كتب الأديب والناقد الأدبي المميز الأستاذ فاضل ثامر نصاً ممتازاً للتذكير بكارثة الشخصية الوطنية ونصير السلام العالمي والشاعر والكاتب العراقي عبد الرزاق الشيخ علي، إذ تم تغيّيبه في نهاية 1957 أو أوائل عام 1958، بعد أن كان أنهى محكوميته في سجن بعقوبة وفترة الإبعاد في المنفى الخاص بالسياسيين العراقيين بمدنية بدرة القريبة من الحدود الإيرانية، وهي مدينة عريقة يعود تاريخها إلى أكثر من 4000 سنة ق.م. والهيئة العامة للآثار والتراث تشير إلى وجود كتابات عن المدينة في عهد الملوك الأكديين قبل 2500 سنة ق.م. ولكنها لم تتحول إلى مدينة لإبعاد السجناء السياسيين إلا في العهد الملكي وفي فترة حكم نوري السعيد منذ نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين. وعرفت هذه المدينة إحدى الشخصيات الوطنية المعروفة ونصير السلام وعضو مجلس السلم الوطني العراقي الذي شارك في المؤتمر التأسيس عام 1954 السيد عبد الصاحب البدراوي، الذي تعرض للاعتقال مراراً في العهد الملكي والتقيته في عام 1958 في معتقل مركز شرطة بدرة في أوائل عام 1958 حيث أطلق سراحه، وهو والد البروفيسور الدكتور راجح البدراوي.
احتضنت مدينة الإبعاد كثير من الشخصيات السياسية العراقية المناضلة وبينهم كثير من المثقفين العراقيين الذين قضوا سنوات في هذه المدينة الحدودية المقطوعة إلى حد بعيد عن العالم والعراق ذاته. وقد بني 12 بيتاً للمبعدين على صف واحد وضم كل بيت بين 12-15 مناضلاً مبعداً، منهم عبد الرحيم شريف والدكتور خليل جميل الجواد وكريم أحمد الداوود وكاظم برهو (أبو قاعدة) والمحامي جواد كاظم والمناضل عادل سليم وستار خضير الصگر وخليل عبد العزيز وعبد علوان والدكتور محمد صالح سمیسم وماجد عبد الرضا وخالد السلام، إضافة إلى ثلاث عائلات من النجف (السيد هادي علي مرتضى وزوجته المناضلة نجمة أم أموري)، من كردستان عائلة المساح صابر وعائلة كردية أخرى ….الخ، وجميع هؤلاء كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، وبعضهم ما زال حياً مثل الرفيق كريم أحمد (أبو سليم) وعبد الأمير صالح الصراف والدكتور خليل عبد العزيز وحمدي العاني …، أرجو لهم طول العمر. ومن بين المبعدين كان الأستاذ عبد الرزاق الشيخ علي، الذي كان يقطن البيت الخامس ومعه الرفيق كريم أحمد، وكان معهم في ذات البيت علي محمود من السليمانية وفرج يوسف من بغداد، الذي يعيش اليوم في برلين، ألمانيا. تراوح عدد المبعدين في عام 1957 بين 130-140 مناضلاً شيوعياً أ صديقاً للحزب.
في هذه الفترة وبعد انتهاء فترة سجني نقلت إلى بدرة لقضاء فترة حكم الإبعاد في النصف الثاني من عام 1956. ثم جاء الأستاذ عبد الرزاق الشيخ علي في نهاية عام 1956 من سجن بعقوبة إلى بدرة. كنت أعيش في البيت السادس ومعي من المناضلين المبعدين: عادل سليم، عاصم الحيدري، بهنام بطرس، والموسيقار عبد الأمير صالح الصراف وكريم أحمد السعداوي وعمر فاروق من كركوك، ومحمد حسين الدجیلي.
في البيت الخامس سكن في حينها الرفاق كريم أحمد الداوود وستار خضير وعبد الرزاق الشيخ علي وفرج يوسف وفاتح رسول. سادت علاقات الود والاحترام بين الرفاق في الإبعاد. وقد اعتنى الرفاق في البيت الخامس بالشاعر عبد الرزاق الشيخ علي، لاسيما وأنه قد عاد من سجن بعقوبة وهو مصاب بمرض عصبي أصيب به أثناء وجوده الطويل في السجن الانفرادي. كان مدير السجن الضابط علي زين العابدين يزوره يومياً تقريباً ليستفزه بكلمات جارحة ضده أو ضد حركة السلام أو ضد الشيوعيين، مما كان لا يسكت على تلك الإساءات المناضل الشجاع عبد الرزاق الشيخ علي، فكان يرد عليه بقوة، مما كان تثير المجرم علي زين العابدين لهذا التحدي، فكان يأمر حراس السجن الأوباش بالانقضاض على الشخص المسالم عبد الرزاق الشيخ علي بالضرب، وكانوا بشكل خاص يوجهون ضرباتهم إلى رأس الشيخ علي وينزعون حذاءه وينهالون على رقبته بالضرب الشديد تسبب بما كان يهدفون تحقيقه، إصابة الحبل الشوكي للشيخ بضرر كبير. وقد تسبب هذا الضرب المستمر ولفترة طويلة بالضرر الفعلي وتجلى في ثلاث ظواهر سلبية في وضع الشاعر النبيل:
1) شرود الذهن (الصفنة الطويلة) والغوص في دواخله، والرغبة في الانفراد والعزلة؛
2) اهتزاز الرقبة يمنة ويسرة وعدم استقرارها، وأحياناً حصول توتر داخلي يتجلى في وجهه.
3) ندرة الحديث، إلا إذا سؤل أو طلب منه النقاش في مسائل ثقافية، لقد كان قليل الكلام بعكس ما أعرفه عنه.
لقد كان عبد الرزاق الشيخ علي في وضع غير ذلك حين التقيته لأول مرة في موقف السراي في نهاية عام 1955 وبعد أن نقلنا أنا والفنان عبد صالح الصراف من مديرية التحقيقات الجنائية إلى موقف السراي، كان ينشد بصوت جهوري قوي نشيد المقاومة الإيطالية المناهضة للفاشية.
Avanti popolo, bandiera rossa هيا أيها الناس للعلم الأحمر
Alla riscossa, alla riscossa هيا للإنقاذ ، للأنفاذ
Avanti popolo, bandiera rossaهيا أيها الناس للعلم الأحمر
Alla riscossa, trionferàللإنقاذ للانتصار
في حين كان الثلاثي القادم من سجن نقرة السلمان: محمد صالح سميسم وحميد الدجيلي وسليم إسماعيل يغنون لنا أغنية مرحة للمنولوجست عزيز علي صلوا على الني بكلمات تهكمية منها: وبكربلا مهافيف صلوا على النبي … حصران صار وليف صلوا على النبي…
كان في الموقف معنا في هذه الفترة مام جلال الطالباني وحبيب محمد كريم وحسقيل قوجمان ويعقوب كوهين وهادي هاشم وخليل الشيخلي وماجد نجم ججاوي وطاهر عبد الكريم، وكذلك عبد العزيز البدري من حزب التحرير الإسلامي.
كان عبد الرزاق الشيخ علي شاعراً وكاتباً أنجز بعض الكراسات المهمة لدعم نضال الشعب ولاسيما قضية السلام العالمي التي أشار إليها الزميل الفاضل الأستاذ فاضل ثامر. لقد اتسم بالهدوء والاحترام إزاء رفاقه في السجن والإبعاد، وكان يطرح وجهة نظره بتواضع جم أثناء مناقشة القضايا الثقافية المعاصرة في الخمسينيات، وكان مدافعاً أصيلاً عن قضية السلام في العالم. إلا إن وضعه الصحي العام ولاسيما أعصابه كانت تتدهور بمرور الوقت حين انتهت فترة الحكم الجائر بنفيه إلى بدرة.
الذكر الطيب لهذا المناضل الأبي والشجاع. اقترح أن يأخذ اتحاد الأدباء والكتاب في العراق على عاتقه مهمة إعادة نشر كراساته في كتاب واحد تحت عنوان أعمال الشاعر المغدور عبد الرزاق الشيخ علي. لا يعرف أحد ما حصل له بعد وصوله بغداد وإطلاق سراحه، لا يعرف أحد من الذي اختطفه وغيبه وكيف حصل ذلك. وليس سهلاً الحصول على معلومات بهذا الصدد، ولهذا يبقى النظام الملكي مسؤولاً عن اختفاء الشاعر العراقي والمناضل من أجل أن يسود السلام في العالم وضد الحروب، كل الحروب، عبد الرزاق الشيخ علي. الذكر الطيب لللفقيد الغالي والمواساة الحارة لعائلته ولابنته الفاضلة السيدة سامرة عبد الرزاق الشيخ علي، والشكر الجزيل للأستاذ فاضل ثامر الذي أعاد تجديد الذاكرة والتذكير بهذا الشاعر النبيل.