الدكتور زاحم محمد الشهيلي – الشمري
تعني الدبلوماسية في حقيقة الامر بانها الشهادة أو الوثيقة الرسمية التي تتضمن صفة المبعوث أو الرسول والمهمة الموفد من اجلها، وتعني في المعنى الدقيق تلك الرسالة التي تحمل في طياتها آمال وتطلعات ورغبات حكومة وشعب الى حكومة وشعب آخر يجهل ما في هذه المطوية من حيثيات حتى يتم الافصاح عنها من خلال رسل السلام المبتعثين.
اما الدبلوماسي – تسمية مشتقة من وحي الدبلوماسية – وهو ذلك الرسول الأمين أو الشخص الطبيعي ذات الأهلية القانونية الذي يحمل تلك الوثيقة المقدسة ليبشر بها الى عالم مزدحم في العلاقات الدولية لم يكتشف الآخرون ما يحمله حتى يفضي بما تجود به قريحته ممثلا لشعب استودع فيه الأمانة بهدف ترطيب العلاقات الثنائية ومد جسور التواصل بين شعبين تختلف بينهما العادات والتقاليد والدين والنظم الدستورية والقانونية والمصالح السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وليس بالضرورة ان يكون الرسول ذلك الشخص المنافق ذو الوجهين كما يعرفه الاغريق والرومان في بعض ما يحمله الكلام من معنى.
ولهذا السبب يجب ان تتجسد في ذلك الرسول صفات الصادق الأمين الذي يتحلى بشخصية مثالية متزنة خالية من العقد والامراض النفسية وصراع الذات، ويتميز برحابة الصدر ورجاحة العقل وسمو الاخلاق التي تعكس الصفات الحميدة للشعب الذي تربى في ربوع روابيه وتنفس نسيمات هواءه النقية وشرب من ماءه فراتا عذبا .
وهذا التوصيف لا ينطبق على شخص دون سواه من موظفي الخدمة الخارجية وانما يجب ان يكون الجميع على قدم المساواة في الروحية والاندفاع والحرص لبلوغ الهدف المنشود، رغم انهم مختلفين من ناحية المهام الموكلة اليهم والسلم الوظيفي وتسلسل المراجع.
اما العقيدة الدبلوماسية فهي الايمان المطلق من قبل الدبلوماسي بما تحتويه تلك الرسالة من قيم بعيدا عن الجحود والمغريات والمحافظة عليها والتبليغ بها حين تترسخ مفاهيمها في ضميره ووجدانه ليجود من وحي الالهام الإلهي بكل ما هو خير وصلاح لتحقيق آمال وتطلعات شعبه وبما يرضي الله والضمير والذات الإنسانية.
لذلك فان المرء لا يستطيع ان يغرس العقيدة الدبلوماسية “قسرا” في ذات الشخص ووجدانه، وانما هي نابعة وناشئة مع تربية الإنسان المجتمعية القائمة على حفظ الضروريات من الحقوق والواجبات وصون الحريات وكرامة الانسان وامنه المجتمعي في تلك الرقعة الجغرافية التي تربى وترعرع فيها مصحوبة بالإستقامة في العمل والثقة العمياء بالنفس وبالاخرين التي تقابلها الطاعة العمياء في تبليغ الرسالة بعيدا عن التربص والتشكيك والمراوغة والمحسوبية والمنسوبية على حساب المصلحة العامة.
فحين نناقش ماهية العقيدة الدبلوماسية ياخذنا الحديث الى رسول توفرت فيه مواصفات وصفات تبليغ الرسالة، بحيث لا يمكن الطعن بامانته او المزايدة على اخلاصة، وأن لا يكون مُلكا لاحد وانما ملك للوطن والشعب، وهذه تربية اخلاقية ومجتمعية غرست في الذات الانسانية كما اسلفنا ولا تخضع الى النباهة والفصاحة والحكنة “المصطنعة” والمحاباة في ادارة الامور من قبل طرف يعتقد بانه يمتلك من الاخلاص والطموح ما لا يمتلكه الاخرون، والذي يقود في نهاية المطاف الى التشكيك في العقيدة الدبلوماسية التي يجب ان يؤمن بها الجميع صاغرين.
والعقيدة الدبلوماسية تعني التحلي بالصبر والاخلاق الحميدة والاخلاص بالعمل والسعي من اجل تحقيق الادارة الجيدة في التوظيف وتوزيع المهام من اجل تحقيق افضل العلاقات العامة على النطاق المحلي والاقليمي والدولي، وتقديم افضل الخدمات لابناء البلد المغتربين والحرص على مصالحهم ، وان تكون اينما تكون مصلحة شعبك ووطنك، ولا تعني المزايدة على مصالح الوطن والشعب والتربص بالاخرين والتجني عليهم والاساءة لهم، وانما تعني الاخلاص للوطن والشعب وقضاياه المصيرية وزرع الطيب اينما حلت الراحلة وسارت ليزهر مسيرها وردا ورياحين يتنفسها الاخرون صعيدا طيبا.
للاسف الشديد اضحت اغلب الدبلوماسيات في العالم لا تمثل الفكر البنيوي التنويري المعتدل الذي يهدف الى بناء علاقات طيبة على اساس المصالح المشتركة، وانما تمثل في كثير من الاحيان الفكر الانتهازي المتسلط المفروض بقوة السلاح والنفوذ الذي يهدد المشتركات بين الشعوب ويقوض السلام والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة لكثير من المجتمعات المتقدمة منها والنامية.
وتؤثر الخلافات السياسية والمصالح الشخصية والطائفية والفئوية والعرقية في كثير من البلدان سلبا على اداء الدبلوماسي في مهمته التبشيرية التنويرية التي آمن بمبادئها السامية وأخلص لها … ويعد الطعن بأهلية الرسول القانونية وشخصيته المعنوية تشكيكا بالعقيدة الدبلوماسية التي يؤمن بها وتشويها لوجهها الوضاح وتقويضا لعمله البناء، مما يجعل مهمته صعبة او شبه مستحيلة في كثير من الاحيان بسبب التخوين لاغراض التسقيط وليس من اجل المصلحة العامة، لتبقى العقيدة الدبلوماسية متأرجحة بين الشك واليقين.
لذلك فان العقيدة الدبلوماسية لا تفهم على اساس التداعيات النفسية والدعاية الذاتية وانما على اساس الممارسة العملية وقراءات الواقع ومستوى الانتاج الفكري والانتماء الوطني الروحي الذي يؤطر مساعي الشخص الدبلوماسي الذي اقترنت صفاته بصفة الانبياء الذين لو لم يبشروا بالايحاء الإلهي فانهم لن يبشروا بالكتب وبالرسالات السماوية السمحاء التي انزلها الله عليهم حبا باخلاقهم وثقة بايمانهم وتعبدهم واخلاصهم لله الواحد القهار.