دقة.
وقد سبق لعلماء أنتربولوجيا كثر من أمثال “مارسيل موس” و”فرنسواز إيريتييه” أن توصلوا في دراساتهم لإثبات أنّ الهيمنة الذكورية هي أساساً مراقبةٌ وتحكّمٌ في إنجاب المرأة، ضمن الفترة التي تكون فيها في مرحلة الخصوبة، سيّما وأنّ هذه الأخيرة مآلها الفشل في الجسد الذكوري. إنّ الرهان كله يدور إذاً حول تملّك إنتاجية المرأة الطبيعية، إلى درجة أنّ المرأة المسنّة، بحكم أنّها أصبحت خارج نطاق إعادة الإنتاج، فهي أقلّ خضوعاً للمراقبة الذكورية، ويمكن لها القيام بوظائف كانت محرّمة عليها من قبل.
بناء عليه يتعامل الرجل مع المرأة على أنّها جسد يجب إخضاعه وضبط جنسانيته بإستخدام كافة الآليات، العنفية وغير العنفية، وذلك من أجل المتعة الجنسية وضمان نقاء الذرية، ما يحمل دلالات القوة القضيبية التي لا تتوانى عن استخدام أي وسائل عنفية جسدية أو رمزية لإثبات وجودها.
ويبدو لنا أنّ المرأة ضمن المجتمع البطركي ومن خلال تنشئتها الإجتماعية كانت حريصة دوماً على الإضطلاع بدور حامية العادات والتقاليد، أو ربما حامية البنية الإجتماعية من “خطر” التغيير؛ لذلك فقد ارتكزت مقاومة المرأة للعنف الذكوري على إستثمار ما يؤبّد تلك البنية. بمعنى آخر فما تقوم به المرأة هو إستثمار جسدها الأنثوي لكبح عنف الرجل، متمثلة ذلك الجسد كأداة للمتعة ووعاءً للإنجاب.
وفي النهاية، وازاء النظرة الى المرأة كجسد وجنس يبتغى الوصول إليه وضبطه في الآن عينه، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: متى وكيف يتوقف عنف الرجل ضدّ المرأة؟؟ أهي التنمية البشرية؟؟ الوعي؟؟ الإستقلال الإقتصادي للمرأة؟؟ قراءة دينية جديدة تعيد للمرأة حقها المسلوب؟؟ كل هذه أسئلة يفترض الوقوف عندها والإجابة عليها في نصوص ودراسات تضع التغيير الإجتماعي نصب عينيها.
(سوسان جرجس)