هي الحرب تلك التي أقضت بمأسيها مضاجع البشرية على مدى قرون
. وكما هو التطور قد مسّ كل مناحي الحياة في العصر الحديث فقد مسّ وسائلها أيضا حتى باتت أكثر تدميرية من قبل، ولم تعد تأثيراتها مقتصرة على حملة السيوف والرماح كما كان من قبل، أو على مكان محدود بعينه، بل باتت لاتبقي ولاتذر خاصة في ظل السلوك العدواني والانحدار الاخلاقي الذي بات هو المتحكم الفعلي في مسارات السياسة في العالم. فقد أصبح برميل النفط أغلى ثمنا من الدماء الانسانية البريئة، وباتت المصالح تشرعن التشوهات الخلقية للاطفال، حتى أمست الولادات بعين واحدة او بجسد دون أطراف أو بأزدواجية الجنس نتيجة أسلحة اليوارنيوم الملقاة على المدن، كما هو حاصل اليوم في كل أنحاء العراق تقريبا، مجرد تحصيل حاصل للحرب أو من نتائجها المحسوبة كما يقول سماسرتها. ولقد كنا في العراق أول ضحايا ظلمة عالم مابعد الثنائية القطبية وسيادة القطب الواحد، فلم يسلم شيوخنا وأطفالنا من حصار جائر جعل الدواء والغذاء من المحرمات عليهم، حتى توج بالغزو الذي أباح قتل شبابنا وأطبائنا وضباط جيشنا وعلمائنا وأساتذتنا، والقاء جثثهم على قارعة الطريق وفي أماكن جمع القمامة، يرافقه مسلسل لايتوقف من الاعتقالات والاغتصاب في السجون السرية والعلنية، وتهجير وهجرة في دول الشتات وسط معاناة شظف العيش وذل الغربة.
لكن الجريمة الاكبر التي حصلت في العراق على رؤوس الاشهاد، وأمام مرأى ومسمع العالم المتحضر المدافع عن حقوق الانسان، هي أغتيال الطفولة في العراق، والتي لم يستطع أحد لحد الان تقييم أضرارها، ومحاولة النهوض بها. فالسلطة في العراق أبت أن تتولى المسؤولية الاخلاقية والشرعية والقانونية المترتبة عليها وهي تتصدر المشهد السياسي، وأنكفأت الى نحرها تلتهم ميزات المنصب، كما أن المحتل هو الاخر ذهب الى تأمين ذمصالحه على حساب الشعب والوطن، فكان هو والسلطات المحلية وسائل فاعلة في هذا الانحدار الكارثي الذي أصاب عالم الطفولة.
أما المنظمات الانسانية الدولية المختصة برعاية الطفولة فوضعها في العراق كارثي كالوضع العام. فلازال أفرادها حبيسي الفنادق ومكاتبهم الوثيرة ولايتجرأون على الخروج الطبيعي وملامسة الحياة اليومية للاطفال، خوفا من الاختطاف أو الابتزاز، وغالبية الدراسات والتقارير والارقام التي يعلنونها ويعتمدونها، هي مجرد نسخ منقحة لتصريحات المسؤولين العراقيين ومؤسساتهم ومنظماتهم التي تتهرب من أعلان الحقيقة، كي لاتوصم بالفشل في أدارة البلاد.
ففي الوقت الذي بلغ عدد الاطفال الايتام مايقارب خمسة ملايين طفل أي نسبة 16′ من عدد السكان، لازالت دور الايتام لايتجاوز عددها 19 دارا، أربعة منها في العاصمة بغداد والبقية في المحافظات الاخرى، والمشاهدة الميدانية لها تشير الى كارثية حياة من يعيشون فيها، بسبب أنعدام التخصيصات المالية وندرة الكوادر التي تتولى المسؤولية فيها، وتدني الرعاية الصحية والاجتماعية، أبتداء من الوجبات الغذائية مرورا بأماكن النوم وأنتهاءا بالسلوك المتبع في التعامل مع الاطفال. كما أن الزخم الحاصل في هذه الدور نتيجة عددها القليل ضاعف من شحة الخدمات المقدمة للقاطنين فيها، وبالتالي فأن الوضع العام فيها ساعد على تسرب الكثير من الايتام الى الشوارع مجددا، لتتلاقفهم أيدي مايطلق على تسميتهم ( المقاولين )، وهم أشخاص يمارسون العمل بالاطفال حيث أن كل واحد منهم يجمع عددا من الاطفال يتراوح بين 30-40 طفلا ثم يقوم بأطلاقهم صباح كل يوم في شوارع بغداد أو المحافظات، للعمل بالتسول و جمع القمامة لاغراض أعادة التصنيع، وغسل السيارات في الطرقات، وبيع حقائب التسوق والحلويات أو سحب العربات الخاصة بنقل البضائع، ثم يعود هذا المقاول لتجميعهم من الشوارع ليلا وينقلهم الى مقرات سكنهم وهي عبارة عن دور بالية جدا في أحياء بغداد القديمة مثل البتاوين وشارع الرشيد والتي لم تعد صالحة للسكن، وكانت قبل الغزو تستخدم كمخازن ورق وأحبار طباعة ومعامل أحذية، عندها يجمع المقاول الوارد اليومي الذي حصل عليه الاطفال من العمل، ثم يقوم بتقديم وجبة طعام بسيطة لهم ويتركهم ويغادر الى داره.
ونتيجة أختلاف الفئات العمرية، وعدم وجود راع لهم، ونومهم في مواضع مشتركة فقد أنتشرت حالات اللواط فيما بينهم، وباتوا يتسكعون في الازقة القريبة من سكنهم طوال اليل، ويعرضون أجسادهم الغضة وأرواحهم البريئة الى بعض المترددين على أماكن المجون في تلك الاحياء، مقابل حفنة من المال أو وجبة طعام أو علبة سكائر، مما أدى الى أنتشار مختلف الامراض الجنسية بينهم، خاصة بعد تخويفهم من اللجوء الى المستشفيات، وعدم وجود من يتولى عرضهم على الاطباء المختصين.
ويتوالى هذا الاستنزاف الجسدي والنفسي لهؤلاء الأبرياء حتى في عطلة نهاية الاسبوع، حيث يقوم المتولي عليهم ببيع جهدهم الى بعض التجار في المجمعات التجارية القريبة، لتحميل البضائع من سيارات النقل الى داخل المخازن أو تنظيف أماكن الخزن، مقابل أجور يتقاضاها هو بينما تكون حصة جهدهم وجبة طعام سيئة، كما عمد البعض من هؤلاء المجرمين الذين أجتثوا كل جذور الانسانية من ضمائرهم، الى أنتقاء عدد من هؤلاء الاطفال وعزلهم في دور أخرى يخضعون فيها الى عمليات تثقيف على فعاليات الشذوذ الجنسي من خلال عرض الافلام الاباحية عليهم، وتدريبهم على وضع المكياج وأرتداء الملابس الداخلية الخاصة بالفتيات، وتزويدهم ببعض الادوية الوهمية التي تساعد على تكبير بعض أجزاء الجسم، ثم يتم عرضهم في سوق النخاسة والرذيلة للعيش مع الشواذ وأصحاب النفوس المريضة بحجة الخدمة المنزلية التي يقدمونها الى عدد من الجنسيات الاجنبية في عدد من أحياء العاصمة، مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 90 100 دولار تُدفع الى والدة الطفل شهريا، وقد نجحت هذه الوسيلة في أستقطاب عدد من شقيقات وأمهات هؤلاء الاطفال الى نفس المستنقع، بعد أقناعهن بالعمل المنزلي الذي تبين أن له تبعات أخلاقية أخرى لاعلاقة لها بشرف العمل. كما أتسعت دائرة هذه التجارة المشينة ليتم تشكيل عصابات أجرامية منظمة بالاشتراك مع بعض سواق الشاحنات من دول الجوار، هدفها نقل عدد من الاطفال ممن تتراوح أعمارهم بين 13 -16 عاما وتهريبهم لاغراض الدعارة، بعد أيهام أمهاتهم بأنهم ملزمين بشراء دار لها بعد ثلاث سنوات من مغادرة طفلها. أما الاطفال في المحافظات العراقية الاخرى فلا تقل مأساتهم عن زملائهم في العاصمة.
فالتقاليد العائلية والعشائرية تقتضي من أخ المتوفي أعالة أبناء أخيه مما يشكل عبئا مضاعفا على العائلة المستضيفة لهم، وبالتالي فأن رب الاسرة يضطر الى أطلاق أولاده وأولاد أخيه الايتام الى سوق العمل الرخيص كي يستطيع القيام بالمتطلبات المعيشية، خاصة وأن القابلية التشغيلية في المحافظات أقل منها في العاصمة، كما أن المؤسسات الحكومية المختصة برعاية الطفولة تكاد تكون معدومة فيها، لذلك نجد بأن الغالبية العظمى من الاطفال والاحداث يعملون في معامل أنتاج الطابوق على الطريقة القديمة، التي تنفث سمومها القاتلة في صدور هؤلاء الاطفال يوميا، أو يتخذون من الطريق العام الذي يربط المحافظات بعضها ببعض أو بالعاصمة مكانا لعرض بضاعتهم البسيطة أو بيع الشاي في محطات الوقود وغسل السيارات، علما بأن غالبية عوائل الايتام تتخذ من الخرائب ومعسكرات الجيش القديمة والمقابر أماكن سكن لهم، مما يجعل التفكير في المدرسة أمرا مستحيلا في حياتهم. وأذا كان هذا جزء من المأساة التي يعانيها الاطفال الاصحاء، فأن الاطفال (المعاقين أو المنغوليين أوالمصابين بالتوحد) باتوا اليوم أشبه بالموتى وهم أحياء بعدما أقفرت دور الرعاية من الرعاية المخصصة لهم، وتقلصت المدارس التي كانت ترعاهم وتعلمهم نطق الحروف وتنمي مواهبهم في الرسم والموسيقى، وحتى تلك التي لا زالت موجودة فأن ذوي الاطفال باتوا يخافون أرسال أطفالهم اليها كونها بعيدة، ولايتوفر الامن الازم في الشوارع والطرقات، فباتوا حبيسي منازلهم ليل نهار.
أما مأساة الاطفال المرضى فهي أعظم من كل المأسي في ظل الفساد الاداري الذي يعشعش في كل زاوية من زوايا المجتمع، فالمراجعة الصحية خاصة للاطفال تتطلب نثر المزيد من الاموال لهذا الموظف الصحي وذاك الاداري، بالاضافة الى غياب الكثير من الكوادر الطبية المتخصصة في ألامراض المستعصية التي يعانيها الاطفال، وعطب العديد من الاجهزة الطبية التي تساعد في التشخيص، وندرة الادوية والمستلزمات الطبية، وفقدان الرحمة والشفقة المطلوبة لهذه الشريحة من المجتمع.
وقد أزدادت الاصابة بالامراض السرطانية بين الاطفال بشكل ملفت للنظر، خاصة منها سرطان الدماغ الذي شكل نسبة كبيرة في المحافظات الجنوبية والغربية، ولم يعد أمام المستشفيات سوى أعطاء الادوية الكورتيزونية لهم لتخفيف الشعور بالالم أنتظارا للموت المحقق، حيث يجري التعامل معهم على أنهم الحلقة الاضعف في المجتمع والتي يمكن التفريط بها أمام الحلقات الاقوى كالأب أو الام مثلا.
وعلى الرغم من أن بعض المنظمات الخيرية تدخلت لعلاج هؤلاء في الخارج الا أنها واجهت مشكلة التواصل العلاجي معهم في الداخل. فقد قام الفريق العربي الاوربي لانقاذ أطفال العراق، ومنهم كاتب هذه السطور، بأجراء عمليات جراحية لإستئصال سرطان الدماغ لخمسة وسبعون طفل في عدد من الدول الاوربية ولازال أكثر من خمسمائة طفل أخر مصاب بنفس المرض مسجلين لدينا، الا أن المشكلة التي واجهتنا كانت مواصلة الرقابة والمعاينة لهم في العراق وتقديم الادوية والعلاجات المطلوبة، وعندما تطوع لهذه المهمة طبيبين عراقيين مختصين بجراحة الدماغ وعادا للعمل في العراق، فأن أحدهما قتل حال خروجه من عيادته في بغداد في نهاية العام الماضي، أما الثاني فقد قتل في نيسان أبريل الماضي هو وأبنته التي تطوعت معه، بعد أن تم تسليبهم المساعدات المالية والادوية التي كانت مخصصة للاطفال، كما تعرض الفريق الى ضغط من أحدى الجهات المرتبطة بالسلطة للتخلي عن مهمته الانسانية، وتحويل الاموال المخصصة للعمليات الجراحية الى تلك الجهة كي تتولى هي المهمة كما أدعت بذلك.
أن أحصائيات اليونسيف التي تقول بأن نسبة الاطفال القتلى قد شكلت 8,1 من مجموع الضحايا في العراق خلال الاعوام الثلاثة المنصرمة، مضافا اليها التسرب الكبير من مرحلة التعليم الابتدائي، ووجود نسبة عالية من الاطفال تحت خط الفقر في أغنى دولة نفطية، فأن ذلك يمثل ناقوس خطر كبير يواجه المجتمع العراقي الذي تشكل الطفولة فيه البنية التحتية اللازمة لاعادة نهضته، لكن السلطة وجهاتها المسؤولة أبعد ماتكون عن النهوض بهذه المهمة. ففي الوقت الذي يوجد في بغداد فقط أربعة دور للايتام أمام هذه النسبة العالية من المحتاجين اليها، فأن عدد الملاهي والنوادي الليلية في العاصمة بغداد قد تجاوز الخمسمائة وهي أمام أعين السلطات وبموافقتها، مما يؤشر الى عظمة الخلل وضياع البوصلة الضرورية للنهوض المجتمعي، وعدم القدرة على وضع الاولويات في سياقتها. أن أطفال العراق ليسوا متسولين في دولة فقيرة الموارد ويستحقون قطعة خبز أو علبة حلوى، لكنهم بحاجة ماسة الى تنمية حقيقية تنقلهم من واقعهم البائس، وحكومة تعرف كيف تستثمر فيهم كي يكونوا عماد المستقبل، لكن ذلك مفقود تماما في ظل السلطة الحالية.