سعد عزيز عبدالصاحب
تشكل العلاقة بين الشعر والمسرح سمات علاقات مركبة أخرى بين مسرح الفكر ومسرح الترفيه أو المسرح الاستهلاكي، وتضاد علاقات معينة تتخذ من التسميات والعناوين أفقاً عريضاً لها على وفق ما أتى به شكسبير ومقابله موليير، وبعد مرور فن المسرح بفترات مظلمة وكالحة في أوروبا القرن الثامن عشر، اتخذ عدد من الكتاب والشعراء موقفاً اجرائياً من هذا الانحطاط وحاولوا اعادة روح الشعر الى المسرح بعد تواريه بوصفه لغة درامية عاشت وازدهرت منذ الأغريق والمسرحيات الكنسية مروراً بالعصر الاليزابثي، وحين نبدأ بالاستفهام عن السبب فأننا سننخرط بعد قليل في التساؤل عن الشكل الفني ذاته وعن انحساره. ويتشكل السؤال الاساسي بصورة مركبة:
ما الذي هناك في طبيعة الشعر الدرامي ما يعلل ندرته في ظروف معينة؟ ولماذا لم ينسجم الشعر مع المسرح الا في ومضات عرضية وبصعوبة بالغة بوسائل غير تقليدية في الفترة التي نتناولها؟! هكذا يتساءل رونالد بيكوك في كتابه الشهير(الشاعر في المسرح) ونوضح: أن الانحطاط الدرامي في القرن الثامن عشر استفاق على معالجات الشاعرين الالمانيين (غريلبارتسر) و(هيبل)، اللذين كانا يكتبان بين الاعوام (1820 – 1860 ) وهما صلة الوصل والاستهلال، ويتنبآن بطرق مختلفة للتطورات الأساسية للبنية الشعرية/ الدرامية في أواخر القرن التاسع عشر، ولقد نوقش تأثير (إبسن) لأن مسرحياته ذوات «المشكلة الاجتماعية» هي التي تتمتع بالأهمية في ما يتعلق بكنه الكثير من الكتابات المسرحية في أوروبا، وهي التي تسببت بأقوى منافسة للشعر ثم تأتي (وضعية) (برناردشو) بشكل طبيعي وهو ينفتح ليلقي الضوء على جانب من الصراع القائم بين الشعر والنثر والذي تثيره «الابسنية»، وتبرز مشكلة أخرى مع (تشيخوف) و(سينغ )، حيث التصور كله شعر، وحيث الأداة كلها نثر، انهما يقفان بقوة شاهدين مشجعين على ان الدراما النثرية يمكن أن تتمتع بحيوية خيالية تجعلها أقرب ما تكون الى الشعر، وان (ييتس) قريب من (هوفمانشتال) تعاصرا وبدءا تحت ظل التأثيرات المهيمنة للشعر الرمزي الفرنسي، وعند محاولة إيجاد شكل للشعر في المسرح فأنهما على الرغم من اختلاف الموضوعات ووجهات النظر، يبديان تشابهاً في التوجه والى حد ما في التكنيك، وهما أيضاً يؤديان وينفتحان على (ت . س . إليوت) الذي تلقى أعماله الضوء على معظم مشكلات الفترة كلها وتكشف عن محاولة مؤثرة لتثبيت مفهوم ملائم عن ماهية القيم الشعرية في المسرح في ضوء مسرحيتيه الشهيرتين (جريمة قتل في الكاتدرائية) و(حفلة شمل العائلة) ولها اسم آخر (حفل كوكتيل)، حيث أشار الى أن الكثير من الشعر الغنائي هو شعر درامي بامتياز، ويتساءل إليوت: «ليس هناك شعر عظيم إلا وهو شعر درامي» ، وفي أخذ الشعر الى الدراما والدراما الى الشعر قام إليوت بحركة ذات أهمية مركبة، أيضاً اعادة تجديد الشعر واحياء الدراما معاً وهي نكوص عن ذلك التصور للشعر على انه التعبير الصادر عن الفرد الفوضوي الحساس، وعودة الى مفهوم أوسع للشعر على انه تقديم الأفعال الانسانية مع انعكاساتها في المجتمع البشري، انه يعيد لم شمل الدراما ويعيدها على شكل من أشكال الطقوس. ان (إليوت ) يحقق دائماً تأثيره الشعري في ضوء المزج الفذ الذي يقوم به بين عناصر متنافرة، وهذه الطريقة تبدو فعّالة مسرحياً بمقدار ما كانت فعّالة شعرياً، وتكمن القوة العظيمة في مسرحيتي إليوت اللتين تقدمان الصراع الروحي، ان الشخصيات الرئيسة (هاري وبيكيت) هي أكثر الشخصيات اقناعاً من الوجهة الدرامية، فالخط الأساس مكرس لصراع الشخصية مع نفسها، اما الشخصيات الأخرى فلا دور لها في الخط الأساسي الا التوقع: توقع ما سيحدث لـ(هاري أو بيكيت)، وبالتالي فان المسرحية تمر بقناة ضيقة لكنها تجري بقوة وعمق، ولاستعادة إليوت التقاليد الشعرية الحظ الأكبر في تحقيق هذا النجاح؛ لانها أعانت الشاعر على الكشف عن حياة الروح وعلى أن يعيد للمسرحية جوانيتها العميقة وتفاصيلها من خلال التصوير السايكولوجي.
ان العلاقة المتغيرة بين فكر إليوت وشعره هي التي مكنته من الكتابة للدراما، بل استطاع أن يكتشف الطريقة التي يقدم بها (الصورة الشاملة) السلبي والإيجابي معاً والنقد والتحدي والتشخيص والعلاج الروحي التطهيري.
فتوليد الحديث الشعري من الحديث اليومي والمفردات الشعرية من مفردات الحياة المعاصرة، والبحث عن الكلمة المحددة أو الصورة المحددة لتصوير المشاعر الحقيقية وتجنب ماهو رومانتيكي وتقليدي وزائف، أي الصياغة المستهلكة للعبارة الشعرية…
تلك – حسب زعمي- كانت أهداف إليوت الدائمة .
هناك نقطة مهمة وهي ان اليوت كان يلح على تلك الطريقة التي طوّر بها (الإليزابيثيون) شكل الشعر الدرامي من الكلام الذي كان معاصراً لهم، ويلح اليوت على ان هناك امكانية لإيجاد توازن بينه وبينهم على الصعيد الفني، ذلك لأن المشكلة التي يواجهها هي مشكلة خاصة بالحالة المعاصرة (دينامية اللغة الشعرية).
ان عليه أن يعيد للتأسيس الدرامي / الشعري في مواجهته عداء متعدد الجوانب بما في ذلك العداء الناجم عن الأشكال الحداثية للفن كـ (السينما والرواية والقصة ووسائل الترفيه وفنون العرض الأخرى) وانفتاحها على اللغة المبسطة والأقرب الى لغة الشارع في تراكيبها وسماتها.