* العرض المسرحي .. بين الفعل والمتلقي *
سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد مسرحيّ
يُعتبر ( فن المسرح ) بجل تصانيفه الدرامية ، وتنوع صور أطروحاته الفنية المداريسة، والأسلوبية، والمذاهبية العرضية المتنوعة وبالإجمال، هو (فن اللحظة) بمعنى انه يقيم قداساً عرضياً في رحم التوقيتين الحاضرين في ذاكرة العرض المسرحي ، المبنيين على منطق الدلالتين ( الآن ) و ( هنا ) لتنتفي الحاجة في موعد الفرجة الإبداعية الآنية للمنتج المسرحي ، للاستعانة المثلى المقدسة بالضبطية الواقعية المنطقية الملزمة لقوانين الزمكانية الطبيعية خارج قاعة العرض ، وبذلك يتحتم على ( العرض ) الاتكاء على ديناميكية الإيقاع الخفي الذي تظهره جليا مواقفية اللّحظة المتثورة في زمن الدلالات ، واللا مرائيات ، والإحالات المتراصة لاستدعاء الماضي ، من خلال صور مخيلاتية استرجاعية سابقة لضمان تحقيق أهداف النمط التأسيسي لإحكام مجسات الحبكة في جسد (الثيمة) Theme)) وإحالتها برمتها لفرضية الفرجة ، وبالتالي لتكون عصبا مغذيا لديناميكية التغيير من خلال مؤسسة تأشير الخلل ، ومواطن التشتت المجتمعي والذاتي على حد سواء ، وفي تصور لاحق ، لجلاء تلك الضبابية المحتفلة داخل جسد المتخيل الصيروري المستقبلي ، وهو يقبع بذات اللحظة التي تأجج ملامح تلك الوظائف والخاصيات والتركيبات والإشارات والعلامات والكودات السيميائية ، وتعدديات المطامح الفكرية في قلب مكنونات الفضاء الثيمي والحكائي ، وجلّ المعالم الفنية التقنية المحاذية للعرض ، لتحيلها مرة ثانية بأصوليتها وأيقوناتها الى وحدات مضامينية ، يتوخى منها إحالة ( المتلقي ) بالناتج النهائي صوب زمكانية المثول الذهني التغييري الآني الحاضر ، الى متصور تحليلي مُتخيل ، مؤطر بذكاء فطري ، مشفوع بمناهجية استقرائية دلائلية لتقييم المنتج العرضي ، وفهمه ، ومن ثم القفز فوق براهينه الفكرية ، لتفكيكه ولتفسيره وتحليله بمجمل أدوات تلك الظواهر والأيقونات الناتجة عن العرض لإقحامها من الناحية الإنسانية أولا والاستنباطية الاستاتيكية ثانيا والتحليلية الفطنة ثالثا ، الى مجمل عناصر فهمية حاضرة متقدمة عن المنتج العرضي داخل لمعان واتقاد ملامح زمكانية ذات العرض المسرحي .
ويبدو ان هناك عناصر عديدة ، وفرص توصيلية غير متكافئة ، بين الفعل داخل العرض المسرحي من جهة ، باعتباره خارج حدود زمن صالة ( العرض ) ومكانها وبيئتها ، وبين ذلك الايقاع الخفي الذي يغلف مناخ الاستقبال السليم الفطن لدى المتلقي في لحظة العرض ، يجدر بنا الالتفات اليها ومعالجتها تقنيا وإخراجيا لنحصل على اعلى درجة من درجات الاستقبال والاستجابة المثالية .
ومنذ اللحظة الاستهلالية الاولى ، وتحديدا في ابتداء المشهد المقدماتي المؤسس للفعل الرئيسي المؤثر في عينة الحكاية ، والأفعال الاخرى المساندة للفعل الأساسي ، وتمازج تعبأة الشخصيات بالشحنات السيمائية المستندة الى لغة رفيعة ، تعتمد في جوهرها مغازلة الايماءة والعلامة والكود ، لتحليهم بالاجمال الى مكونات دلائلية لغوية ، ترتكز على افعال مادية غنية بالفعل التواصلي الفخم ، واستضافة جملة من الوسائط والوسائل التقنية الفنية السينوغرافية الأخرى ، والتي لم يدرك (المتلقي) خفاياها ، بل راح يفتش لها عن خلاص مثالي كي يقولبها داخل ذلك الشتات الذي يعيشه اثناء حدوث الفعل اللحظي الآني ، والتي ستحيله بالتالي الى عنصر مهمش من عناصر استكمال عملية النفع العرضي المشترك ، لأنه سيستنفذ جل طاقته الإدراكية التحليلية الانية ، داخل معترك فهمه الاستقبالي .
إن عملية ضبط الإيقاع الخفي بين المتلقي وبين العرض المسرحي يعد من الضرورات التوافقية ، والمجسات الاتزانية ، التي تعتمد عليها قواعد انشاء مراكز استقطاب محصنة في نظرية التلقي ، ووفق عتصريّ، الارسـال ، والاستقبال ، على أعتبارهما عنصرين مهميين من عناصر نظرية التلقي التي يؤكد عليها التزامن الموضوعي في توصيل الافكار والثيمات عبر المنتج الابداعي المدون ابتدءا ، ومن ثم ليصار بعد جهد الدعائم التفسيرية عبر اللغة التحليلية الاخراجية ( الميزانسين ) ( Mecan sean ) باعتبارها اللغة الجمالية المنشأة والمؤسسة للنتاج التفسيري الفاعل في العرض المسرحي 0
أن الفعل المسرحي هو مجموعة دلائل رمزية وعلامات أشارية وكودات وخزين متراكم من الصور المرئية اللونية ، وجملة من الرموز اللا مرئية والمستترة خلف براهين النمط الاستنباطي الذي يتداركه المتلقي عبر مجساته الألتقاطية المتوثبة لتفسير الظاهرة المشهدية المكتنزة بالوقائع والاشكال ، وتحليل المكنونات التي يستقبلها عبر مخليتة اللونية الصورية الجمالية المبصرة الآنية ، وحيث ان فن المسرح بطبيعته العرضية يحتضن جل الفنون المحاذية والمكملة لفرضية (العرض) فانه ووفق امتياز هذه الفرضية ، يمتاز كذلك بمحفزات القدرة على تحرير هذه الفنون من قولبتها التخصصية البحتة ومن التزاماتها المهنية المتفردة الاصلية في مناطق اشتغالها لوحدها ، بمعزل عن قداسة العرض ، لدمجها بالكلية وتوحيدها في بودقة واحدة لاحداث ذلك التصاهر والتلاقح والتلاقي الجمالي التوزيعي داخل مواطن الترتيب المشاهداتي في المجال التحضيري البصري داخل بصيرة (المتلقي) لكي نخلد الى الاستطاعة في نزع ملكـة تلك ( الاستجابة ) ( Response ) المثلى من خلال التواصل الحقيقي بين الفعل الحاضر في خاصرة الـ(الآن) و(هنا) واحالته بالتالي الى صور مرئية ذات طبيعة لغوية ممنهجة ، تبشر بفهمية عالية من لدن المتلقي بأعتباره احد طرفي المساهمة الفاعلة في صنع المتخيل البصري وتفسيرة وتحليله ، والخروج منه بعد ذلك بمحاضن فكرية نافعة بالجملة والافراد ، من اجل تحقيق رغبة ذلك المبهر الخــلاق النبيل ( العرض المسرحي ) ، باعتباره المؤسسة الاخلاقية المنفذة لجملة المتغيرات الحاصلة في جسد المجتمعات والذوات البشرية ، ووفق معايير إنتعاش الفعل المسرحي والكشف عن تلك الخيوط الايقاعية الخفية بين المكونين الأساسيين لمعادلة التواصل الجمالي التفسيري الحتمي ( الفعل – المتلقي ) ( الفاعل – المتفاعل ) والمؤثر الحقيقي في حاضرة العرض المسرحي .
لقد تطورت ( نظرية التلقي ) (Reception theory ) على مر العصور والقنوات الفلسفية التنظيرية ، بتطور إخصاب المنتج الإبداعي ، والتي حاولت جاهدة ان تجد لها مبرراً جمالياً يقودها لتهيئة المناخ الخصب بين المتلقي ، باعتباره الظاهرة المجيدة لعملية التفسير والتغيير ، وبين الفعل باعتباره الأداة الحركية المؤثرة في رحم ذلك التغيير ، ولعل من ابرز المنظرين لهذه النظريـة (هانز جونس) حيث أقر على أن هناك خطا ً وهميا ً متوازياً بين نظرية المنفعة والبهجة ، وبين نظرية التلقي ذاتها ، ولو أخضعنا هذا الاستدلال وفق المنظور الفهمي لما يتمتع به العرض المسرحي لوجدنا بان القراءة الادبية المتنوعة شرط من الشروط الاستباقية الضرورية ، لتنشيط عملية التفسير والتاويل ومن ثم عملية البناء الجمالي للمشهد المسرحي .
ومن خلال ما تقدم ، علينا ان نقترح مجمل شرائط تحضيرية أبتدائية افتراضية ، يجب ان تتوافر في معارف المتلقي البصرية ، والذهنية التحليلية ، وهي غير ملزمة البتة ، وان كان توافرها ضروريا في ذهن المتلقي ومجساته الاستنباطية ، ومدركاته الحسية ، باعتباره المفسر الانتهائي للفعل المسرحي ، والمنتفع من فرضية العرض المسرحي بالفرجة الجمالية المثالية ، وفي تقديم مائدة لونية – جسدية – لغوية منتخبة ذات قيمة حضارية تغييرية ، والتي ستحيله بالتالي الى أداة فاعلة ومؤثرة في جسد الذات البشرية ابتدءا ، ومن ثم في الهيكلية الجمعية بالاجمال ، وتلك الشرائط سترتبط بعملية تنشيط فرضية استقبال الفعل المسرحي ارتباطا تأسيسيا ضمنيا وهي في رأينا كالتالي .
1- إدراك مسلمات الفروق الواضحة ما بين قراءة النص المسرحي ، وما بين العرض المسرحي ، واستخلاص النتائج المثلى بينهما لامتلاك ناصية ملأ الفراغات والمساحات البيضاء الحاصلة بينهما ( التأويل ) .
2- الفهم الابتدائي للوازع الجمالي والقدرة التحليلية الإدراكية الفاعلة في تأثيث المناخات اللا مرئية المتداخلة في متن الفعل المسرحي .
3- امتلاك ناصية القدرة الالغائية الحتمية ، لما هو خارج اللحظة الآنية لمتعة المشاهدة ، وإلغاء كل ما يتعلق بالذهن الحاضر المتقد البصرية من نوازع خارجية ، وقذفها خارج صالة العرض .
4- التوأمة بين المناخات الذاتية الداخلية ، والاجواء الجمعية الخارجية ، وبين الفعل المسرحي ، لإسقاط تلك الصيرورات التغييرية الحاصلة في حاضرة الفعل المسرحي ، الى رحم المشكلة الحيثية المأزومة داخل الحواضن الذاتية والجمعية ، لتفكيكها ، وتفسيرها ، وتحليليها ، ومن ثم إعادة بناء هيكلتها المستقبلية ، وفق منطوق الصدمة التغييرية الحاصلة في جسد اللحظة للفعل المسرحي .
5- اعتبار العرض المسرحي ابتداءً ( فرجة ) جمالية منتخبة بارادة متفردة حقيقية عالية الإدراك ، وذات دراية واعية تصب بذات القدر من الاهمية في مصلحة السلوك الذاتي والجمعي بالعموم .
ومن هنا تتجلى أهمية المشاهد ( المتلقي ) في إخصاب وإغناء القيمة الجمالية للفعل المسرحي داخل جسد العرض ، باعتبارهما الأداتين الفاعلتين في تأسيس المؤثر العرضي ، وتفسير الإيقاع الخفي بين الفعل ، والمتلقي ، بذات اللحظة الآنية المتوهجة داخل صالة العرض المسرحي ، وملاحظة التأثير الفاعل خارجها وإنعاش ذلك الخط الجمالي الممتد من العرض المسرحي، الى الفعل وبالتالي احالته الى منفعة حسية، وعقلية وعيوية للمتلقي.
سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد مسرحيّ / العراق