ثمّة مذهبٌ سيكولوجي، أو مزعم، اسمه “Mind over Matter”. بما يعني قدرة العقل البشري على التحكّم في المادة. الموجوداتُ من جماد وعناصر، وحتى القيم المجرّدة، تغدو تحت سيطرة العقل، بعد إخضاعها لعمليات معقدة من التركيز الشديد. أجرى قسمُ علم النفس بجامعة أوتاوا تجاربَ لدراسة تلك الظاهرة وخرجوا بنتائج طريفة مثل النجاح في إخضاع حجر النرد وإجباره على السقوط على وجه معين حدّدوه سلفًا. يُطلب من المشاركين التركيز بشدة على رقم ما، وكتابته على ورقة قبل رمي النرد، وبتكرار المحاولة استطاع بعضهم بالفعل تجاوز نسبة المصادفة وقانون الاحتمالات، واستطاعوا رميه على الوجه المطلوب. وقال بروفيسور “فرانسيس باو” المشرف على التجارب: كلما زادت ثقةُ المرء بالفوز حقق نسبةَ نجاح أعلى.
وكثيرة هي الحكايا التي قرأناها حول أناس يحركون الأكواب والصحون بعيونهم بمجرد التحديق فيها والتركيز في خلاياها ثم أمرها أن تتحرك. فتتحرك. ولم يقل العلمُ كلمته النهائية حول الأمر. وأظنه لن يفعل؛ لكي يظل الغامضُ غامضًا ومثيرًا. لكن العلم يقول إن تفاعلا كهربائيا يتمُّ في خلايا الدماغ، في حالات الانشغال الذهني العميق والتركيز الحادّ، فيخلق مجالا مغناطيسيًّا بوسعه أن يؤثر على الإلكترونات في المادة موضوع التركيز. ومن ثم يبدّل فيها وفي تركيبها وطاقتها. بل إن ثمة نظرية تذهب إلى أن ظاهرة “الحسد” تتم على هذا النحو. حيث شعاعٌ كهرو-مغناطيسيّ يخرج من عين الحاسد إلى المحسود فيجعله يزلُّ أو يقع. أو يموت!!
وفي الحقل الفلسفيّ، وربما الإبداعي، يتقاطع هذا الأمرُ مع رواية “الخيميائي” للبرازيليّ “باولو كويللو” حين حدّثنا على لسان سانتياجو قائلا: “إذا آمن الإنسانُ بحُلم ما إيمانًا عميقًا، تآمر الكونُ كلُّه من أجل تحقيقه”. وقبله قال الشاعر الأمريكي “رالف أميرسون”: “إنَّ العالمَ يُفسح الطريقَ لمن يعرفُ إلى أين هو ذاهب.” والأمر ذاته شهدناه في فيلم مصري عنوانه “أنت عمري”. حيث حبيبان مصابان بسرطان الدم. راقصةُ باليه شابة تحلم بالرقص مع فرقة البولشوي الروسية، ولم تتمن في أيامها الأخيرة سوى أن تموت فوق خشبة المسرح. حلمها كان قويًّا وإيمانها بتحقيقه حاسمًا. بينما حلمُ الشاب بالشفاء ضعيفٌ، فكان كمن يستدعي الموتَ لكي يُسرع خطاه. فوق جسر النيل قالت البنتُ: “أتمنى أن تمطرَ السماءُ الآن لنركضَ تحت زخّات المطر!” وأمطرتِ السماء بالفعل رغم الصيف. ورقصت مع البولشوي. لكنها لم تمت فوق خشبة المسرح. لأنها هزمت السرطان وأكملت حياتها. ومات حبيبُها الذي لم يعرف كيف يحلم، وكيف يثق في حلمه.
اِشْتُقّ من مذهب “العقل فوق المادة” مذهبٌ آخر هو “Mind over Mind”، العقلُ فوق العقل. وهو طريقة للتغلّب على صعابنا بنفيها من دائرة الدماغ. فماذا لو أنك مُعسرٌ وتثقلك الديون؟ اقنعْ نفسَك أنك أثرى أثرياء العالم ولا تعرف فيم تنفق أموالك. الأمرُ أبعدُ خطوةً من أحلام اليقظة، وأقل خطوةً من الفُصام. شيءٌ يشبه اليوجا الذهنية التي تجعلنا نصدق أحلامَنا. فتتحقّق. شيء كهذا قاله “فرانسيس بيكون” قبل أربعمائة عام: “إن المرءَ سوف يصدّق ما يودُّ له أن يتحقق”. وهذا ما يجعل كلَّ إنسان متحمّسًا جدًّا لأفكاره ومعتقداته وربما أوهامه ولو لم تكن صحيحة. مثلما صدّق سجناءُ كهف أفلاطون أن ما يرونه على الحائط هو العالمُ الحقيقي ذاتُه ببشره وحيواناته وأشجاره، في حين لم تكن سوى خيالات وظلال وأوهام.
كلَّ ليلة قبل أن أخلد للنوم أنظر في مرآتي. ليس بهدف تجميليّ، بل هي ساحة المحكمة خاصتي. لو ارتكبتُ خلال يومي خطأ ما، أرى في المرآة وجها تعسًا. والعكس لو أتيت فعلا طيبًا أثناء النهار. عندي قصيدة قديمة عنوانها “ثقوبٌ تشكيليةٌ لا تغضبُ المرآة” تطرح الأمر بالتفصيل دون مجاز. بل هو واقعٌ عملي وعلميّ بحت. لأن جمالَ السلوك ينعكس بالفعل على الملامح فنرى أنفسنا جميلين بقدر ما أتينا من جمال وبقدر ما أحببنا الناس. والعكس. ولأنني أرتعبُ من عقاب المرايا أفكرُ كثيرًا قبل الإقدام على حماقة قد تفسد ليلتي بعدما أطالع قبل نومي وجها لا أحبُّ مرآه. رغم هذا، الحماقاتُ لا تنتهي! “الدينُ لله والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***
العقلُ والمادة … وعقابُ المرايا
اترك تعليقا