صائب خليل
10 نيسان 2012
نظافة الشيوعيين العراقيين أمر مفروغ منه بالنسبة لي، ولذا لا أتردد كثيراً في الشك بمن يسعى للتشكيك بها، فأصنفه بعد قراءة سريعة، أما بالعمل لصالح جهات معادية، أو بابتلاع “طُعمها” الإعلامي، ولم آسف على هذا “الإقتصاد” في الوقت والجهد حتى الآن.
وعلى هذا الأساس، لم أتردد في التوقيع على الإحتجاج على إقتحام الشرطة العراقية لمقر صحيفة “طريق الشعب” وعبثها بممتلكاتها ومصادرة أغراضها وحواسيبها ورشاشات حراسها وإساءة معاملتهم وتوقيعهم على أوراق دون رؤيتها (!؟)، ورفضت الحجة التي قدمتها الشرطة لذلك، وفي مثل هذه الأمور لا يستبعد أن يكون الأمر مدبراً لهدف ما .
قبل أيام أستلمت إيميلاً من بعض أصدقاء الحزب الشيوعي، يدعو إلى إعتصام أمام السفارة العراقية في لاهاي (هولندا) إحتجاجاً على الإقتحام. وجدت تلك الدعوة، بعد الإعتذار الذي قدمته الشرطة إلى الحزب والصحفية، وكثرت ما كتب من مقالات احتجاج وتضامن مع الجريدة والحزب، أمراً قد تعدى حدود القضية، ولكل قضية حدودها، ويفترض أن يتصرف المرء بدقة ضمن تلك الحدود، خاصة في الظروف الحرجة والقضايا التي قد تكون لها تداعيات كبيرة، فكتبت الرد التالي ووزعته إلى مشتركي نشرتي الصحفية في هولندا، ووضعت نسخة منه على صفحة طريق الشعب في الإنترنت:
“أيها الأخوة الأعزاء، وصلني الإيميل المرفق أدناه والمتضمن دعوة للإعتصام أمام السفارة العراقية في لاهاي إحتجاجاً على اقتحام مقر صحيفة الشعب.
لقد كان الإقتحام الأمني للصحيفة عملاً مرفوضاً تماماً، وقد وقعنا على رفضه واستنكاره، ولكن الحكومة قامت بتقديم اعتذار وتعهد بتعويض الأضرار، وأتصور أن الإلحاح أكثر من ذلك سوف يقلب الأمور إلى عكسها.
فالمبالغة تنقلب الى الضد، وحتى من كان داعماً للحزب الشيوعي في هذا الموقف سيرى أن القضية أصبحت حجة يحاول البعض من خلالها تأجيج العلاقة بين الحكومة والحزب ، وربما كانت الدعوة تأتي من أصوات بريئة لكني لا أستبعد أن يكون وراءها من لا يرجو الخير للحزب، وقد يكون يعمل لصالح جهة من الجهات المتصارعة اليوم مع الحكومة، ويريد أن يستخدم الحزب كهراوة في صراعه مع الحكومة. لقد تعاطف الكثيرون مع الحزب في قضيته، وأراهنكم أن الرأي سينقلب ضده إن تم بالفعل تأجيج الموقف، فحتى في أعظم الديمقراطيات تقتحم الشرطة مقرات منظمات، ثم يعتذرون منها، فهل أصبحنا أعظم من تلك الديمقراطيات؟ أهم من ذلك، السؤال المنطقي الذي سيسأله الناس: ماذا تريدون؟ بماذا تطالبون؟
كل شيء له حدود، والناس لن تتعاطف من يملأ الدنيا صراخاً إذا داس أحدهم على قدمه!
أدعوكم لرفض هذا التصعيد والتنبه للنتائج السلبية التي قد تنتج عنه وما يقصده من يريد استمرار إشتعال التوتر..”
وبالفعل تداول البعض هذا الإيميل في هولندا، لكن ذلك لم يمنع تنفيذ الإعتصام، ولكن عدد الحاضرين كان صغيراً جداً. ولا يستبعد أن تكون إعتصامات مماثلة قد حدثت أو ستحدث في دول أخرى.
الشعارات المرفوعة كانت طبيعية وهادئة ومعقولة، تتحدث عن الديمقراطية والقلق المشروع من التفرد بالسلطة، لكن المناسبة مشكوك بأمرها بعد الإعتذار الحكومي. وفي مثل هذه اللحظة التي تخوض فيها الحكومة صراعاً مع “العراقية” و “كردستان” بشكل خاص، يفهم موقف الشيوعيين بأنه دعم للجبهة المعادية للحكومة، فهل هذا هو موقفهم الواعي المدروس بالفعل، وما الذي يأملونه منه؟
ليس من السهل أن نفهم ما الذي يأمله الشيوعيون من موقفهم هذا ولا بعض المواقف المتزامنة معه. لماذا يطالبون بإعادة الإنتخابات مثلاً؟ هناك كتل حكومة فازت بعدد كاف من المقاعد، فكيف ستكون الحكومة البديلة أكثر شرعية منها؟ وما سيكون موقفهم لو طالبت كتل الحكومة الحالية ، إن خسرت، بإعادة الإنتخابات أسوة بما يدعو الشيوعيون وآخرين له الآن؟ من هو المرشح للحلول محل الحكومة الحالية الذي يأملون به؟ هل هناك غير رجل أميركا في مشروع إعادة الأمن البعثي للسلطة أياد علاوي، الذي انتحر الحزب سياسياً بالتحالف معه يوماً، أو المنبطح لأميركا عادل عبد المهدي؟
كيف تخدم إعادة الإنتخابات الشيوعيين؟ هل استبدلوا نهجهم بجديد برهن أنه أكسبهم شعبية يريدون استغلالها؟ هل تحسن أداؤهم ليأملوا بمقاعد في البرلمان هذه المرة؟ كم مقعد؟ مقعد واحد؟ هل يكفي ذلك؟ لقد تضامن المثقفون مع الحزب في قضية الإقتحام، لكن هل هناك تضامن مشابه على مستوى الشارع يكفي لتبرير طموح بنجاح إنتخابي؟ حسب علمي أن شيئاً لم يحدث، وفي مثل هذه الحالة فأن الحزب يحرص عادة على تأجيل الإنتخابات وليس تقديمها، لعله يتمكن من وضع استراتيجية جديدة وإقناع الناس بها. فتذمر الناس من الحكومة بسبب الفساد لا يكفي، بالرغم من السمعة الجيدة للحزب. لأن لا أحد يفكر أن الحزب يشكل منافساً يمكن أن يعد باستبدال الحكومة، وسيذهب المتذمرون إلى الأحزاب التي يؤمل أن تحصل على اصوات كافية لإزاحتها.
ألا يحق لنا أن نعتقد أنه ليس للحزب أية مصلحة في إعادة عاجلة للإنتخابات وأن ما يقوم به ليس سوى ترديد ببغائي لما تريده القائمة العراقية من فرصة جديدة لتزوير أكبر للإنتخابات، لتمرير الأجندات الأمريكية بشكل أكبر وأكثر صراحة؟ هل نسي الحزب كيف قدموا مع كتل الحكومة شكوى مشتركة من التزوير وكيف وقفت القائمة العراقية بوجهها، مع المحتال فرج الحيدري القادم أيضاً من جانب التحالف الكردستاني؟
لنعد إلى موقف الإعتصام للتيار الديمقراطي وأصدقاء الحزب. يبدو لي من مجمل الأحداث والتصريحات، ومن حقيقة أقتصار تغطية ذلك الإعتصام على قناة تلفزيونية كردية (قام المعتصمون بشكرها بشكل إعلاني!)، أن الإعتصام كان في حقيقته موقف مؤيد لخندق كردستان – العراقية في صراعهما مع الحكومة، أو أنه سيفهم هكذا بالتأكيد من قبل كل من يراقب الأحداث. فإضافة إلى نقل أحد المتضامنين الكرد تأييد مسعود البرزاني للإعتصام، تشجعنا على هذا الإعتقاد احداث سابقة مثل بيان صدر عن المؤتمر الأول للتيار الديمقراطي العراقي، والذي يشكل الشيوعيون أهم مكوناته، دعا فيه الحكومة المركزية إلى “حل خلافاتها” مع إقليم كردستان، ولم يدع الطرفين إلى “حل خلافاتهما”، أي أنه يغمز بإلقاء اللوم على الحكومة في المشكلة، وهو ما يشير إلى أن هذا التيار قد ولد تحت عباءة كردستان وهو يقف مع موقفها في “الصراع” النفطي، منذ بيانه الأول، وبغير وجه حق من وجهة نظرنا للأسف!
الذي أفهمه من الصراع النفطي بين الحكومة والإقليم، يتلخص فيما يلي، وليخبرني السادة في قيادة الحزب الشيوعي، إن لم يكن ما أقوله صحيح، وأين ما هو خطأ في رأيي، لنتحاجج وفق المصادر والحقائق:
في الصراع الذي جرى حول النفط العراقي بعد 2003، بين إرادة الشعب لأفضل منفعه للبلاد، وبين الشركات الأمريكية بالدرجة الأولى، والتي تعمل طبعاً من أجل أكبر منفعة لنفسها، وقفت الحكومة الإتحادية بفريقها للطاقة بقيادة الشهرستاني موقفاً مشرفاً في عدة منعطفات هامة، رغم اعتراضاتنا على سياستها الأخيرة وأهدافها برفع الإنتاج بلا حدود. وحين أتكلم هنا عن موقف الحكومة فإني لا أقصد كل الكتل المنضوية تحتها، فهناك تلك التي تمثل الموقف الأمريكي من النفط، كالعراقية والإتحاد الكردستاني.
قامت أول مراحل الصراع حول رفض عقود “شراكة الإنتاج” واعتماد “عقود الخدمة” التي أجمع عليها عدد كبير من خبراء النفط العراقيين، والتي تحمي سيادة العراق على نفطه، بالعكس من عقود مشاركة الإنتاج الإبتزازية، والتي تقدم للشركات مئات المليارات الدولارات الإضافية على المدى البعيد على حساب العراق، إضافة إلى عدم تحكم العراق بموارده.
وفي وقتها عرقل الحزبان الكرديان قانوناً سيئاً للنفط، منحاز للشركات، لأنهم أرادوه أن يكون أكثر انحيازاً، فانقلب الأمر عليهم وعلى الشركات، فلم يوقع ذلك القانون لحسن حظ الشعب العراقي!
ثم قام وزير الطاقة الكردستاني أشتي هورامي بتوقيع عدد كبير من العقود السرية المتسرعة وكان يصرخ: كلما قالت الحكومة المركزية: “غير قانوني” قمنا بتوقيع عقدين إضافيين! في إحتقار غير مسبوق ليس فقط للحكومة الإتحادية، وإنما لثروات شعبه، قبل ثروات العراق. كذلك قام هورامي، وفق ما كشفه الأستاذ فؤاد الأمير، بعمليات أحتيال لصوصية بكل معنى الكلمة مثل تحويل حقول نفطية مكتشفة إلى ملف الرقع الإستكشافية، ليتمكن من بيعها رخيصة للشركات النفطية، ونشرت الفضيحة ولم ينكر الجانب الكردستاني ذلك في حينها!
واليوم تضغط الشركات النفطية هذه على الحكومة من أجل الموافقة على تلك العقود اللصوصية التي تمت بشكل سري ، ولم يجرؤ حتى البرلمان الكردستاني على المطالبة بكشفها أمامه، متصرفاً بخنوع وجبن نادرين، بضمن ذلك رفاقكم في الحزب الشيوعي الكردستاني!
أنتم اليوم تطالبون الحكومة “بحل المشكلة” فما هو موقفكم من المشكلة وما هو رأيكم فيها؟ ما هو الحل الأمثل للنفط العراقي…أهو كما تراه الحكومة المركزية أم حكومة كردستان؟ من هو المخطئ في رأيكم لكي ندعوه للتنازل، عندما نريد حل المشكلة؟ لا يكفي التهرب من اتخاذ موقف ودعوة أي جهة إلى “حل المشكلة”، فهل تريدون من الحكومة الموافقة على عقود مشاركة الإنتاج التي وقعت حكومة الإقليم نصوصها سراً؟ أليس الأجدر والأقرب للموقف الوطني، الضغط عليها لكي تستمر برفضها تلك العقود بقوة، خشية أن تنهار مقاومتها أمام الضغط والإغراء الهائل للشركات الأمريكية؟
من جهة أخرى، بين العديد من الدارسين أن كردستان تقوم ليس فقط بتصفية النفط بمصافي غير معلنة، وتصدير منتجاتها، بل ايضاً بتهريب النفط الخام لتبيعه بسعر رخيص للغاية إلى دول الجوار، ووصل حسب آخر المعلومات إلى أفغانستان. وربما كان سعره الذي يصلهم لا يزيد كثيراً عن ما كانوا سيحصلون عليه من حصتهم منه (17%)، لو أن ذلك النفط تم بيعه بشكل نظامي في الأسواق العالمية، مما يعني أن كردستان لا تقف في جانب شركات النفط الأجنبية فقط، وإنما تعمل بأجندة غير معلومة تهدف بشكل مباشر إلى الإضرار بالعراق قدر الإمكان، حتى حين لا تستفيد هي من ذلك، بحرمانه من الـ 83% من حصته، دون أن تستفيد كردستان من ذلك! ما موقف الحزب الشيوعي من هذا؟ أين أبدى الحزب ذلك الموقف؟ ما الذي اتخذه من إجراءات لتثبيته؟
لقد كان تهريب النفط مستمراً من كردستان كجزء من سلسلة لا نهاية لها من عمليات الإبتزاز اللصوصية التي قامت وتقوم بها تلك “العصابة المنتخبة” ضد بقية الشعب العراقي وثرواته وكان آخرها إمتناعها عن ضخ حصتها الضئيلة من النفط في محاولة لإخضاع الحكومة لضغط الشركات، وخاصة أكسون موبيل الأمريكية، بعرقلة موارد الميزانية التي أقرت للتو.
وفي هذه الأثناء ينسق من بقي من أعضاء القائمة العراقية بلا خجل مع كردستان في هذه المؤامرة على ثروة العراق. ويساند رئيس لجنة النفط والطاقة في البرلمان من العراقية، وأعضاء كرد فيها ، قانوناً للنفط، أسوأ من ذلك الذي تم رفضه سابقاً، تسعى الشركات إلى إقراره والذي جوبه برفض مستمر من قبل نواب الحكومة وغيرها حتى الآن. فمن أجل من تعمل لجنة الطاقة في البرلمان العراقي، للشعب العراقي أم للشركات؟ وما موقف الحزب الشيوعي من ذلك التصرف وما رأيه بذلك القانون؟
إن الحكومة المركزية، التي مع تحفظنا على الكثير من مواقفها وشكوكنا ببعضها، فإنها في هذا الموقف تخوض صراعاً شرساً مع شركات النفط الغربية، وقد وضعت العراقية ولصوص نفط كردستان أنفسهم في خدمتها تماماً، كهراوات لتحطيم إرادتها وإجبارها على الإقرار بالإتفاقات السرية مع كردستان، والمجحفة للعراق، وإقرار قانون الشركات للنفط كما قدمته لجنة الطاقة البرلمانية، فهل يريد الحزب الشيوعي أن يكون هراوة أخرى بيد تلك الشركات؟ هل نظر الحزب في مواقف كل من الطرفين وقرر موقفه على أساس ذلك، أم أتخذ موقفه على أساس “الصداقات” الشخصية والعلاقات التاريخية؟
للمساعدة على الجواب، نذكر الحزب الشيوعي أنه قد أصدر بياناً قبل سنوات قال فيه أنه “يفضل” عقود الخدمة على مشاركة الإنتاج. ورغم أن البيان لا يمتلك صيغة الحسم السياسي المأمولة، فأنه واضح الخيار. وبالنسبة لخيار نوع العقود، يكتب الأستاذ كامل المهيدي عن عقود كردستان في دراسة نشرت له مؤخراً بعنوان : “قراءة في عقود أقليم كردستان النفطية- مقارنة مع عقود وزارة النفط”:
“واذا تصفحنا هذه العقود نلاحظ ان جميعها من نوع عقود مشاركة الانتاج (PSC)”.
فهل يدرك الحزب الشيوعي أنه يقف اليوم بالعكس من موقفه ذاك؟ إن كان يدرك، فما الذي غير رأيه؟ وإن لم يكن مدركاً لذلك…فلا أدري ما أقول!
لن أدخل هنا في كل تفاصيل أرقام تلك اللصوصية الكردية الغربية للنفط العراقي، فهي بحاجة لمقالة مطولة مستقلة، ويمكن الإطلاع على دراسات قام بها الأستاذ فؤاد الأمير بهذا الشأن وكذلك دراسات الأستاذ كامل المهيدي الذي نكتفي بهذه الإقتباسات من الدراسة المذكورة أعلاه، يستنتج فيها بعد حسابات معقدة يمكن الإطلاع عليها ولا مجال لإدراجها هنا:
“إن الشركة المتعاقدة مع الاقليم تجني ربحا يقدر بأربعة أمثال ما تحققه من حقل مماثل فى الجنوب، بموجب حسابات القيمة الحالية” ليقول في الخاتمة:
“أن هذه القراءة تبين أن عقود أقليم كردستان كانت سخية مع الشركات العالمية، بالمقارنة مع عقود وزارة النفط الاتحادية. وعليه يصعب أن نفهم كيف انها تستهدف تحقيق أعلى منفعة لشعب كردستان وشعب العراق عموما”، كما جاء في مقدمتها”
ولا يقتصر موقف إقليم كردستان النفطي على لصوصية صريحة لثروة الإقليم والعراق، وإنما يتعدى ذلك إلى فرض احتلال مناطق نفطية من محافظات مجاورة، وهي سياسة لا مفر من ان تذكر كل عربي بسياسة إسرائيل في فرض الأمر الواقع”. وقد كتب الكثيرون عن ذلك، ومنهم كاتب هذه السطور، وجاء في دراسة الأستاذ المهيدي أعلاه أيضاً، حول مشكلة الإعتداء على مناطق خارج كردستان، في عقود الأخيرة مع شركة إكسون موبيل القوية الإرتباط بالإدارة الأمريكية، ما يلي:
“ان الرقع الاستكشافية الممنوحة لشركة اكسون يقع بعضها في مناطق مختلف عليها. وأن الأرضي المختلف عليها، حسب المصادر الأمريكية، تشمل كل شمال الموصل، وتمتد جنوبا- لتشمل كل محافظة كركوك ومعظم ديالى وصولا الى محافظة واسط. بمعنى أن المخطط، ان نفذ، فأن مساحة كردستان تكون ضعف ما عليه الآن، وان العراق يخسر حدوده مع تركية ويفقد منفذه التاريخي الى أيران عبر خانقين.”
فهل هذا ما يريده الحزب الشيوعي؟
هذه هي الحقائق، فمن لديه اعتراض على صحتها فليرفعه، لنناقشه ونبين مصادرنا عنها. لقد تهرب الحزب الشيوعي للأسف، حتى الآن، من إبداء أي موقف تجاه تلك الحقائق المرة.
الخلاف إذن، ذلك الذي يطالب التيار الديمقراطي والشيوعيون، الحكومة بحله، ليس خلافاً سياسياً أو اقتصادياً، لكي يؤمل في إيجاد مخرج عبقري له، ولا هو حتى صراع بين الإقليم والحكومة على مصالح ناخبي كل منهما، لكي يمكن إيجاد “حل وسط” بينهما، بل هو يمتلك كل صفاة الصراع بين اللصوص الكبار والقانون في البلد، وأي تصوير له على أنه “خلاف سياسي” يسهم في ذر الرماد في العيون وتمرير جريمة السرقة الكبرى خدمة للصوص! هذه هي الحقيقة، لا اكثر ولا أقل، ومن لديه رأي آخر فليتفضل بتبيان كيف يكون من مصلحة كردستان توقيع عقود يتوقع أن تخسر مئات المليارات على المدى البعيد، مقارنة بعقود الحكومة المركزية، أو الإعتداء على أراضي المحافظات الأخرى “المتنازع عليها” أو تهريب النفط رخيصاً حتى أفغانستان كـ “وجهات نظر”، أو كيف يفسر تحويل هورامي للمناطق المكتشفة إلى ملف المناطق الإستكشافية الرخيصة، على انه “خلاف سياسي”؟
إن سمح الأصدقاء لي بالمزيد من الصراحة، الحزب الشيوعي يبدو كمن يعيش على شعارات قديمة ومفاهيم سحيقة، لم تتغير، ليس – كما يتهم عادة ظلماً – في المبادئ والقيم التي من طبيعتها بعض الثبات، وإنما في موازين القوة والأدوار، والتي من طبيعتها التغير السريع. إنه يندفع بعزم القصور الذاتي العاطفي القديم الذي نشأ وثبت حينما كان الشعب الكردي يناضل ضد حكام بلاده من المتسلطين العرب، واستمر الحزب في اندفاعه دون أن يستطيع أن يعدل وجهته حتى بعد التغييرات الحاسمة التي طرأت على موازين القوى.
لقد نام الشيوعيون نومة أهل الكهف على شعارات “الدفاع عن حق الشعب الكردي”، وصحوا بعد الف عام ليكملوا مسيرة الهتافات نفسها دون أن يفركوا عيونهم لينظروا ما قد تغير في العالم الذي يعيشون فيه. ولم تكن الأحداث التي تدق مدوية أجراس التغيير الكبير، كافية لتنبيههم. مثلاً حينما منعت قوات البيشمركه بقوة السلاح، فريق عمل حكومي من العمل في حقول كركوك قبل بضعة سنوات، لتقدم تلك الحقول إلى شركات نفط أجنبية تعمل لحسابها، وحينما تجاوزت حكومة كردستان أراضيها لتنقب في سهل الموصل، وحين فرض الكرد نسبة تعادل مرة ونصف حصتهم حسب الإحصاءات على الميزانية ومقاعد البرلمان، وحين امتنعوا عن تسليم موارد الكمارك الحدودية، وحين أيدوا كل مشروع تقسيم إسرائيلي للعراق، وغيرها كثير، ورغم ذلك بقي الشيوعي يهتف بنظال الحزبين الكردستانيين من أجل حقوق شعبهما المظلوم، دون أن ينتبه إلى أن هذا الشعب لم يعد مظلوماً إلا من قبل هذين الحزبين الإقطاعيين! ليخبرني أحد ما، وحتى إن تخلى عن مصلحة الشعب العربي في العراق، أين حتى مصلحة “الشعب الكردي” في وقوف الحزب الشيوعي في جانب تحالف لصوصه مع قائمة البعث الجديد بقيادة علاوي وشركات النفط الغربية لفرض قوانين النفط المناسبة للشركات وتوقيع عقود سرية مشبوهة معها، وتمكين لصوص كردستان “المناضلين” من الأستحواذ على أراض جديدة في المناطق العربية، لتضاعف المساحة التي يفرضون سلطتهم عليها على حساب بقية الشعب العراقي؟
نعم مازلنا على ثقة بأمانة ونظافة الشيوعيين، وبسعة ثقافتهم وعمقها، ومازالوا نقطة قياس وضوء، ولا أدل على ذلك أكثر من الدعم الهائل الذي حصلوا عليه من كل جانب حين تعرضوا للإعتداء عليهم. كذلك أتفهم وأشارك كل قلقهم حول تركيز السلطة وما قد يعنيه للمستقبل، لكن هذا لا يعني القبول بإرضاء ذلك القلق بأي ثمن حتى بمواقف واضحة الخطأ. فالخطأ لا يقلل من أسباب القلق بل يزيدها، كما أنه يفقد صاحبه المصداقية اللازمة له حين تحين لحظة تحقق ما كان يقلقه.
لقد وقف الشيوعيون، وكانوا في السجون، قبل أكثر من أربعين عاماً، مع البعث عندما أعلن الأخير عن تأميم النفط، فأعلنوا تأييدهم حتى لسجانيهم، وكانوا يكيلون لهم العذاب في ذلك الحين، لأنهم وجدوا أن الموقف كان صحيحاً، ولأنه كان في صالح الشعب وثروته. فهل الوقوف مع صالح الشعب مع هذه الحكومة أصعب منه مما كان مع البعث؟ أم أن اقتحام الشرطة لمكتب الجريدة أشد من عمليات التعذيب البعثية بحق الحزب؟ أم أن بوصلة مصلحة الشعب لم تعد واضحة كما كانت؟
سؤالي أخيراً إلى الشيوعيين: هل يمثل هذا الموقف من هذا الصراع حول النفط، موقفهم وما يرجونه لشعبهم بالفعل؟ هل هذا خندقهم بالفعل؟ النزاهة والنظافة لا تكفي دائماً لإتخاذ قرار سليم، ودور الضحية لا يغني عن تحديد المواقف. لا أحد معفي في هذا المنعطف من أن يقول كلمته، والتاريخ قاس في امتحانه، لا يترك سؤالاً، ولا يكرر أسئلته مرتين!