وجهة نظر //
الشيوعية والاشتراكية الجديدة: هل هي حياة ثانية على أنقاض الديمقراطية؟
بقلم الكاتب الروسي آرتيم كورييف
ترجمة عادل حبه
مقدمة المترجم:
في تاريخنا القريب والبعيد، ما أن تطرح فكرة أو يبرز تيار فكري حتى يتحول بالتدريج من قبل بني البشر إلى اجتهادات وفتاوي تغدو متعارضة مع ما طرحه من مثل رواد تلك الأفكار والحركات. فعلى سبيل المثال طرح رسل الأديان الثلاث، موسى وعيسى ومحمد جملة من الأفكار ينطوي بعضها على محاكاة لآلام الناس ومعاناتهم وعلى قدر من التسامح. فمثلا إن الدين الإسلامي في باكورة دعوته رفع شعار”أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، وأرسل النبي مبعوثين غير مسلحين إلى أباطرة العالم للدعوة إلى الدين الجديد. ولكن ما أن رحل النبي عن الدنيا حتى تحركت الجيوش الجرارة لغزو بلدان وشعوب أخرى وفرض الجزية عليها والسطو على ممتلكاتهم وتقسيمها كغنائم بين أتباع الدين الجديد. وإسستمر “الاجتهاد” ليجد البشر أنفسهم محاصرون بكمٍ من القيود والإكراه حتى بلغت قريحة “الإجتهاد” مبلغاً أدى إلى ظهور تطرف داعش والميليشيات وأمثالهم من الذين لا يعرفون المناقشة والحكمة والجدل مع البشر إلاّ عن طريق وسيلة واحدة هي السيوف وكواتم الصوت والمتفجرات والسيارات المفخخة والخطف والأتاوات. وينطبق الأمر نفسه على المسيح الذي دعا أتباعه بالقول “من ضربك على خدك الأيمن، فأعط له خدك الأيسر”، كضرب من التسامح الذي لم يجر تطبيقه من قبل أتباعه لاحقاً. فمن إعتنق المسيحية من الحكام حركوا جيوشهم وهم يرفعون الصليب ليشعلوا نار الحروب الصليبية ضد أتباع الديانات الأخرى، أو إشعال الحروب لعقود مديدة بين أتباع الدين المسيحي نفسه، وتحولت كنيسة القرون الوسطى إلى “محاكم تفتيش” للتنكيل بالعلماء والمفكرين ومنهم العالم الإيطالي غاليلو غاليلي. وينطبق الأمر على قدر من نغمة التسامح التي أطلقها النبي موسى، ونقارنها الآن بما يمارسه أتباعه ضد الشعب الفلسطيني من قهر وإذلال. ولا تخلو الحركة الإشتراكية وأفكارها الإنسانية من هذا المصير. فالحركة الاشتراكية الديمقراطية الأوربية كانت أول من بادر إلى رفع شعار الديمقراطية في صدر بنامجها ودعواتها. ولكن ما أن توالت الأيام حتى بدء الإجتهاد يأخذ مجراه من قبل بعض “الاشتراكيين” و”الماركسيين” ليدلو بدلوهم وليفتوا بأمور مناقضة لأفكار رواد الإشتراكية، حتى تحولت الديمقراطية بنظرهم ضرب من الهرطقة البرجوازية ودعوة للإرتداد. فالماركسيان الفرنسيان جول غيد وبول لافارغ تنافسوا على “اللفظية الثورية” وأنكروا أهمية النضال من أجل تحقيق إنجازات مباشرة للعمال في إطار الرأسمالية. وقتها نقل فردريش أنجلز عن ماركس عن كارل ماركس تعليقاً على دعوات هذين “الماركسيين”، عبارته الشهيرة التي قال فيها:”إذا كانت هذه هي الماركسية، فمن المؤكد إنني لست ماركسياً!!”. وشهدت الحركة الإشتراكية لاحقاً المزيد من هذا النمط من المزايدات اللفظية والتعارض الصارخ مع المنحى الإنساني والتنويري للإشتراكية والشيوعية التي تمثلت في “إشتراكية” ستالين والخمير الحمر وماوتسي تونغ وكيم أيل سونغ في كوريا الشمالية وأمثلة كثيرة أخرى. إن كاتب المقال المرفق آرتيم كورييف ينقل في مقاله الصورة التي تحيط ببعض الحركات “الاشتراكية”، وليس جميعها، التي برزت في الآونة الأخيرة على الساحة الأمريكية، التي تسعى إلى استغلال نقمة جمهرة من المواطنين الأمريكان على النظام الرأسمالي وتداعياته السلبية، لتقديم صورة مماثلة لما أقدم عليه “الماركسيان الفرنسيان” في القرن التاسع العاشر. عادل حبه
في نهاية شهر أيار من عام 2020، أضحى مقتل الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد المحرك لإنطلاق المظاهرات المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة. وكان من الواضح للمراقبين في الخارج أن إنطلاقة حركة “حياة السود تهمنا”(BLM) كانت منسقة ومدروسة بما فيه الكفاية، والأهم من ذلك أنها ساهمت في تنامي شعبية اليسار الأمريكي، والذي كان يُنظر إليه في عام 2019 على أنه ضرب من التطرف، وإن كان يمثل مجموعة صغيرة في الحزب الديمقراطي. هل سيصبح هذا المزيج الغريب من الأفكار “المعادية للعنصرية” والماركسية الجديدة والفوضوية العلنية هو الاتجاه السائد في عام 2021، أم يختفي تاركاً وراءه قدر من المبادرات غير قابلة للتحقيق؟
نشط الديمقراطيون الاشتراكيون في أمريكا (DSA) في وقت مبكر من عامي 2018-2019، وفازوا في الانتخابات المحلية وعززوا مواقعهم داخل الحزب الديمقراطي. وتم توفير دعم إضافي لمؤيدي الأفكار اليسارية من الديمقراطيين المتسامحين من خلال النسبة التي يعتد بها لممثلي الأقليات القومية في DSA. وفي الوقت نفسه، ثارت الشكوك حتى بين أعضاء الحزب الديمقراطي حول شعاراتهم الرئيسية المتعلقة بتوفير التأمين الصحي للجميع، والمطالبة بزيادة كبيرة في الحد الأدنى للأجور مقابل كل ساعة، وتسديد جميع قروض الطلاب الدارسين على حساب الدولة.
شرح الخبراء الجادون بهدوء أسباب عدم قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ مثل هذه الإجراءات الاجتماعية الجذرية. ومع ذلك، تغير كل شيء بعد يوم واحد من المصير المأساوي لجورج فلويد، الذي أصبح، ومن المفارقة، في غضون ساعات رمزاً لمحاربة العنصرية، حيث إندلعت حركة الإحتجاج في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وتم إلقاء اللوم على البيض رجالاً ونساءاً، لزعمهم أنهم رفضوا لسنوات عديدة مشاركة المواطنين الآخرين في”الامتيازات البيضاء” سيئة الصيت التي يتمتع بها البيض. وعلاوة على ذلك، وفي مجتمع غربي شديد التسامح كواحد من القيم الرئيسية التي يؤمن بها وهي “التعددية”، بدأت أفعال راديكالية للغاية. حيث أصبح النهب ممارسة مبررة، وانتهاك حقوق الشرطة من قبل جزء من المؤسسة السياسية، والإندماج الإلزامي لجميع أطياف الأقليات في مجالس إدارة الشركات، ومنحهم مزايا في القبول للدراسة والعمل، هي المعيار المفضل.
في الوقت نفسه، بدأت مشاعرالعنصرية العكسية والاضطهاد الطبقي. وتمت إدانة حماية ممتلكات ” البيض الناجحين” ، وأدت أية تصريحات موجهة ضد مؤيدي BLM إلى شلل كامل لأولئك الذين يطلقوها. في الواقع، حتى الآن في الغرب، فإن أية معارضة لهذه الحركة بأفكارها اليسارية والفوضوية تعد انتحار سياسي. وبالنظر إلى أن وباء Covid-19 قد انتشر في آن واحد مع تلك الاضطرابات، وما صاحبها من إرتفاع نسبة البطالة، وهجوم دونالد ترامب الإعلامي الشديد ضد المعارضة الديمقراطية على مختلف الصعد ، إذ شكل كل ذلك اللحظة المثالية لهجوم جديد من قبل قوى اليسار الأمريكي. ويجب أن لا ننسى أنه حتى في عام 2019، اعتبر 43٪ من الأمريكيين الاشتراكية حلاً جيداً لبلدهم، وخلال فترة الوباء وتداعياته الاقتصادية، إزداد عدد مؤيدي الأفكار اليسارية بشكل أكثر.
لكن كيف يجب أن تكون هذه الاشتراكية الجديدة في النهاية؟ وهل ستنبثق في الغرب وتنتشر في سائر أنحاء العالم؟ للأسف، لم تقدم احتجاجات BLM واليسار المتعاطف معها من جميع الأطياف قدراً من العون لمساعدة بيرني ساندرز، الذي يعتبر المرشح الديمقراطي الأكثر ميلاً صوب الاشتراكية من أجل إحراز الفوز على جو بايدن أثناء إختيار المرشحين الديمقراطيين لخوض الإنتخابات مقابل دونالد ترامب. لقد طرح الكثير من المبادرات الإجتماعية في أجندة الحزب الديمقراطي، لكنها تخلو من الزيادة الجذرية في الضرائب على ذوي الدخل الكبير، ولم تتضمن أية محاولات لإجراء إصلاح في إدارة الدولة.
ستكون الاشتراكية الجديدة مختلفة، حيث سيتم استبدال أفكار برودون وماركس بـ أفكار “التحوير” و “الأجندة الخضراء”. ومع ذلك، هناك عامل واحد يقرب النماذج الاشتراكية القديمة من ما يسمى الآن “الاشتراكية الجديدة” و “الشيوعية الجديدة”، إذ أن التسامح التام حل محل التعصب الطبقي التام. كما أن “الاشتراكية الجديدة” الحالية التي نشأت في شوارع سياتل ونيويورك هي نموذج يحظر في ظله انتقاد مكوناتها الأساسية، بغض النظر عن درجة كفاءة من يختلف معها. فكما كان من غير المقبول انتقاد “الفكر الجماعي”، وهيمنة الحزب الشيوعي، و”نموذج الإنتاج الاشتراكي” في الإشتراكية التي إنهارت، فإن أي انتقاد الآن في الولايات المتحدة لأفعال أولئك الذين يمكن أن نسميهم “الاشتراكيين الجدد” هو أمر محظور تماماً. كما تم الحظر على حماية المعالم الأثرية للشخصيات التاريخية من “مؤيدي العبودية”، ويتم الحظر عبى أية معارضة لأفكار الشواذ في المدارس، والدعوى إلى المبادرات الاجتماعية التي لا تهدف إلى تحسين جودة التعليم، بل إلى مزيد من المساواة، وما إلى ذلك. صحيح أن العقوبات على مثل هذا الانتهاكات هي أخف مما كانت عليه في كوريا الشمالية أو الاتحاد السوفياتي سابقاً، إلا أن هذه الحقيقة لا تزال قائمة. وتبين أن أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم اشتراكيين ديمقراطيين هم في عداد مؤسسي نظام لا يتسامح مع آراء الآخرين، وليسوا على استعداد لإعادة كتابة التاريخ والفلسفة.
ولذلك، سيدشن الشعب الأمريكي في عام 2021 نموذجاً شمولياً مخيفاً لنوع من “الاشتراكية الجديدة” الذي تستحوذ على الغرب، والتي تفترض أن بعض الأعراق والطبقات في المجتمع مديينون للآخرين بالصمت، ولا يمكن أن تكون هناك حرية رأي في هذه القضية. في الواقع، إنها إعلان عن نهاية التعددية الغربية. وعند التطرق إلى المهام الاجتماعية، يجري الحديث فقط عن الطب والتعليم الرخيصين، وكذلك بعض التحسين غير المشروط لضحايا العنصرية والرأسمالية، والتي أصبحت بحكم الأمر الواقع شائعة جداً في الولايات المتحدة وفي عدد من الدول الغربية، خاصة أثناء وباء كوفيد-19. لقد فقدت مصداقية الحلم الأمريكي المعلن “افعل ذلك بنفسك، بالاعتماد على قوتك” تماماً. وفي الوقت نفسه، لا يجري الحديث عن النضال الحقيقي ضد الفقر؛ بل إن الحديث يدور حول أن “الاشتراكية الجديدة” الحالية هي قادرة على توفير الغذاء الجيد للفقر في أفقر شريحة من المجتمع الغربي، وعلى رأسها الأقليات القومية، إيماناً بـ “الامتياز” الخاص بهم. وفي الوقت نفسه، وفي سياق التدهور الاقتصادي الناجم عن الوباء، لا يزال توزيع الفوائد من قبل الولايات المتحدة وعدد من حلفائها غير متاحة. والسؤال المطروح هو، ما ذا سيكون مصير لمثل هذه “الاشتراكية الجديدة” الاستبدادية عندما يبدأ الاقتصاد أخيراً في التعافي من الأزمة؟؟؟؟