العالم بين الماكنة العسكرية ورحى العقوبات الاقتصادية و التحميق السياسي
سمير عادل
الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت الكثير مما كان مختبئا تحت الغطاء من النفايات والقاذورات السياسية والفكرية والاجتماعية، بدءا من النفاق السياسي ومرورا بالعنصرية وفبركة التحميق السياسي وانتهاءا بـ الضحالة الفكرية وقصر النظر والغرق في محيط النزعة المعادية للامبريالية.
في هذه الحرب كما ستكون في الحروب القادمة الاخرى، يدخل التحميق السياسي كأحد العوامل المهمة في أجندة كل القوى المشاركة في الحرب الاوكرانية بشكل مباشر أو غير مباشر، وتلعب الحرب الاعلامية دورا في إشاعة تلك الحماقة في المجتمع لإثبات حقانية الحرب الزائفة في أوكرانيا واخفاء ماهية الصراع بين الدول الامبريالية العالمية. الاصطفاف مع روسيا وماكنتها الحربية أو الاصطفاف مع أمريكا وكل الحلف الغربي و عقوباته الاقتصادية، هو مهمة التحميق السياسي للحيلولة دون توحيد جبهة واحدة من روسيا ومرورا ببلدان الاتحاد الأوروبي وانتهاءا في الولايات المتحدة الأمريكية التي بإمكانها الوقوف بوجه القتل والتشريد والدمار وبث الرعب في اوكرانيا واوروبا وحتى العالم.
*****
من الممكن إيقاف الحرب، إذا أراد حلف الناتو لذلك، عبر إعلان بأنه لن يقبل أوكرانيا في حلف الناتو، أو تعلن روسيا انها ستتوقف وتكف عن القتل والدمار، وأن الدبلوماسية هي الطريق لحل المسائل الأمنية، بعد أن أصبح الرئيس الأوكراني زيلنسكي يستجدي التوسل للحديث لبوتين، وأصابه الاحباط وخيبة أمل من إعلان بايدن وجونسون وحلف الناتو لرفضهم فرض أي حظر على الاجواء الاوكرانية، وبعد أن فشل كل دعايته اي زيلنسكي في ارعاب الناتو بأن احتلال أوكرانيا سيهدد حدود دول الحلف.
الا ان الطرفين لا يسعون الى ايقاف الحرب من الناحية العملية، وكل ما يقال في الإعلام هو جزء من التحميق السياسي يمارس من أجل الحفاظ وحماية مصالحهم الاقتصادية والسياسية وإخفاء ما يمكن إخفائه خلف تلك الحرب.
الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو يبغون من وراء عدم إيقاف هذه الحرب تأليب الرأي العام العالمي على روسيا عبر تسليط الضوء على مناظر الدمار والتشرد واللاجئين ومعاناتهم، انهم يربحون سياسيا ودعائيا في كل لقطة تصوير لكاميرا تنشر معاناة اللاجئين الأوكرانيين وحجم الدمار الذي تسببه القصف الروسي، أنه أيام أعيادهم، كي يقوموا بتزيين وتجميل واخفاء قبح وجه سياستهم الجهنمية.
ان كل محاولات دونالد ترامب سلف بايدن في انتزاع الأموال أو زيادة حصة ألمانيا في حلف الناتو باءت بالفشل، مما اضطر الى سحب قواته او تخفيض عديده في المانيا، الا ان الحرب الاوكرانية وبجرة قلم وبشكل طوعي زادت ألمانيا من حصتها في الناتو بنسبة أكثر من ٢٪ وهي كانت اكثر من مطالب ترامب. وألمانيا التي لم تتجرأ الى عسكرة اقتصادها ووضعت محدوديات عليها بسبب الحرب العالمية الثانية داخليا وخارجيا، فها هي اليوم تخصص ١٠٠ مليار يورو لتطوير قدراتها العسكرية وجيوشها دون أية معارضة قوية تذكر داخل الطبقة الحاكمة الألمانية. أما الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت من جديد اعادة الروح الى حلف الناتو، بعد أن وصفها عمانوئيل ماكرون الرئيس الفرنسي قبل أشهر بأن الناتو يعاني الموت السريري. وأكثر من ذلك، فإن أوروبا والناتو هم من مدوا يد طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية لحماية أوروبا. كما ودفعت بقية الدول الاوربية وخاصة الشرقية بطلب الانضمام الى أوروبا وفتح حدودها الى الجيوش الأمريكية والناتو. وكانت أكثر الأصوات زعيقا تأتي من جونسون بريطانيا، وسوق نفسه وكيلا للاوكرانيين وأوروبا بما يتناسب وينافس بايدن على زعامة أوروبا. فالحرب على أوكرانيا هي فرصة ذهبية لتعويض مكانة بريطانيا في قلب أوروبا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في البريسكت.
اما روسيا فتخفي اطماعها التوسعية تحت مبررات سخيفة، وهي بأنها لا تريد اقتراب حلف الناتو من حدودها، وكأن الأخير لا يمتلك صواريخ تصل مدياتها لتضرب أهداف في العمق الروسي خلال دقائق، ومن الممكن اطلاقها من فرنسا او المانيا او بريطانيا، او حتى من الدول أوربا الشرقية التي انضمت إلى الناتو. ان روسيا تريد عن طريق استعراض عضلاتها العسكرية وضع حد للهيمنة الأمريكية على أوروبا، وأن قدراتها الاقتصادية لن تستطيع مجاراة القدرات الاقتصادية الأمريكية، فهي تحتل المركز الثالث عشر في الدول الصناعية ٢٠ التي تسمى جي ٢٠، وان معدل ناتجها القومي في الاقتصاد العالمي هو ٤٪، ولذا كي تتمكن من الهيمنة الاقتصادية والسياسية أو على الأقل تكون رقما في المعادلة الأوروبية، فلا طريق امامها الا استعراض عضلاتها العسكرية. فاليد الطولى الأمريكية الاقتصادية تصل إلى كل المنافذ الاقتصادية الأوروبية لحرمان روسيا من توسعها. وليست العقوبات الامريكية التي شملت الدول الصناعية السبعة الكبرى في العالم وأوروبا واليابان واستراليا سوى رسالة سياسية الى روسيا بأنها لن تتمكن عن طريق العسكرتاريا جر اوروبا إليها.
*****
الطرف الأوكراني وقع ضحية خديعة الغرب والولايات المتحدة الامريكية، ويدفع مواطنيه ثمنا لحرب زائفة وكاذبة، واصبح يدفع فاتورة الصراع المحتدم بين القوى الامبريالية العالمية. وقد قدمتهم حكومتهم بزعامة زيلنسكي بدراية او بحماقة، قربانا لتحقيق مصالح كل تلك القوى. وهكذا تحول حلفاء الحكومة الاوكرانية بدل من انقاذها من براثن القوى العسكرية الروسية المتقدمة للاطاحة بها، تحول البنتاغون والقيادة المركزية في حلف الناتو الى مرصد صحفي ينقلون اخبار تحرك الجيش الروسي ، وإعطاء تقديرات المهلة الزمنية التي تسقط فيها كييف، وقياس طول القافلة العسكرية الروسية التي تصل الى العاصمة الأوكرانية، بعد أن قاموا بأغراء الحكومة الأوكرانية بأنهم سيضمونه إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وبدل أن تٌمَطّرَ حلف الناتو المن والسلوى على الطبقة الطفيلية الحاكمة في أوكرانيا، حلت الصواريخ الروسية وطائراتها والقنابل لتعج بالسماء الأوكراني لتقتنص حياة الأبرياء أو في افضل الاحوال تحويلهم الى مشردين و مذعورين يبحثون عن ملاجئ آمنة وممرات إنسانية، تٌمَن بها القوات الروسية عليهم كي يتحولوا الى لاجئين إلى أجل غير مسمى في البلدان الأوربية. وأن كل القرارات التي تتحدث عن ارسال مساعدات عسكرية جبارة الى أوكرانيا لا تتجاوز الأطر الدعائية والاعلامية ومحاولة لإرضاء الضمير وتقوية معنويات المخدوعين وتسويق صورة بأن الناتو لن تتخلى عن حلفائها شرط ان تبعد الحرب على أبوابها، لأنه ببساطة ان الاجواء الاوكرانية والموانئ الاوكرانية والطرق الرئيسية الاوكرانية هي أهداف مشروعة للقوات الروسية، فكيف تصل تلك المساعدات السخية إلى الأوكرانيين!. أما البيت الأبيض وقصر الاليزيه ودوانت ستريت، أوكلوا مهمة الدعاية لأنفسهم وهي الاشادة بالمقاومة الاوكرانية وصمود الشعب الاوكراني والبكاء على جرائم روسيا في أوكرانيا، بينما نأوا بأنفسهم عن الساحة الأوكرانية. انه بحق طعم بلعته الحكومة الاوكرانية ورئيسها زلنسكي الذي غضب قبل ايام وقال ان تدفق الغاز الروسي الى أوروبا ازداد منذ بداية الحرب على أوكرانيا.
*****
وأكثر ما يثير السخرية في مشهد الحرب على أوكرانيا، هو الاصطفافات السياسية، أما مع ذرائع روسيا الواهية او أكاذيب حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو هناك طيف غير قليل ممن يحسبون انفسهم على اليسار والقوميين وأصحاب النزعات ضد الإمبريالية التي لا يرون غير الامبريالية الامريكية، واصطفوا مع روسيا، نقول يبدو ليس لديهم علم أو بأدق العبارة لم يخبرهم أحد، بأن روسيا دولة امبريالية بامتياز، ولا تختلف عن الامبريالية الامريكية في هيكليتها الاقتصادية من تمركز الإنتاج وسيطرة شركات عملاقة على مفاصل الاقتصاد واندماجها بالبنوك و تغلغل الرأسمال الروسي عبر استثمارات كبيرة في العديد من بلدان العالم، وبنيتها السياسية التي هي متطابقة ومعبرة عن مصالح الطبقة البرجوازية التي تدير تلك الشركات والبنوك والاستثمارات على صعيد السياسة الخارجية الملتحمة بمؤسستها العسكرية لتكريس نفوذها الاقتصادي والسياسي، ارجعوا إلى كتاب لينين ( الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) ستدركون خواص الدولة الامبريالية. في مقابل روسيا يصطف قسم من قصيري النظر و ممن استمتعوا بوعي التحميق السياسي الذي تمارسها صناعة الإعلام الغربي، اصطفوا الى جانب ترهات أمريكا والغرب حول خرق روسيا للقانون الدولي وحقوق الإنسان والسيادة..الخ. بينما كان احتلال العراق عام ٢٠٠٣ من قبل امريكا-بريطانيا، تطبيقا للقانون الدولي وحماية للسيادة العراقية ودفاعا عن حقوق الإنسان!! ارجعوا الى مقال (القليل من النفاق السياسي قد لا يضر بالصحة).
وإذا ما وضعنا هذا التصور المخادع تحت المجهر، لا نلمس منه غير العنصرية المقيتة، فهي لا تساوي بين غزو واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبما يحدث من غزو واحتلال أوكرانيا من قبل روسيا. وليس هناك سوى تفسير واحد لهذا التصور، هو ان العراق بلد يقع في العالم الثالث ومواطنيه من الدرجة الثالثة او اقل ولا يحسب على سجل مفاهيم حقوق الإنسان للمعيار العالمي والأمم المتحدة، بينما أوكرانيا في قلب أوروبا، ومواطنيه من البشرة البيضاء التي تعتبر من شعوب الله المختارة على الأرض.
إن العالم مقسم اليوم بين القوى الامبريالية العالمية، وأن صراع تلك القوى يلقي بظلاله على مجمل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية. فإذا كانت تداعيات الحرب على أوكرانيا هي نتاج ذلك الصراع بما يحملها من تشرد الملايين من الأوكرانيين واشاعة اجواء الحرب والخوف في عموم أوروبا، فإن العقوبات الاقتصادي هي الاخرى تعمل على تشديد ظروف الضائقة الاقتصادية التي تفرض اليوم على الطبقة العاملة وعموم المواطنين في العالم بسبب العقوبات الاقتصادية. وبين هذا وذاك نجد نمو العنصرية القومية والعرقية، وكشفت هذه الحرب على تلك القاذورات سواء تجاه الأوكرانيين اللاجئين من اصول افريقية الذين يعاملون من قبل الدول الحدودية لأوكرانيا بتمييز واضح، أو في صفوف الروس والاوكرانيين الذين وجهت فوهات بنادق حكوماتهم تجاه صدور بعضهم كي يكونوا وقودا في حرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها. ولم تقف حدود العنصرية كما عبرنا عنها في مقال سابق عند ذلك الحد، بل العنصرية المنظمة التي تمارسها بشكل ممنهج حكومات الدول الغربية تجاه قضية اللاجئين. أن اللاجئين الأوكرانيين لهم كل الخدمات وابواب الغرب مفتوحة لهم، اما الافارقة والاسيويين فالبحر يتسع لهم كي يكونوا وليمة للحيوانات البحرية.
إن مسؤولية الحرب على أوكرانيا تقع على القوى الامبريالية العالمية، روسيا من جهة، وحلف الناتو بقيادة أمريكا من جهة اخرى. انها حرب نتاج مساعي الهيمنة على النفوذ الاقتصادي والسياسي، ان تبيان هذه الحقيقة هو جزء من صراعنا السياسي مع طبقة طفيلية لا يمكن لها الاستمرار دون الكذب والنفاق السياسي والسجون والاعتقالات والتعذيب والاختطاف ومصادرة الحريات بكل اشكالها والتحميق السياسي والحروب.