السجن في هذه الرواية عبور من الذات المثخنة بالمعانات إلى دقائق المعيش،وهذا هو المسار الإجباري الذي تسلكه الأرواح المتدفقة نحو المستقبل.[1]
سيرة الرماد، عنوان صريح يدل على واحدة من حالات التلاشي النهائي لنص ينتمي إلى أبجديات أدب السجون، إختار طواعية السير على نهج “مظفر النواب”: (أعرف أن الكلمة مخيفة،ولكن الصمت تتجمع فيه الوساخات). إنها الذات التي تقبع بين198 صفحة من الحجم المتوسط، تسرد الزنازن المتشابهة و اللباس الموحد و الأكل المقيت و النوم الذي يضاجع السيستام و العادة،ورقم لا قيمة له، اللهم موقعه ضمن تسلسل لا يخضع سوى لمنطق التتابع التصاعدي أو التنازلي،و شراذم “الحاج” و تجبرها،و مقادر الرفاق الشاحمة،و سياسة التنظيمات السرية،وحميمية العلاقات خلف جلبة رزمة المفاتيح،و أيديولوجية اليسار المتقدة … كل هذا مسلط بمعاول سردية خاصة في الإقناع، شبيهة إلى حد ما “بالإقناع السري” الذي تحدث عنه “فانس باكار” في ميدان التواصل الإشهاري[2].
جاءت الرواية في قسمين موزعين على مجموعة من الفصول تتعدد بتعدد أحجامها،قسم صك فيه (مولين) بصيغة المذكر حجم صراخه خلف أقبية الظلام و سراديب العدم وقلبه معلق بوجنتي (ليلى)،و قسم تروي فيه ليلى تفاصيل تعذيبها الذي لا يتحدد من خلال بعده المادي بل هو نابع من كبرياء الذات في مخافر الديستي[3] و محاضر “الحاج” الفارغة، بالإضافة إلى مناكفة العلاقات الرفقاتية و التطاحنات التي تفرزها.
صوت الساردين (المذكر و المؤنث)، في كل أركان الرواية وهما يحاولنا وضع اليد على جراح الحقيقة السجنية بكل عفوية ساخرة؛ نكت،طرائف،جلبة المزاح،قهقهة الحكايات،المفارقات الضمنية السوداء … كلها تحاول الإضحاك أولاً،وتعرية عهر المكان ثانياً. إنها القوة في مواجهة الجبروت القاصي،تراجيكوميديا تتحدى صمت الظلام و فحيح برودة الجدران و أزيز الأبواب الصدئة،و قلقلة رزمة المفاتيح عند الصباح و عند مغيب الشمس. إنها نبرة الفضح عبر التفاصيل الأكثر دقة مع التصوير المباشرلأصغر الإشارات و أبسط الأفكار و المشاعر والكلام و أكثرها سذاجة و تفاهة و هزالة. السخرية خلف ديمومة صلابة القضبان،وسيلة من وسائل هزم الجلاد و قهره و رد كيده.
كيف نواجه سوط الجلاد الجاثم بالإبتسامة؟
يقول (صلاح الوديع) في هذا الصدد :” السخرية في الكتابة السجنية تعالٍ على حالة الإعتقال و التعذيب و استهزاء منها.فإذا سخرنا من هذه الظواهر صرنا أكثر تحكماً فيها،و تلك قوة السجناء في قهر العزلة و التغلب على الحرمان”.[4]
ويسترسل قائلاً : … لكل فعل رد فعل مساو له في القوة و مضاد له في الإتجاه،يمارس الفاعل السجان تلذذاً بتشظية الجسد المسجون،لكن رد فعل المسجون سيكون بالحدة ذاتها أو أكثر جاذبية عبر وساطة الفعل الساخر، وكأننا هنا إزاء قوتين : قوة التعذيب الجسدي في مواجهة التعذيب اللغوي. وهنا جاء النص السارد ساخراً من جبروت القوة،فالسخرية هي الملاذ الأخير الذي يمكن أن تحفظ به نفس إنسانية تتعرض لمحاولة القهر و المحو و الإذلال إتجاه قوة جبروت لا راد لها (…) و أعتقد أن السخرية ربما لكونها الملاذ الأخير،فهي السلاح الفتاك الذي لا يستطيع اتجاهه القهر فعل أي شيء.[5]
صحيح أن ميكانيزم السرد لا يقودنا إلى الحقيقة الثابتة رغم _نسبيتها_ كما لا يمكننا من إستعادة “واقع خالص” من خلال فعل لغوي،إلا أنه مع ذلك قادر على (التشخيص). فقط، تشخيص الحقائق.و إن حقيقة (سيرة الرماد) يلخصها مقطع من ذات الرواية (ص 07)، يحق لنا بكل شرعية و مشروعية إستحضاره هنا على سبيل الختام :
(…) ماذا تبقى من العمر بعد عشرين عاماً في دهاليز الإسمنت. عشرون عاماً إلتهمتها برودة الجدار و صدأ القضبان (…) سيقذف بنا مباشرة إلى المستشفيات لنلوك فيها بقية العمر بعد أن زرع الجدر سم الجليد في أطرافنا لنحصد أمراضا بالجملة تتوزع علينا بالتقسيط (…)[6].
_______________
[1] عبد القادر الشاوي : رواية سيرة الرماد،ظهر الغلاف.
[2] Vance Packard : La persuasion.Clandestine,édcalmann-Levy 1984
[3] الجهاز الذي يشرف على العمليات الإستعلامية و الاستخبارية الداخلية بالمغرب.
[4] الكتابة و السجن،حوارات و نصوص عبد الرحيم حزل،افريقيا الشرق،2008،ص 112
[5] نفس المرجع،ص76 – 77
[6] سيرة الرماد،خديجة مروازي،افريقيا الشرق،الدار البيضاء، 2000، ص07