جودت هوشيار – موسكو
أيام الصيف الرائعة والبحر الأسود الهادئ , السفينة مثقلة بالمسافرين والأمتعة . زليس هناك موطئ قدم على ظهرها من المقدمة وحتى المؤخرة . الابحار الطويل وفي أتجاه دائري – القرم , القفقاز , سواحل الأناضول , القسطنطينية .
الشمس لاهية , السماء زرقاء , والبحر بنفسجي تختلط فيه جلجلة السلاسل المدوية بشتائم البحارة وصراخهم – الى الأعلى ! الى الأسفل .
قمرات الدرجة الأولى خالية وفسيحة وتشع بالنظافة , القذارة والضيق بين الكتل البشرية من ذوي الجنسيات المختلفة الذين يشغلون الدرجات الأخرى على ظهر السفينة . وقرب المكائن الساخنة والمطبخ الفواح , في الزوايا وتحت المظلات , بين الجبال والسلاسل الممتدة على سطح مقدم السفينة , هنا تنتشر رائحة قوية وكثيفة , هي ساخنة وطيبة حينا , ودافءة وكريهة في أحيان أخرى , ولكنها ابدا مثيرة بنفس الدرجة , رائحة السفينة , ممتزجة بطراوة الحر .
هنا فلاحون روس وفلاحات روسيات , هنا الأوكرانيون والاوكرونيات , وقساوسة من أفون , هنا الأكراد والجورجيون واليونانيون .
الجورجيون يمرحون طوال الوقت فهم أما يغنون أو يرقصون أزواجا في غنج ودلال وقد شمروا عن سولعدهم وأخذوا يقفزون بين الجمهور في خفة , الحجاج الروس المتوجهون الى فلسطين لا يكفون عن شرب الشاي , ثمة فلاح روسي , طويل القائمة غائر الكتفين ذو اللحية صغيرة صفراء وشعر مسترسل يقرأ في الكتاب المقدس وأمرأة وحيدة قرب المطبخ لا تكف عن التحديق فيه في تحد وأصرار , تلبسس بلوزة حمراء وتلف شعرها الأسود الخشن بشارب أخضر خفيف , رست السفينة الى في حوض للسفن عند المضيق , نزلت الى الساحل وعندما عدت رأيت على سلم الباخرة مجموعة من الأكراد المسلحين, يصعدون الى السفينة يتقدمهم شيخ ضخمم الجسم , عريض المنكبين , في الملابس الكردية , يتمنطق بحزام مشدود حول قده النحيل بقوة ومرصع بقطع فنية , الاكراد الذين كانوا معنا على ظهر السفينة , هبوا لأستقباله وأفسحو له مكانا بينهم , وبدأت حاشية الشيخ بفرش المكان بالسجاجيد العديدة , ووضعت عليها المخدات , جلس الشيخ في المكان المهيئ له في عظمة وهيبة , كانت لحيته بيضاء ناصعة ووجه أسمرا غامقا لفحته الشمس ’ كانت عيناه العسليتان تشعان ببريق مدهش , أقتربت منه وجلست القرفصاء ’ وحييته ثم سألته بالروسية :
– أأنتم من القفقاز ؟
– بلادنا أبعد من القفقاز نحن أكراد .
سألته عن وجهته فرد علي في تواضع ولكن في زهو وأعتداد :
– الى أسطنبول .. للقاء الباديشاه نفسه , لاقدم له شكري وأسلم له هديتي وهي عبارة عن سبعة مجالد , كان لي سبعة أبناء أرسلهم الباديشاه كلهم الى الحرب , الواحد تلو الاّخر , لقد مجدني الباديشاه سبع مرات .
كان بيننا شاب يوناني من مدينة كورجي , ممتلىء الجسم , بالغ الأناقة , يعتمر طربوشا دمشقيا ويلبس بدلة رصاصية وصدرية بيضاء , وينتعل حذاءا براقا ذو أزرار جانبية وتضاحك :
تسى ,تسى , تسى ثم أردف قائلا :
– عجوز وبقى هكذا وحيدا .
نظر الشيخ الى طربوش الشاب الوسيم وقال له ببساطة :
– ما أغبااك ! أنت ستشيخ وتصبح عجوزا , أما أنا فلن يحدث هذا معي أبدا , أتعرف حكاية القرد ؟
فأبتسم الشاب الوسيم في ريبة وقال :
– أي قرد ؟
– أذن فأصغى الى ما سأقوله !
لقد خلق الله الأرض والسماء , أتعرف هذا ؟
– حسنا أعرف هذا ثم ماذا ؟
ثم خلق الله الأنسان وقال له : أنت أيها الأنسان سوف تعيش على الأرض ثلاثون عاما , حياة سعيدة هانئة , سوف تفرح ويخيل اليك أن كل شيء على الأرض قد خلق من أجلك , أمسرورا أنت بهذا ؟
وفكر الأنسان في نفسه : ما أجمل هذه الحياة ! ولكن أأعيش على الأرض ثلاثوين عاما فقط ؟ وقال :
– اّه ما أقصر هذا العمر !
وسأل الشيخ الشاب الوسيم في سخرية : أتسمع ؟
فأجابه الشاب :
– أجل
– ثم خلق الحمار وقال له :
سوف تنقل الناس والأمتعة الثقيلة ويهدك التعب ويضربك الناس على رأسك بالأعواد الغليظة فما هو العمر الذي تريده ؟
وأجهش الحمار بالبكاء وأرتفع نحيبه وقال :
– هذا عمر طويل يااّلهي ! أعطني نصفه فقط .
وتوسل الأنسان الى الرب وطلب أضافة نصف عمر الحمار الى عمره , وأستجاب الرب لألتماسه , وهكذا أصبح عمر الأنسان خمسا واربعين عاما , وسأل الشيخ الشاب الوسيم وهو يرمقه بنظراته :
– أن الأنسان كان محظوظا , أليس كذلك ؟
و رد الشاب دون أن يدري ما يرمي أليه الشيخ بهذه الكلمات :
– نعم . لا بأس بذلك , ثم أضاف الشيخ قائلا :
ثم خلق الكلب وأعطاءه من العمر ثلاثين عاما وقال له :
ستعيش طوال عمرك حانقا , سوف تحرس أموال سيدك , ولا تأمن جانب أي أنسان غريب , سوف تنبح في وجوه المارة , ولا تنام الليل , بل سوف تظل ساهرا من القلق . أتدري ؟ لقد ولول الكلب وبكى وقال :
– اّه يااّهي ! يكفيني نصف هذا العمر , وأخذ الأنسان مرة أخرى يطلب أضافة هذا النصف أيضا الى عمره , فأستجاب الرب لرجائه .
– كم أصبح مجموع الأنسان الاّن ؟
فأجاب الشاب وقد بدأ السرور على وجهه أكثر من السابق :
– ستين عاما
– ثم خلق الله القرد ومنحه من العمر ثلاثين عاما وقال له أنه سوف يعيش بلا عمل , بلا هموم , ولكن سوف يكون قبيح الوجه , أتدري ! وجه عار , ملىء بالتجاعيد , الحاجبان منحرفان نحو الجبين , سوف يحاول هذا المخلوق أن يلفت الأنظار , غير أن الناس سوف يسخرون منه , وهنا سأل الشاب الوسيم :
– أذن فالقرد رفض أيضا نصف العمر الممنوح له ؟
نهض الشيخ من مكانه وتناول مبسم النرجيلة من يد أحد رجاله وقال – أجل رفض القرد أيضا نصف عمره , وأضيف هذا النصف الى عمر الأنسان – ثم عاد الى مكانه بعد أن أخذ نفسا من النرجيلة , وصمت وأخذ يرنو ببصره الى شيء ما أمامه , وكأنه نسى ما حوله تماما , وقال دون أن يوجه كلامه الى أحد :
– عاش الأنسان على الأرض ثلاثين عما من عمره كأنسان , أكل وشرب وحارب , رقص في الأعراس , أحب النساء الجميلات , أما الخمسة عشرة عاما من عمر الحمار فقد أشتغل وجمع المال , وقضى الخمسة عشرة عاما من عمر الكلب يحرس ماله ويحافظ عليه , يعوي في وجوه الاّخرين ساخطا ويسهر الليالي قلقا , ثم أصبح مكروها وعجوزا مثل ذلك القرد . والناس من حوله يهزون رؤوسهم ويسخرون منه , ثم وحه كلامه الى الشاب الوسيم وهو يحرك مبسم النرجيلة بين شفتيه :
– كل هذا سيحدث معك .
وسأله الشاب
– ولكن لماذا لم يحدث هذا معك ؟
– أجل , لم يحدث هذا معي !
– ولكن لماذا ؟
– فأجابه الشيخ بصراة .
– الناس الذين هم مثلي , نادرون , لم أكن حمارا , ولم أكن كلبا , فلماذا أكون قردا , لماذا أكون عجوزا !