رباح آل جعفر
البلاد الوحيدة في العالم ، التي لا تخضع في سياساتها ومتغيّراتها إلى قواعد التحليل السياسي ولا يعرف حتى قارئو الغيب ، وضاربو الرمل ، وآخذو الفال ، والمنجّمون ، ما الذي سيحدث فيها بعد ساعة هي بلادنا ، ومع ذلك فثلاثة أرباع المحللين السياسيين في العالم تجدهم في بلادنا .. تستطيع أن تحفظ لك جملة ، وتقول ما تشاء ، فهناك تهافت جوعيّ للظهور على الشاشات تحت عنوان : محلّل سياسي !.
والبلاد الوحيدة على وجه الأرض التي لديها من وزارات ووزراء لا يفتحون عيونهم ليقرؤوا جريدة من الجرائد ، فلا يعرفون ماذا يدور خارج مكاتبهم ، ولا تصل آذانهم كلماتنا الذاهبة مع الصفحات الصاخبة أدراج الرياح ، تجدهم في بلادنا .. لكأنهم يشيرون نحونا بقول ” جورج برناردشو ” : ( إنهم يقولون !.. ماذا يقولون ؟.. دعهم يقولون ) !.
والبلاد الوحيدة في العالم التي تنتج من الأزمات والمآسي أكثر ما تنتجه من الحلول هي بلادنا ، فتأكل من لحوم أبنائها في صراعات العبث أضعاف ما يأكله الجياع من الخبز ، وتتلاشى الآمال ، وتنفرط أعزّ الأماني !.
وفي بلاد يتخضب ترابها بالدم كما تتخضب النسوة بالحنّاء ، فلا تفتح باباً من أبوابها الحمراء تتنسّم شميم الحرية .. وقد اجتمعت عليها شياطين الشرّ تتربّص بها السوء من كلّ مكان ، مازالت عقيمة عن إنجاب رجل قادر على الإمساك بحقيبة وزاريّة أمنية واحدة ليكون الوارث السعيد .. فهناك رجل آخر يستهويه الإمساك بجميع هذه الحقائب ، لعلّه يظنّ أن من يسقطون صرعى كلّ يوم إنما هم أشباح ومخلوقات أخرى هبطت من كوكب آخر !.
إنها بلاد تبتكر مواسم للحزن أكثر ما تبتدع من أيام المسرّات .. وتكتب من دواوين الرثاء أكثر ما تكتب من دواوين الغزل .. بلاد تحمي السرّاق ولا تحمي المسروقين ويعمل ساستها لحساب أنفسهم أولاً وأخيراً !.
بلاد لم تعد تخفى علينا من فضائحها خافية ، إلا تلك الموازنات المليارية التي لا يعلم بها إلا الله وسرّاقها .. بلاد تندرج لها أكبر الميزانيات في العالم ، وما زالت تمزقها صرخات الجوعى الذين يأكلون في بطونهم الحصرم بينما يأكل حكامهم جميع سلال العنب !.
البلاد الوحيدة في العالم التي لديها وزراء يتمنّعون عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء ، لكنهم يواظبون على الدوام في وزاراتهم هم وزراء في بلادنا .. ( فكفّ تهدّئ غيظ الجموع … وأخرى على منصب شاغر ) !.
كان عبد الغفار الأخرس يشكو ظلم بلاده فيبثّ شكواه ، قائلاً : ( أراني مقيماً في العراق على ظمى … ولا منهل للظامئين ومرتعُ ) .. ويتساءل الرصافي في مناجاته بعجب : ( من أين يُرجى للعراق تقدّم … وسبيل ممتلكيه غير سبيله ؟! ) .. وتتساوى عند أحمد الصافي النجفي تبدّل الأنظمة وعصورها ، وهو القائل : ( سقطت دولة وجاءت غيرها … فجرى مثل أختها في قياس ) .. بل أن الجواهري يذهب أبعد من ذلك ، بقوله : ( تداول هذا الحكم ناس لو أنهم … أرادوه طيفاً في منام لخيّبوا ) !.
ثمّ بعد هذا كلّه .. دعونا نتساءل ببراءة :
أليست هذه صورة هزليّة لزمان العجائب في بلاد المصائب ؟!.
فوأسفاه على زماننا الضائع .. وبلادنا المسروقة !.