العربية بين الأصل والاصطلاح
قراءة في كتاب “اللغة العربية الخامسة” للأستاذ الدكتور محمد تقي جون
الدكتور صالح الطائي
اللغة هذه المفردة التي تجتمع فيها كل مؤشرات حياتنا المعاصرة بعد أن رقتْ من مجرد إشارات بسيطة إلى منظومة متشعبة، هذا الكائن الاعتباري الجميل والمدهش الذي يترجم مشاعرنا وما تجيش به عواطفنا ولوعة محبتنا وبوادر غضبنا وشدتنا ونزقنا واستكانتنا وهدوئنا وترنيمات دعائنا وتنمرنا وضعفنا وقوتنا وقسوتنا ورضانا وسعادتنا وتعسنا وحزننا، لم تعد مجرد وسيلة، بل هي كائن يشاركنا الوجود، ولد معنا وكبُرَ وشب وشاخ معنا، ويستحق منا أن نقدره ولا نغمط حقه، وربما لهذا السبب ولأن لها ثلاثة مستويات: الاستهلاك اليومي، والإبداع الأدبي، والدراسات العلمية، كانت اللغة وما تزال وستبقى، ساحة بحث لعلوم عديدة، منها علم اللسانيات، وعلم الانثروبولوجي، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والطب والسلوك، وقد اهتمت الدراسات العلمية والإنسانية بمفهوم اللغة قديما وحديثا بل إن اهتمامها اليوم أوسع مما كان عليه من قبل؛ فاللغة على المستوى العلمي هي الخصيصة الإنسانية التي تشتغل وفق خوارزميات منطقية قادرة على توصيف الفكر الإنساني وترجمة محتواه، وإعادة انتاج المعرفة، وتسعى على المستوى المجتمعي إلى تقريب الرؤى وفض النزاعات والتعبير عن المشاعر وتسيير دفة الحياة وإدارة شؤون العلاقات الفردية والمجتمعية.
واللغة من حيث التركيب هي: الألفاظ والمعاني والقواعد (1) التي تتعلق بوظيفة التخاطب والتفاهم والتبادل المعرفي بين جماعة من الناس، وهي مجموعة المصطلحات والمرادفات التي دونها العلماء في المعاجم كونها تُعبِّر عن الجماعة الناطقة بها، وعن نفسيتها، وعقليتها، وطباعها ومناخها الاجتماعي والتاريخيِ أيضا. وهي ظاهرة سيكولوجية اجتماعية ثقافية اُكتسبت عن طريق التجربة والاختبار، لتترجم معانٍ تراود الذهن، وبهذا تكون اللغة نتاجا اجتماعيا هو عبارة عن مرآة عكست تاريخ الأمم واهتماماتها.
أما من حيث التعريف فمعناها في مختار الصحاح للرازي: لغا، وألغى الشيء أبطله، وألغاه من العدد ألقاه منه، واللاغية اللغو، قال تعالى: {لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} أي كلمة ذات لغو. واللغة أصلها لُغيِّ أو لغو، وجمعها لُغى ولغات. ومعناها في مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني: لغا اللغو من الكلام ما لا يعتد به.. وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور.. وقد يسمى كل كلام قبيح لغواً قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}.. ولَغِيَ بكذا أي: لهج به لهج العصفور بلغاه أي: بصوته. ومنه قيل للكلام الذي يَلهجُ به فرقةٌ فرقةٌ: لُغة.
أما في الاصطلاح فاللغةُ: أداة معرفية تتكون من نسق من الإشارات والإيحاءات والرموز والأصوات، طورتها الأمم بعد الكثير من التجارب لتصبح وسيلة من أهم وأنجح وسائل التفاهم والاحتكاك والتواصل بين الأفراد؛ للتعبير عما يدور في أذهانهم من أفكار ورغبات ومصالح ومهمات ومطالب ومشاعر، وهي بذلك مثل غيرها من الظواهر الاجتماعية الأخرى تتأثر عادة بالمنظومة المجتمعية لكل مجتمع مهما كان صغيرا أو مقفلا على نفسه، ولذا نراها تزدهر بتقدم المجتمع وزيادة معارفه، وتندثر بإهمال أهلها لها نتيجة الضعف الفكري والفقر المادي، وهي كائن حي ينمو وينضج ويتطور ويمرض ويشيخ ويموت. من هنا وصفها ابن خلدون في التبرير بأنها: ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. وقال عنها في المقدمة: “إعلم أن اللغة هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل ٌّ لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام. فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان”.
وذهب ابن جني في الخصائص إلى أنها: أصوات يُعبِّرُ بها كلُ قومٍ عن أغراضهم. ورأي ابن حزم فيها أنها: ألفاظ يعبر بها عن المسميات، وعن المعاني المراد إفهامها. وذهب نعوم تشومسكي إلى أنها وسيلة للتعبير عن الواقع وما به من أحداث، متجاوزةً الحدود الزمنية والمكانية لهذه الوقائع.
ولغتنا العربية واحدة من مجموعة اللغات السامية القديمة، وهي تحديدا من مجموعة (اللغات السامية الوسطى) التي تندرج من أصل لغوي واحد، وتتألف منها ومن العبرية والسريانية، وتختلف بشكل كلي عن اللغة الحميرية أو الجعزية ولغات أخرى تشكل مجموعة (اللغات السامية الجنوبية) بشقيها الشرقي والغربي. وهي برغم ما تعرضت له في مسارها، تمكنت من الحفاظ على هيبتها وهيئتها الكلية وأطرها العامة، ونجحت في الثبات بوجه عاديات الزمان مع ما أصاب جوهرها من التبدل والتبديل، على خلاف أخواتها من مجاميع اللغات السامية الأخرى التي انقرضت غالبا أو اضمحل وجودها وانحصرت في أضيق الزوايا، ربما لأنها لم تلق العناية التي لقيتها اللغة العربية، أو انها لم تكن تملك مقومات البقاء مثلما هي العربية في طبيعتها.
وبرأيي الخاص أن العربية وجدت ظروفا مؤاتية لم تحصل عليها أخواتها اللغات السامية الأخرى، منها جزالتها وقوتها ومطواعيتها في التجديد والتضمين والاشتقاق والنحت، ومنها طبيعة عيش المتكلمين بها التي تتنوع امتداداتها من البداوة إلى الريف إلى الحضر، وهي البيئات التي خلقت ما يعرف بـ”ألسنة القبائل”، تلك التسمية التي أطلقت على لهجات العرب التي كانت القبائل العربية تتحدث بها، حيث التباين الواضح في النطق واللفظ، والإدغام، والإظهار، والتفخيم، والترقيق والإقلاب وغيرها، مع وجود مشترك ثابت مع اللغة الأم التي تجمع هذا الطيف تحت عنوانها العام. فضلا عن ذلك جاء نزول القرآن الكريم باللغة العربية دونا عن كل لغات العالم الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، فأسهم في تشذيبها وتهذيبها وتنقيحها وانتشارها وخلودها، ولاسيما بعد أن أصبحت لغة أداء أغلب العبادات بالعربية حصراً.
ولكون اللغة، أي لغة هي الأداة التي استخدمها الإنسان عبر تاريخه الطويل في التعبير عن تفكيره وما يجول في خاطره، والتعبير عن مشاعره ورغباته، والوسيلة التي سد من خلالها احتياجاته، وفهم من خلالها رغبات وطلبات الآخرين، نجدها على مر التاريخ محل اهتمام العلماء، كل منهم قد درسها من زاوية تخصصه الدقيق، فتناولها علماء الأنثروبولوجيا من ناحية الاختلافات اللغوية بين الأمم والشعوب والجغرافيات، وتناولها المؤرخون وعلماء الاجتماع من ناحية التغيرات التي طرأت عليها تاريخيا، ودرسها علماء النفس ليكشفوا من خلالها ـ باعتبار أنها الأداة الأساسية لاتصال الإنسان بالغير ـ عن الوظائف النفسية للإنسان الكائن الوحيد الذي يستخدمها في تخاطبه مع جنسه، أما النحويون واللغويون فتناولوها من ناحية قواعدها وتكوين وتركيب جملها ومعاني كلماتها ومفرداتها ونحوها وقواعدها.
وعلى العموم اهتم جل هؤلاء منذ أقدم العصور بنشأة اللغة، باعتبار أنها من أهم المُؤَسِسات والمُنْشِئات للروابط الاجتماعية الإنسانية، فذهب بعض العلماء المسلمين إلى أن اللغة توقيفية مثل بعض العبادات، وهي وحي من عند الله تعالى، مستندين بمذهبهم هذا إلى قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وعَلَّم آدَم الأسماء كلَّها}، ومن هؤلاء ابن فارس وآخرون، بينما ذهب ابن جني وآخرون إلى أن الله تعالى أقْدَر الإنسان على وضع الألفاظ واستخدامها، أما اللغة فهي اصطلاحية ابتُدِعَت بالتواضع والاتفاق. هذا ما يتضح من قول ابن جني: “غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف”.
وهناك من رأى أن اللغة بدأت بالمقاطع الطبيعية التي تَفوَّه بها الإنسان عفويا أثناء استعمال أعضاء جسمه في العمل اليدوي.، وهي مقاطع لا زال الإنسان يطلقها أثناء العمل الجاد والمنهك مع كل ضربة يضربها. وغير ذاك وهذا هناك من اعتقد بأن نشأة اللغة كانت في الأصل محاكاةً لأصوات الطبيعة مثل: أصوات الحيوانات والطيور، وأصوات الظواهر الطبيعة كالرعد والمطر والريح وخرير الماء، ثم مع تقدم الإنسان تطورت الفاظ المحاكاة تلك، وتحولت إلى صيغ ثابتة مميزة. ومن دون الرؤى وجدت هذه الرؤية قبولا واستحسانا من قبل بعض اللغوين المعاصرين الذين اعتبروا أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية، تتفق في أغلب وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل. فالطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية.
يعني هذا أن هناك مباحث عديدة في نشأة وتعريف وطبيعة اللغة شغلت بال العلماء والباحثين عبر التاريخ، وأنه من الصعوبة بمكان إحصاء عدد الذين اهتموا باللغة العربية بالذات ـ باعتبار أنها أصل موضوعنا هذا ـ مثلما هي عملية احصاء عدد الذين أساءوا إليها، وبين هذا وذاك عملت الأحداث على فتح ثغرات في جدارها المتين تسببت بانهيار بعض قلاعها ولاسيما يوم تمكنت الهجنة من تأسيس موطئ قدم لها في بنائها الشامخ، وأخذت تنافسها على الصدارة مدعومة بجيش من المستعربين الباحثين عن الجاه والمال والكسب والوجاهة؛ بعدما وجدوا أن أهلها بدأوا يتخلون عنها وكأنهم ملوها، أو أنهم انشغلوا بغيرها.
وما يهمنا في هذه القراءة، وما ينطبق عليه جل الحديث هو مسار اللغة واتجاهها البنائي صعودا، والضموري نزولا تبعا لتطور الأحداث وتداعياتها لأن ذلك هو محور ما أراد الباحث الأستاذ الدكتور محمد تقي التأكيد عليه في كتابه الذي تناول فيه قضية تهجين الإنكليزية للعربية المعاصرة بالألفاظ والمعاني والقواعد وهو منهج مختلف في دراسة المعجم العربي وكتب التصحيح اللغوي، وأعتقد أنها محاولة تصحيحية مدعومة بالعلم الذي أكدت اللغة ذاته، وآن له أن ينصرها في محنتها وأزمتها، ففي كتابه الاتجاهات الأساسية في اللغة نقل رومان جاكوبسون عن ستيفن ملارميه قوله “إن العلم الذي وجد في اللغة تأكيدا لذاته عليه أن يصبح الآن تأكيدا للغة”. وقد يكون سعي الدكتور محمد هذا قد جاء بوازع من ضمير لنصرة اللغة التي يحبها.
إن تخصص الباحث الدكتور محمد تقي في اللغة العربية فضلا عن تدريسه لها في الجامعة، وحبه لها وحرصه عليها، كل ذلك زائداً الملكة العلمية والمؤهلات التي يحملها، لم تؤهله لهذه المهمة الصعبة فحسب، بل وجعلته يشعر أن الواجب الشرعي والأخلاقي والوطني يلزمه بفعل ذلك وفق مقولة الجويني في كتابه البرهان في أصول الفقه: “حق على كل من حاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن وبحقيقته وفنه وحده”. وقد بين هذا الحب في مقدمته التكي كتبها للكتاب بقوله: “إن إحياء لغة العرب واجب ديني أكثر من أي شيء آخر”. وكم استوقفتني مقولة السيوطي في كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها: “إن الإنسان هو المتمدن بالطبع، والتوحش دأب السباع، ولهذا المعنى توزعت الصنائع، وانقسمت الحرف على الخلق، فكل واحد قصر وقته على حِرفة يشتغل بها لأن كل واحد من الخلق لا يمكنه أن يقوم بجملة مقاصده فحينئذ لا يخلو من أن يكون محل حاجته حاضرة عنده أو غائبة بعيدة عنه، فإن كانت حاضرة بين يديه أمكنه الإشارة إليها، وإن كانت غائبة فلابد من أن يدل على محل حاجته وعلى مقصوده وغرضه”.
ويعني هذا أن غاية الباحث النزيه الجاد الذي يخوض فيما يراه بحاجة إلى التنقيح والتهذيب والتصحيح هي الوصول إلى حقائق الأشياء وجوهرها المغيب؛ طالما أن ما بين أدينا لا يكفي لتوضيح المقاصد وبيان الغايات إذ “ليست المصطلحات مفاتيح العلوم، وإنما التعريفات مفاتيح العلوم”. فإذا كان هذا التصور الذهني العميق مدعوما بالحرص الشديد على سلامة اللغة مثلما هو لدي السيد الباحث؛ الذي سبق وأن وضع كتابا مهما بعنوان “سلامة اللغة العربية في الكتب الإدارية” وهو كتاب تناول فيه تصحيح الأخطاء اللغوية والأسلوبية في المخاطبات الإدارية في مؤسسات الدولة، وقد تحول هذا الكتاب نظرا للمعلومات القيمة التي يحتويها إلى مرجع لغوي في بعض مؤسسات الدولة، فذلك يعني أن عدة عوامل بنائية اشتركت لتسهم في إنضاج مشروع يصب في سلامة اللغة العربية والحفاظ عليها، وهذا ما يتضح من خلال الكتاب الثاني الذي نحن بصدد قراءته. هذا الكتاب الذي أخذ منه جهدا ووقتا كبيرين بسبب اعتماده عشرة معجمات، فضلا عن 265 كتابا، ودواوين 2300 شاعر، و10 معجمات قديمة ضمتها الموسوعة الشعرية الإصار الثالث، فضلا عن البحث في مجمعات غير الموسوعة مثل موسوعة أهل البيت التي ضمنت 4709 كتابا، وكتبا إنكليزية، والانترنيت واستشارة المتخصصين باللغة الإنكليزية.
جاء كتاب الأستاذ الدكتور محمد تقي جون اللغوي الثاني الموسوم “اللغة العربية الخامسة الفصحى الهجينة” ليؤكد هذا المنهج البنائي الخصب. والملاحظ على منهج الأستاذ الدكتور؛ الذي اتبعه في تأليف هذا الكتاب أنه لم يحصر نفسه في زوايا تخصصه العلمي اللغوي البلاغي عند تناول الموضوع بالدرس والتفكيك ولم ينظر للقضية من هذه الزاوية فحسب، وانما استعار من علماء الأنثروبولوجيا ومن المؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس ومن النحويين واللغويين وغيرهم منهاجهم البحثية فضلا عن إجادته التحدث باللغتين الإنكليزية والكردية، ثم وظف ذلك كله بشمولية علمية أملا في الوصول إلى مبتغاه وغايته.
وبغية تشكيل الهيئة العامة للبحث تحدث الباحث في مقدمته الطويلة (2) عن نشأة اللغة العربية وتطورها والمراحل التي مرت بها وتداعيات هذه المسيرة الطويلة وما تركته عليها. وفي تتبعه لأصول ومنابع اللغة العربية ومراحل تطورها ونشأتها وما آلت إليه اليوم، غاص الباحث في بطن التاريخ، وأعلن أننا اليوم لا نتكلم العربية الفصحى، بل لا نتكلم العربية، وإنما نتكلم لغة (اصطلاح) أو لغة (عرف) لأن الكثير من المفردات والجمل والقواعد والتعابير والأساليب في لغتنا هي ليست عربية. ثم استنتج ـ دون أن يبين مصدر استنتاجه ـ أن لغتنا العربية وصلت إلى هذه الحال بعد أن مرت بخمس مراحل (3)، بدت في كل مرحلة منها وكأنها نسخة مختلفة عن النسخ التي سبقتها وأكثر هجنة من سابقتها، وهذه المراحل الخمس هي:
اللغة العربية الأولى (الفصيحة) التي تكلمها العرب الأقحاح في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، وهذه اللغة لم تدون فضاع أكثرها بعد الإسلام.
اللغة العربية الثانية (المختارة) وهي عربية القرآن، وتعد أول لغة دونت لأسباب دينية.
اللغة العربية الثالثة (المولَّدة) وقصد بها اللغة التي فشت في زمن العباسيين بتأثير العجم حيث ادخلوا فيها المعرَّب والدخيل والمترجم، فاختلطت بالعجمة وانتهت فصاحتها الخالصة.
اللغة العربية الرابعة (المختلطة بالعامية) وهي لغة القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث وهي التي أطلق عليها اسم اللغة العربية غير الفصيحة.
اللغة العربية الخامسة (الهجينة) وهي العربية المعاصرة.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن اللغة أي لغة إنما تؤكد قوتها ومتانة موقفها وصلابة بنائها من خلال تعاملها مع الاشتقاقات الحديثة والمصطلحات الواردة إليها، وكلما تمكنت اللغة من استيعاب الجديد كلما كانت أقوى، يرى الدكتور محمد تقي أن المثاقفة اللغوية أو انتقال الألفاظ على سبيل المثال؛ الذي خصص الباب الأول (4) للحديث عنه، وأطلق عليه اسم الاقتراض يؤشر حالة فقر اللغة، واقتراض العربية الخامسة يؤشر الفقر المدقع والإفلاس الوبيل للغتنا المحكية، بل واعتبر الألفاظ الجانب الوحيد الذي اُخترق في العربية من قبل اللغات التي احتكت بها منذ اتصل العرب بغيرهم. وهو يقصد طبعا الاقتراض المبالغ فيه وليس الاقتراض الطبيعي الذي يمثل حالة غنى وإغناء في الحدود الطبيعية.
ومثله الباب الثاني (5) الذي خصصه للحديث عن المعاني، وتحدث فيه عن دور الترجمة في رفد اللغة بمعان ليست من أصلها في الكثير منها عجمة لا تتوافق مع العربية الفصحى.
أما القواعد فخصص لها الباب الثالث (6)، الذي تحدث فيه عن تداعيات اختلال التوازن الحضاري بيننا وبين المستعمر الذي تسبب في انهيار قواعد لغتنا، وجراء ذلك تُرك قسم من قواعد العربية، واستبدلت به قواعد أجنبية، فصرنا ـ على رأي الباحث ـ نقرأ جملا عربية بقواعد إنكليزية، وهذا أعلى مستوى من الهجنة وصلته العربية.
إن الجهد الذي بذله الأستاذ الدكتور محمد تقي جون في جمع مادة هذا الكتاب الفخم الذي تجاوز عدد صفحاته 461 صفحة، جهدا مؤسساتيا استثنائيا عاليا، والمعلومات الواردة في الكتاب وفيرة ومتشعبة، وبرأيي أن فخامة محتوى ومادة الكتاب تحتاج إلى قراءة متأنية من المتخصصين باللغة العربية وهواتها لبيان الرأي، لأن اتساع المادة التي شملت لغتين: العربية والإنكليزية يوقع حتما في الخطأ أو السهو أو الوهم، ولأن ما ورد في الكتاب بالرغم من إشارة الباحث في المقدمة إلى أنه جمعه من مصادر عديدة موثوق بها إنما يمثل غالبا رأيه الشخصي والإنسان يخطئ ويصيب، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “كل ابن أنثى خطاء وخير الخطائين التوابون”، فقد تتوافق الرؤى وتتفق الآراء، وإذا حدث ذلك فعلا فمعناه كما قال الباحث إن لغتنا تحتضر، وأنَّ ما من لغة استبيحت كما استبيحت اللغة العربية، ولا أهل لغة كالعرب لم يأبهوا لحال لغتهم (7)، وأن على العرب أن يهبوا للدفاع عن لغتهم ومصيرها ومستقبلها قبل أن تندثر وتموت بفعل ما تتعرض له من ضيم وهم سكوت. فما شخصه الباحث من أن لغتنا التي نتداولها اليوم والتي نسميها اللغة الفصحى إنما هي لغة هجينة دخلت في السلائق فلا يمكن الفكاك منها، لذا وردت في مادة الكتاب حالات أشار إليها الباحث بصفتها عيوب ولكن في شرحه تكلم بها لتأكيد أنها صارت سليقة والفكاك منها يحتاج إلى تظافر جهود الجميع
وباستثناء رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد، خلا الكتاب من بيانات التوريق مما يدل على أنه صدر بطبعة محدودة، ولذا أتمنى من كل قلبي أن تبادر إحدى الجامعات العراقية أو وزارة الثقافة ممثلة بدار الشؤون الثقافية بإعادة طبع الكتاب ونشره على مستوى واسع لكي يأخذ مداه المأمول ولا يبقى محصورا بين يدي ثلة من المثقفين.
الهوامش
- ربما لهذا السبب قسم الباحث كتابه على ثلاثة أبواب هي: الألفاظ والمعاني والقواعد.
- استغرقت المقدمة الصفحات من 3 لغاية 20.
- جون، أ. د. محمد تقي، اللغة العربية الخامسة، ص5.
- الباب الأول بعنوان الألفاظ من ص21ـ 114.
- الباب الثاني بعنوان المعاني من ص115ـ 388.
- الباب الثالث بعنوان القواعد من ص389ـ 460.
- جون، مصدر سابق، ص20.