قفز المشروع السياسي في العراق من النظام الدكتاتوري الاستبدادي الذي مكث متحكما 35 عاما بجميع السلطات وشؤون الدولة، نحو نظام ديمقراطي ودولة فيدرالية جاء بها الاحتلال الامريكي في محاولة لتأسيس نظام عراقي ديمقراطي، دون المرور بمرحلة انتقالية، طبخة امريكية على طريقة الوجبات السريعة، فجاء الفشل جليا في تحول نظام الدولة الدكتاتوري، الى نظام تتحكم فيه نخب استبدادية قوضت سيادة الدولة في شبكة علاقات لمراكز قوى ومصالح تحت ظلال اللادولة .
وتترادف مظاهر فشل النظام الديمقراطي بالعراق في غياب المؤسسات الديمقراطية، فالديمقراطية ليست صندوق انتخابات تتجدد فيه سلطة أصحاب المال والسلاح والنفوذ، وإنما ممارسات تبدأ من أعلى سلطة دستورية _برلمانية ولاتنتهي عند حقوق الاقليات، ناهيك عن استقلال القضاء والاعلام الحر وضمان حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية وتكافؤ العيش والفرص على اساس المواطنة، وجميع تلك المؤسسات غائبة أو مكرسة لسلطة ” الاحزاب ” أي نخب الاستبداد، وهي تتقاسم السلطة والمال والنفوذ فيما يسمى بالمحاصصة التي تضع مفاهيم الديمقراطية تحت اقدام الاستبداد والدكتاتورية المستعادة بعنوان الدمقرطة، والمستندة للقواعد القديمة بوجود رؤساء مدى الحياة يتجددون عبر قوانين انتخابية وصندوق المال وسلطة الميليشيات .
فشل مشروع الديمقراطية في العراق تجلى بوضوح تام لحظة اصطدام آلة القتل لهذا النظام ضد الشعب في احداث تشرين 2019، وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى بانتفاضة تاريخية ضد استبداد نخب الحكم التي لم تتأخر باستخدام الرصاص وقنابر الغاز وإيقاع المجازر بالجماهير التي خرجت بطرق سلمية للتعبير عن رفضها لفساد هذه النخب .
لحظة تشرين أوقعت نخب الاستبداد بمواجهة حقيقة فشل التجربة السياسية بالعراق وعدم قدرتها على الاستمرار بخديعة الديمقراطية، فجاء استسلام هذه النخب _الاحزاب لانتخابات مبكرة، وهي الاخرى فشلت بعد مضي نحو عامين لإجرائها المزعوم ، وتلك النخب لن تتنازل عن مكاسبها وسلطاتها وتساوقا مع ماقاله المفكر السياسي فوكوياما ” لم تكن للعديد من النخب الاستبدادية مصلحة حقيقية في اقامة مؤسسات ديمقراطية تحد من سلطتها “، وعلى خلفية استعراض السلاح الذي حدث في بغداد وبقية المدن والاحداث الأمنية المتسارعة على جبهة داعش وقصف مطار اربيل، وتراجع سلاح الدولة الضابط الداخلي للصراع، فأن القراءة المترشحة الآن لمستقبل المشروع السياسي في العراق يذهب الى احتمال تجدد الاحتلال الامريكي _الدولي تحت عنوان حلف الناتو ، أو ترك الأطراف تتصارع وتتقاتل من أجل السيطرة والنفوذ حتى يبرز الطرف الأقوى على الأرض، عندها يكافئ بالسلطة من قبل الاطراف الدولية الفاعلة وتحديدا ايران وامريكا !؟
المتفائلون يقدمون سؤال الاتفاق بين الاطراف العراقية وتوحيد موقفها الوطني والسير بطريق الديمقراطية والإصلاح خصوصا وأن ثمة نخب تشرينية سيكون لها مقاعد في البرلمان العراقي، ربما يطرأ على الأفق السياسي هكذا مسار انعطافي يشكل صحوة وطنية مأمولة وانتصارا للروح الوطنية المذبوحة، لكن المتبحر بتجربة 18 سنة من تضخم أدوار وطموحات النخب المستبدة وتكلس الفساد والجريمة والهيمنة المطلقة لإرادة الدول الخارجية واجنداتها، تجعل هذا الافتراض بعيدا أو في حكم الوهم
العراق .. حلم الديمقراطية وواقع الاستبداد .
اترك تعليقا