د. عماد الدين الجبوري
كلما تقدمت العلوم والمعارف وتطورت مفاهيمها ومعطياتها، إحتاج الإنسان لمزيد من البحوث والدراسات بحسب الاختصاصات. ومن بين المواضيع التي تشغل العقل وتدفعه للتفكير فيها هو “الزمن”. فالزمن وفق المفهوم المثالي، أحدثه الخالق في خلقه للوجود؛ بينما المفهوم المادي، يعتبره إنعكاساً ذاتياً لحركة تطور المادة الأزلية. وعلى هذا المنوال تصدح الآراء والأقكار بين الفلاسفة والعلماء. حيث تتقارب وتتباعد نظرياتهم الزمانية
.
الجانب الفلسفي
رغم أن أفلاطون (427-347 ق.م) نسّقَ جُلَ أفكار شيخه سقراط (469-399 ق.م) فتداخلات الآراء، لكنه إستطاع أن يضع لنفسه نهجاً مميزاً. ومما قاله عن الزمان: قد أحدثه الصانع مع صنعه إلى الموجودات المحسوسة، حيث لا جدوى في آنيات الزمان في القبل والبعد دونما أن يخلق الزمان. وهكذا يكون زمان الموجودات ذا بداية واحدة في الوجود. غير أن الزمان هو أيضاً الصورة المتحركة للأبدية. بمعنى أن الله الذي أحدث التركيب الصوري في تنظيم الوجود (أو العالم) للمادة الخام المتخلخلة فقد أحدث معها الزمان. وحسب رأي أفلاطون: أن الله قد أحتذى المثُل عندما خلق الوجود، والمثل أزلي. وهكذا يكون الصانع قد وهب الوجود صورة من أزليته. وبما أن وجود الأشياء المحسوسة تكون متحركة، فإن الله قد خلق الزمان لكي يكون الصورة المتحركة للأبدية، وجعل من مقاييس الزمان تكون حركة الكواكب. وأن “الحركة الدائرية” هي أفضل ما يكون1.
وهذا يعني أن أفلاطون يعتبر الزمان هو الحركة في حد ذاتها.
أما تلميذه أرسطو (384-322 ق.م) فيستمر على نمط إستاذه، حيث يجعل الزمان مرتبطاً بالحركة، غير أنه يعتبر الزمان مقداراً للحركة وقياسها. فالزمان يتكون من ثلاثة عناصر: الماضي والحاضر والمستقبل. وهو يكون في أحداها. وبما أن الماضي قد أنقضى والحاضر يتقضى حيث ليس ثابتاً على درجة مستقرة، وأن المستقبل لا يكون بعد في وجوده؛ لذا فالزمان لا سبيل إلى معرفته إلا بالحس الظاهر وما يستلزم من الحركة. وبما أن للحركة أنواعاً ودرجات منها السريع والبطيء، وإن الزمان غير ذلك حيث يكون زماناً واحداً بين جميع الموجودات لا تغير فيه قط، فهو على نسق واحد. وبذلك يكون مرتبطاً بالحركة دونما أن يكون هو الحركة ذاتها، إنه مقياسها في الما قبل والما بعد ليس إلا. أما “الحركة” فهي سرمدية ومستمرة بلا إنقطاع2.
هذا ويركز أرسطو على أن مفهوم الزمان يكمن في “الآن” وهو أقرب ما يكون بها محدوداً. فكل آن يوجد قبله آن وبعده آن كذلك. وبما أنه لا يوجد هنالك من آن يكون هو البداية إلى الآنات الزمانية، وأيضاً لا يوجد هنالك من آن يحمل صفة النهاية الزمانية. إذن فأن الزمان أزلي حيث لا بداية له ولا نهاية، وكذا الأمر مع الحركة حيث ليست لها من بداية معينة ولا نهاية تقف عندها وهي بذلك أزلية أبدية لكونها مرتبطة بالزمان. وعلى هذا الأساس يرى أرسطو أن الوجود أزلي قديم وليس محدثاً كما عند أفلاطون.
وفي نظرية الفيض التي وضعها زعيم المدرسة الإسكندرانية أفلوطين (205-270 م) ينص على أن الخلق حدث بشكل فيض من “الواحد” إلى ما دونه من العقول أو الأفلاك المتدرجة نحو الأسفل. بيد أن هذا الفيض أو الصدور الإلهي حدث بالضرورة وليس بالإرادة، وكذلك ليس بزمان، لأن الزمان يتطلب وجوده في الأشياء المحسوسة دون العقول المجردة3. كما وأن الحركة في هذا الفيض لا تعني بأنها تنقل من المحرك إلى المتحرك بالضرورة، كما أعتقد أرسطو، بل أن أصل الفيض يكون من كمال الواحد وليس بالتعدد التسلسلي. وهكذا يكون المتحرك طوعية ينشّد إلى المحرك ويتعلق به فيصدر الوجود من جراء كماله.
ويؤيد يعقوب الكندي (185-256 ه/801-872 م) موقف أرسطو حيث أن الزمان مقياس عددي إلى الحركة، ويدحض قول إفلاطون. ومع ذلك فأن الكندي يعتبر هذا “الآن ليس زماناً” إلا إذا أعتبر في العقل من آن إلى آن آخر، فإننا نجعل فيما بينهما يوجد زمان. وعليه فأن الزمان ليس في شيء سوى أنه يكمن في القبل والبعد. أي ليس أكثر من كونه المقدار العددي للحركة. وعلى حد قوله: أن الجسم لا يكون موجوداً إلا في مكان ونهاية. “وفيه أيضاً حركة يوجد بها كَوْنُه، وهذا له ذاتي في المكان والزمان، لأن الزمان عدد الحركة”4.
وعلى هذا النمط الأرسطي يسير محمد الفارابي (257-339 ه/870-950 م) قائلا: “أن الزمان إنما هو عدد حركة الفلك وعنه تحدث، وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء”5. ورغم تأكيده على أن الوجود محدث دفعة واحدة من الله، لكنه يتفق أيضاً مع أرسطو بجعل الزمان أزلياً أبدياً. حيث أن الوجود بأسره لا يكون متأخراً بزمان عن وجود موجده وموجبه وهو الله. إذ أن المعلول إنما يوجد بوجود علته حيث لا يتأخر عنها قط إلا في حالة نتيجة في النقص أو العجز يعيقه من أن يخلق آثاره. وإذاً فأن التلازم بالزمان يكون ضرورياً بين العلة والمعلول. أما سبق تقدم العلة على المعلول فيراه الفارابي من حيث المنزلة السامية وليس من حيث الزمان. كما في حركة اليد التي تكون متقدمة على حركة الخاتم الذي يتحرك بحركتها حيث إنهما يتحركان سوية، غير أن حركة اليد تكون ذاتية بينما حركة الخاتم غير ذاتية بل لازمة عن الحركة لليد. وهكذا هو الأمر الذي يكون بين الله والوجود، حيث هما أزليان أبديان. إلا أن تقدم الله على الوجود يكون بالذات علاوة على أزليته في الزمان. والوجود كذلك أزلي بالزمان إلا أنه معلول عن علة الأول الذي يكون أدنى منه بالمنزلة.
صفوة القول، أن الوجود محدث من الله ولكن بدون زمان، وعن حركة الوجود حدث الزمان الذي “هو عدد حركة الفلك”. وهكذا يقف الفارابي بجانب الكندي داعماً فكرة أرسطو ضد أفلاطون، حيث أن الزمان يكون مقياساً إلى الحركة ومقدار عددها، وليس هو الحركة بذاتها.
ويذهب الحسين أبن سينا (370-428 ه/980-1037 م) على خطى الفارابي. فالزمان قديم والوجود محدث. فوجود الأول (الله) هو علة إلى الوجود، وأن الوجود هو معلول عن وجود الأول. والعلة تسبق متقدمة معلولها دائما. وأن المعلول يتأخر بتأخر عن علته دائماً. وهنا تكون الأقدمية بالذات لا بالزمان. كما في حركة اليد للمفتاح. فإذا “حركت يدي فتحرك المفتاح، أو ثم تحرك المفتاح، ولا نقول تحرك المفتاح فتحركت يدي، أو ثم تحركت يدي، وإن كانا معاً في الزمان. فهذه بعدية بالذات”6. أما إذا قلنا أن الوجود متأخر بالزمان لوجب علينا القول في القبل، حيث هناك زمان لم يكن فيه. وهذا القبل قطعاً لا يثبت مع البعد. إذ ينتهي حيثما يحصل فيه. وعليه فأن الزمان يكون مستمر التواصل، وهو أيضاً مقدار الحركة ومقياسها. كما وأن الحركة تستوجب متحركاً، فإذا قلنا بِقدم الزمان فإنه يقودنا إلى القول بِقدم المتحرك وهو الوجود.
إلا أن الإمام محمد الغزالي (450-505 ه/1058-1111 م) يرفض فكرة الفارابي وأبن سينا. فالزمان محدث مع حدوث الوجود الذي هو “مُسخّر لله تعالى”. إذ ما المانع أن يكون العدم مستمراً حتى أحدث الله بقدرته الإرادية الوجود في الوقت الذي وجد فيه، ويبتدىء من حيث أبتدأ دونما أن يكون من مراد ما قبل حدوثه. وأنه قد حدث المراد في وقت حدوثه وذلك عبر الإرادة الإلهية القديمة. أن: صدور الحادث عن القديم ليس مستحيلاً في حق الله، سواء كان هذا الحادث العالم أو الزمان أو الحركة. والحقيقة أن الزمان حادث ومخلوق، وليس قبله زمان أصلاً. ومعنى تقدم الله على العالم والزمان أنه سبحانه كان ولا عالم معه، ثم كان ومعه العالم. وبهذا يكون معنى تقدم الباري على العالم إنفراده بالوجود دونه7.
ومن هنا يفند الغزالي الحجة التي أستند عليها الفلاسفة القائلة: لا يجوز أن يصدر عن العلة القديمة محدثاً وإنما قديماً مثله. وأثبت أن ليس هنالك تعارصاً طالما إرادة الأول القديم تفعل ما تشاء أن تفعل فيحدث الوجود وهو الأزلي القديم. وفي هذا الصدد يرد الغزالي إذ يجعل في موضعين لا يجوز أن يُقدّر فيهما من إختلاف حيث يكون: أحدهما إختلاف جهة الحركة والآخر يكون فيه تعين موضع القطب. أما القطب فبيانه أن السماء كوكب متحرك على قطبين، كأنهما يكونان ثابتين دون تغير هما القطب الشمالي والقطب الجنوبي. فوفق رأي الفلاسفة تكون ما من نقطتين متقابلتين التي لا نهاية لها، إلا أن وأن تكونا هما القطبين، فَلِمَ تعينت نقطتي الشمالية والجنوبية للقطبية والثبات؟ بل وما الذي ميز موضع القطب عن غيره حتى تعين كيما يكون قطباً دون باقي الأجزاء وكل النقط تكون متماثلة وكل أجزاء الكوكب تكون متساوية. وهن إختلاف جهة حركة الأفلاك فإن حركة الأفلاك لها جهة معينة دون يرها بعضها من الشرق إلى المغرب وبعضها يكون على العكس. إلا أن الذي يجري وفق تساوي الجهات فما سبب تعينها مع تساوي الجهات وإمكان حركة كل فلك على العكس ما يكون عليه. وعلام أن تميز جهة من تماثلها.
وكذلك يرد الغزالي على قول الفلاسفة: أن الحركة الدائرية الدائمة تكون هي مستنداً إلى الحوادث كلها قديمة وأزلية. ويشير إلى أن الحركة الدورية هذه والتي هي المستند إذ إما أن تكون حادثة أو قديمة، فأن كانت قديمة فكيف إذن صارت مبدأ لأول الحوادث. بل وكيف أمكن صدور الحادث عن القديم. وإن كانت حاثة قطعاً تحتاج إلى حادث آخر. وهنا يكون الترتيب تسلسلياً إلى ما لا نهاية وهو محال8. وعليه لابد وأن تكون للحوادث أن تنتهي إلى محدث قديم وهو الله. أما القول بأن حدوث الوجود عن الله بالذات لا بالزمان كتقدم الشخص على حركة الظل التابع له، أو حركة اليد مع حركة الخاتم. فجواب الغزالي: أن صدور الحادث عن القديم لا يكون إعجازاً ومحالاً في حق الله سواء كان هذا الحادث الوجود أو الزمان أو الحركة.
أن الزمان حادث وليس قبله زمان. وأن تقدم الله على الوجود والزمان، هو أن الله كان ولا وجود معه ثم كان ومعه الوجود. غير أن نقطة الضعف أو الوهم الذي سيطر على الفلاسفة يكمن في تصور مبتدأ لا يكون إلا مع تقدير “قبل” الذي يكون له “القبل” أيضاً. وبهذا لا ينفك الوهم عنه عندما نظن أن ذلك الشيء يكون محققاً موجوداً هو الزمان. فالغزالي ينفي وجود الزمان الأزلي الذي يكون قبل حدوث الوجود. ويجعل الزمان يكون محصوراً فقط بالمكان الذي حدث فيه الخلق لكي يثبت تناهي الزمان. حيث أن البُعد المكاني يكون تابعاً إلى الجسم لأنه إمتداد إلى أبعاد الجسم. فإذا كان الجسم متناهياً كان البُعد الذي هو تابه له دون شك متناهياً أيضاً.
وبما أن البُعد المكاني يكون تابعاً إلى الجسم، إذن فإن البُعد الزماني يكون تابعاً إلى الحركة. إذ إنه إمتداد الحركة كما أن ذلك إمتداد أبعاد الجسم. وإذا كان الإثبات على تناهي أبعاد الجسم تمنع من إثبات بُعد مكاني يكون وراءه. فإن الإثبات على تناهي الحركة من طرفيه تمنع أيضاً من تقدير بُعد زماني يقع وراءه. حيث لا فرق بين البُعد الزماني في “قبل” و “بعد” وبين البُعد المكاني في الفوق والتحت. إن ذلك مجرد تقسيم. فإذا جاز إثبات أن الفوق لا يكون فوقه فوق. جاز أيضاً إثبات أن قبل لا يكون قبله قبل. وعليه فلا يوجد فرق حقيقي بين الزمان والمكان، غير أن يكون خلقهما في الوجود بخلق الموجودات.
بمعنى آخر، طالما كان هنالك نوع من الوهم في تصوراتنا عن الزمان في القبل. وأن حقيقة الزمان محدث مخلوق مرتبط بالمكان لا ينفك عنه، لذا فهما معنيان مذ خلقهما الله بين الصور الذهنية في العقل.
أن التعبير الأخير للغزالي قد ظهرت ملامحه عند القيلسوفين عمانؤيل كانت وجورج بركلي. فالأول أعتبر الزمان والمكان من خلق العقل وتصوراته الذهنية، حيث يؤلفهما تأليفاً دونما أن يشير إلى الله الذي فعل ذلك. أما الثاني فقد جعل كل تصوراتنا عن الوجود تكون هي في الحقيقة صور ذهنية قد طبعها الله فينا.
صفوة القول عند الغزالي أن الزمان مُحدث، وهو مقياس عددي إلى الحركة. وأن الوجود متناهي في الزمان والمكان والحركة. وأن الكل بالكل حادث عن القديم أو واجب الوجود. فالوجود إنما وجد من حيث وجد وعلى الوصف الذي وجد به وفي المكان الذي وجد حاوياً به وفي الزمان الذي وجد مبتدأً به عبر الإرادة الإلهية المطلقة.
إلا أن إنتفاضة الإمام الغزالي ضد الفلاسفة قد خمدها القاضي محمد أبن رشد (520-595 ه/1127-1198 م) ورد عليه أغلب حججه. حيث أن الله ليس من شأنه أن يكون في زمان، بينما العالم شأنه أن يكون في زمان9. والزمان ينطبق على الأجسام المادية المتحركة. ولم تكن هناك حركة قبل خلق العالم، وبالتالي لا يوجد زمان. أن الزمان هو مقياس الحركة. ونحن إنما نعرف عدد السنين والحساب بناء على حركة الأجرام السماوية. فالوجود كائن حي وأن “الجرم السماوي حيوان”. وأن جميع “الأجسام السماوية حركتها الجزئية شبيهة بأعضاء الحيوان الواحد الجزئية وحركاته الجزئية”10. فالمادة قديمة وليست محدثة. وأن الحركة الصادرة عن طبيعة الجسم الحي هي حركة ذاتية دونما أن يكون لها من حركة خارجة عنها.
وحسب المفهوم الرشدي هناك نوعان من الوجود، أحداهما يكون في طبيعته الحركة بشكل ذاتي وهذه لا تنفك عن الزمان. والآخر لا يكون في طبيعتها الحركة وهذه الحركة تكون أزلية أبدية لا تتصف بالزمان11. فإن الذي لا تكون في طبيعته الحركة هو العلة في الوجود والذي يكون في طبيعته الحركة. وبذلك فإن تقدم أحد الوجودين على الآخر لا يكون تقدماً زمانياً. وإذا كان ذلك كذلك فأن التأخر لا يكون زمانياً أيضاً. وبما أن ذلك صعب تحليله إلى العقول العامة من الجمهور لذا فقد إتخذ الشرع طريق التمثيل بالشاهد رغم أنه لا يكون هنالك من مثال في الشاهد. وعلى ذلك ترى قوله تعالى أن خلقه للوجود وقع في زمان. “أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام”. والحق أن الزمان لا ينطبق على أفعال الله وإنما ينطبق على الموجودات المادية أو على أفعال الإنسان نفسه.
وهذا يعني أن أبن رشد قد أخذ بنظرية أرسطو القائلة بأزلية المادة وأبديتها، وأن الخلق عنده لم يكن غير أن الله قد حرك المادة لكي ينقلها من وضع القوة إلى وضع الفعل لا أكثر. إذ لم توجد أية حركة قبل الخلق للوجود. فالحركة لا تكون إلا في الأشياء المادية. وإن لم توجد الحركة فإنه قطعاً لا يوجد الزمن. أن الحركة التي وجدت هي كلية للأجسام السماوية أو الكونية وضمن المكان التي توجد فيه: “هي كالحركة الكلية في المكان للحيوان”. وكذلك الحال نفسها مع حركات الأجزاء للأجرام السماوية حيث أن “الحركة السماوية واحدة بالعدد”. بينما الأجسام السماوية فهي لا يمكن أن تكون “واحدة بالعدد” وإنما هي “واحدة بالنوع”. وبذلك فإنها مستمرة وباقية من حيث بقاء الحركة الواحدة بالعدد فحسب.
أن كلام أبن رشد عن الزمن أقرب إلى الفكر المادي من الفكر المثالي. ربما نتيجة سعيه إلى ردم الخلافات بين المتكلمين والمعتزلة والأشعرية من جهة، والفلاسفة الأغريق والمسلمين من جهة أخرى؛ قادته أن يضيق ويبسط في بعض مفاهيمه وآرائه الفلسفية.
ويحذو رينه ديكارت (1596-1650) على منوال أبن سينا في “فكرة الإمتداد”. حيث قد ساوى بين المادة والمكان وجعله على شكل دقائق مادية صغرى. أما الزمان فلقد أعتبره نسق من نسق التفكير، حيث له صفته الرئيسية وهي الإستمرار المتواصل. بمعنى آخر، أن الزمان وفق المفهوم الديكارتي ليس له وجود موضوعي، وإنما من تأليف العقل. أما الإمتداد في الأجسام والمكان التي توجد فيه فيمنحهما صفة الواقع الموضوعي. وهكذا طور ديكارت مناهج العلم بمفاهيم جديدة في تفسير الوجود حيث قد فصل الوجود كواقع فيزياوي قابل للقياس عن الوجود الذي يدرك من خلال العقل. حيث “يجب علينا أن نكتشف المبادىء اليقينية فيما يختص بالأشياء المادية، وليست مشتقة من تحيزات الحواس بل من نور العقل”12.
ولقد رفض ويلهام لايبنتز (1646-1716) صفة المكان والزمان المطلقين عند نيوتن، ونص على أن إنهما فقط عبارة عن علاقات ذات ترتيب في العمليات الموجودة بين الأشياء. أي أن الزمان والمكان يربطهما لايبنتز بالمادة، حيث ليس لهما واقع منفصل مطلق. وبما أن المادة عند لايبنتز عبارة عن مونادات: “جواهر فردة” أو ذرات روحية وهي لا تنفصل عن بعضها البعض. لذا فإنه ينص على أن “الزمان والمكان ليس هما جوهران ولا صفتان لجوهرين حقيقيين. إنهما لا أكثر من نسقين أو ترتيبين مشتركين في ظواهر الوجود”13.
بمعنى ثانٍ، أن الزمان والمكان وفق مفهوم لايبنتز عبارة عن إحساس ذاتي ليس له واقع موضوعي، لأن المونادات التي خلقها الله وبث فيها القوة لكي تعمل في تصاعد كمالي. أن “هذه المونادات هي الذرات الحقة في الطبيعة. وبالإختصار هي عناصر الأشياء”14. حيث أن المادة والطاقة هي تلك الذرات أو الجواهر الفردة الروحية التي وهبها الله الحياة والتي هي منتشرة في عدد لا نهائي في الوجود على شكل نقط يحدث منها الخلق، والإنسان أسمى ما موجود، وأن تصوراته عن الزمان والمكان هي في الحقيقة تصورات باطنية لا وجود لهما في الخارج. حيث أن المعرفة الحقة التي يتوصل إليها الإنسان تكون أساساً بواسطة المبادىء المطلقة التي توجد في العقل، والتي منها أيضاً يتكون العقل. وهكذا فالوجود الواقعي يكون أدنى منزلة من أفكار العقل.
وإذا أقترب الراهب جورج بركلي (1685-1753) من مفهوم لايبنتز، حيث جعل الزمان والمكان عبارة عن شكلين من الأحاسيس، فإنه يدنو أكثر نحو مفهوم الغزالي؛ بقوله: أن “الزمان والمكان يوجدان بداية إلى وجود أفكارنا”15. وأن “جميع الأشياء التي توجد هي توجد في الذهن فقط. أي هي تصورية خالصة”16. فلا وجود إلى الأشياء المادية غير صور ذهنية قد طبعها الله في عقولنا والتي ندركها بواسطة حواسنا.
وحسب رأيه أن الفكرة التي ندركها ليست هي حالة عقلية بل أنها فقط تكون موضوع العقل المدرك الذي منحه الله صور الأشياء. بمعنى أن الوجود لا يكون له وجود بما تسببه من أفكار، وإنما الأفكار ذاتها هي التي توجد في الوجود، ومنها فكرتنا التي نحسها عن الزمان. وهنا يريد بركلي أن يتجاوز ثنائية ديكارت، فالاحساسات لا تكون علتها الحقيقية هي المادة، وإنما أفكار قد وهبها الله إلى العقل الذي يدرك بواسطة الحواس.
أما جون لوك (1632-1704) فيؤيد فكرة الأمتداد عند ديكارت، لكنه يجعل المادة والعقل متداخلان لدرجة يكونان شيئاً واحداً، فلا يمكن بعد ذلك أن يكون الأمتداد هو الخاصية الملازمة للمادة فقط . إذ أن العقول أو “الأرواح تمتلك كل منها تحديد الزمان والمكان من بداية وجودها. وإن العلاقة بالنسبة إلى الزمان والمكان هي سوف تحدد دائماً لكل منها تطابقها طالما هي موجودة”17. ونتيجة لذلك يرى أن الزمان والمكان يأخذان كل منهما قبولاً في التحدد. وأن: الزمان يأخذ شكل الدوام اللامتناهي متناسباً بالوجود. وأن حركة أجسام الكون العظيمة هي بقدر ما نحن نعرف أي شيء عنها. وفي هذا الإحساس يبتدىء وينتهي الزمان في وضع هذا العالم المحسوس.
أما ديفيد هيوم (1711-1776) فرغم تسليمه أن للوجود واقع مستقل عن الذهن، إلا أنه يشكك من أن يدرك هذا العقل ماهية هذا الواقع المستقل بمعزل عن طرق معينة، إذ كل إدراك يكون إنما هو إدراك نسبي وخاص يحدث وفق شروط خاصة وليس إدراك محض خالص. وبذلك ينكر هيوم على الزمان والمكان أن يكون لهما واقع خارجي. بل أن الذهن الذي يكون تمثيله إلى الصور فقط هو الذي يتثناهما. وهكذا فإن “فكرة الزمان تكون مشتقة من تعاقب إدراكاتنا لكل نوع، الأفكار والإنطباعات، علاوة على الإنطباعات المعكوسة والإحساس ستعطينا حالة الفكرة المجردة، وهي إدراكات تبقى أكبر تنوعاً من المكان، ومع ذلك فهي تُصوّر وهمْ الفكرة الفردية المعينة التي تحدد الكمية والنوعية. ومن هذه الأشياء المرئية والملموسة المنظمة نحن ندرك فكرة الزمان. وهكذا من تعاقب الأفكار والإنطباعات نكوُّن فكرة الزمان، وليس ممكناً بالنسبة للزمان وحده أن يكوُّن ظهوره، أو يمكن ملاحظته بالذهن”18.
وعلى خطى هيوم وأثر الغزالي يسير عمانؤيل كانت (1734-1804) بجعل العقل يقوم بخلق وتأليف صور الأشياء التي لا وجود خارجي لها. إذ أن العقل قاصر عن سبر جوهر الأشياء، لأنها موجودة بذواتها. فالمادة هي موضوع الإدراك الحسي، أما الصورة فهي المبدأ الباطني إلى الذات المدركة التي تنظم الفحوى الخارجي تبعاً إلى العلاقات الخاصة. فالزمان والمكان من خلق العقل، وهما صورتان أوليتان تخلقهما الحساسية على شتى المعطيات الحسية التي ترد إليها من الخارج دونما أن يكون لهما من أي وجود حقيقي في الوجود الخارجي، لكونهما موضوعين قائمين في ذاتهما.
يقول كانت: “عندما أتكلم عن الأشياء في الزمان والمكان، فإنها ليست الأشياء بذواتها، والتي أجهلها، بل في الأشياء الظاهرة ضمن الخبرة كطريق خاص مُدرِك بالأشياء التي هي فقط مُعطاة للإنسان. ويجب أن لا أقول أن الزمان والمكان في ذاتهما ومستقلان عن أفكاري، ويوجدان زمانياً ومكانياً. إذ في هذه الحالة سوف أناقض نفسي، لأن المكان والزمان يظهران معاً ولا شيء يوجد بذواتهما وخارج عن تصوراتي، بل إنهما فقط أسلوبا التصور. ومن التناقض الملموس القول أن التصور المجرد يوجد خارج تصوراتنا”19.
وفي نص آخر يشير قائلاً: “أن الزمان ليس شيئاً بذاته، أو وُجِدَ في الأشياء كتحديد موضوعي، لذا يبقى متى التجريد يكون قد كوّنَ الشروط الموضوعية في حدس الأشياء… الزمان هو ليس أكثر من صورة الحس الداخلي، أعني حدس النفس والحالة الداخلية فينا. بالنسبة إلى الزمان لا يكون بأي تحديدٍ كمظهر خارجي من ظواهر الطبيعة، ولا يكون في شكل أو وضع. بل على العكس، إنه يُحدد العلاقة في تصورات حالتنا الداخلية”20.
ويرى كانت أيضاً أن: الزمان ليس شيئاً موضوعياً واقعياً كما وأنه ليس يكون جوهراً أو عرضاً أو رابطة. وإنما يكون شرطاً ذاتياً الذي يكون في مقدور العقل الإنساني أن يحقق ضرباً من التأليف بين جميع الموضوعات المحسوسة ليس إلا. ويكون ذلك وفق قانون محدد، وعليه فإن الزمان ليس أكثر من كونه حدساً عقلياً. والشيء نفسه يكون مع المكان تماماً.
ويضيف: أن الزمان ثابت لا يتغير بل يسير على منوال واحد، وأن الذي يتغير هو شيء ما يكون في الزمان. إلا أن الزمان ثابت لا نهائي غير محدود ويكون متصلاً منسجماً وله بُعد واحد. والمكان الحاوي على الوجود، فإنه كذلك لا نهائي وغير محدود ويكون ثابتاً متصلاً منسجماً، إلا أنه ذو أبعاد ثلاثية، ومتشابه الإتجاهات. أما الحركة فبما أن الشيء يكون موجوداً بذاته، والحركة تفترض وجود الشيء المتحرك، لذا فإنها تكون معدومة في المكان الحاوي لها. وإذا تأملنا بإمعان إلى “الشيء بذاته نجد أنه لا يوجد أي شيء يتحرك في المكان”. وما توصل إليه كانت في هذا التعريف الفلسفي يتعبر مرآة عاكسة لِما توصل إليه العلم في زمانه.
وإذا فسر جورج هيجل (1770-1831) الوجود وفق المبدأ الجدلي، فإنه لم يقسمه إلى نصفين كما ذهب ديكارت في أثنينية الروح والمادة. أو أثنينية كانت وجود في الداخل (العقل) ووجود في الخارج (العالم). بل سار على نمط لايبنتز في كائناته الروحية التي تنمو بشكل طردي. فالحقيقة عند هيجل هي في بادىء وجودها كانت فكراً محضاً ثم أخذت لنفسها مادة وصورة في واقع موضوعي، أي أصبحت متحركة في مكان حاوي وزمان يتكون من “نقطة الزمان أو الآن”. حيث يضم على لحظتين يكونان في وضع “متصل ومنفصل” إذ كلاهما يكون إقراراً لثبوت الآخر. وأن الفكر هو الذي نقل الوجود من وضع بالقوة إلى وضع بالفعل. فالحقيقة في الوجود هو الفكر الذي خرج من وجوده المحض متمثلاً في الوجود المادي ثم عاد إلى وضعه المجرد الأصل. وهذه الفكرة لا تخلو عن التصور المسيحي إلى الله.
يقول هيجل: “أن الزمان هو فكرة الكائن تماماً، وحضور الوعي في شكل حدس فارغ. ومن هنا فأن الروح تظهر بالضرورة في الزمان. وإنها تظهر في الزمان طالما هي تدرك فكرتها الخالصة، أعني طالما لم يكن زمناً سنوياً. فالزمان هو ذات محضة في شكل خارجي مُدرك حدسياً، وليس مُدركاً ومُفهماً بالنفس. إنها الفكرة فقط التي تدرك من خلال الحدس. وعندما هذه الفكرة تدرك نفسها فإنها تحل محل صفة زمنها (تصورياً) في فهم الحدس، ويكون الحدس مُدركاً ومستوعباً. وبالتالي فإن الزمان يظهر كضرورة وقدر للروح، حيث أن الروح لم تكتمل بعد في ذاتها. وأن الضرورة هي إضطرارية الروح لتوسعة شراكة الوعي–الذاتي في عملية الوعي لكي يضع في الفكرة مباشرة طبيعة السيل الفطري (التي هي صورة الجوهر حاضرة في الوعي). أو تحاور لفهم وتكوين أوضح بما يعني السيل الفطري، بأعتبارها داخلية وجوهرية في الكشف. أعني برهنتها على صحة يقينية الروح في نفسها”21.
أن “الفكر” عند هيجل يقابله “الإرادة” عند آرثر شوبنهاور ((1788-1860). فالإرادة هي جوهر هذا الوجود، والقوة التي تنجذب إليها الكواكب الكونية ويشد بعضها بعضاً. أن كل شيء يتغير إلا الإرادة تبقى هي هي، حيث فاعليتها تكون من تلقاء نفسها، فهي علة الوجود. ومن هذا المنطلق يوجه شوبنهاور التفكير نحو الداخل في معرفة الخارج. إذ إننا لن نصل إلى معرفة وتفسير الوجود إذا كانت بدايتنا تكون من الخارج، ومهما طال بحثنا فإنه سوف لن نحصل “إلا صوراً وأسماء”. فالإرادة ذاتية الحركة ومنها يكون الوجود . أما الزمان والمكان فهما وهمّ ليست لهما من حقيقة خارجية، إذ ليس هناك غير حقيقة واحدة وهي الإرادة. وهنا يكون شوبنهاور متفق مع كانت في دحض الزمان والمكان من واقعهما الخارجي، غير أنه حول من العقل إلى الإرادة. ومع ذلك فقد عمل على إنهاء المعضلة الكانتية “الشيء في ذاته”.
وحسب رأي شوبنهاور أن” الزمان وذلك القابل للفساد من جميع الأشياء الموجودة في زمن الزمان ذاته هو ببساطة يوصل نحو الصورة التي تحت الإرادة الحية كشيء بذاته خالداً، والذي يكشف لنفسه عبث جهده. أن الزمان هو بفضيلة كل شيء يصبح عدماً عندنا ويفقد جميع القيم الحقيقية”22. فالزمان والمكان ليسا أكثر من نقاب وهمي يخفي عنا وحدة الأشياء في الحياة الواحدة أو الإرادة الواحدة.
هذا وتشير الفلسفة المادية الحديثة إلى أن الزمان والمكان: هما شكلان من وجود المادة الأزلية. ويتلازمان أبداً مع الواقع الموضوعي. ويكتب فيورباخ عن ذلك قائلاً: “أن الزمان والمكان ليسا مجرد شكلين من الظاهرات بل شرطان جذريان للوجود”. أي هما واقعيان موضوعيان في الوجود حيث ليس ثمة شيء يكون له وجود دون المادة. ويضيف: إنهما مظهران لوجود جميع الأشياء، لأن الوجود الذي يحتل مكاناً له يكون هو وحده الوجود الحقيقي.
أن مفهوم فيورباخ قد بلوره كارل ماركس (1818-1883) بعد أن وظف جدلية هيجل ونقلها من المثالية إلى المادية. فالمادة هي علة الوجود الأبدية، وأن الحركة التي تكون فيها هي حركة ذاتية لأنها ناشئة عن إحتوائها على التضاد التناقضي المتصارع فيما بينها داخلياً. ومن جراء هذه التناقضات يدب التطور المادي بشكل ذاتي من حال أسفل إلى حال أعلى، وهي آخذة بذلك لكي تصل في كمالات أرقى تطوراً على ما هي الآن عليه. وتتشعب المادية الجدلية وفق المفهوم الماركسي متجاوزة المفهوم الأرسطي، فالحركة ليست فقط التبدل في المكان وإنما كل ما يكون من تحولات تجري بالمكان في تغيرات جديدة ومتواصلة. وما يخص الزمان والمكان: فهما ليسا أكثر من مظهر مادي في الوجود الواقع الموضوعي. ويمتاز الزمان والمكان في خاصتين أثنتين وهما: الموضوعي واللانهائي.
بيد أن الخلل الفاضح في المادية الجدلية إنها تقدم تفسيراً من لا بداية. إذ لا يجوز أن تكون لنا بداية معلومة عن لا بداية لا معلومة. فعندما نسلم بوجود حركة التناقض الداخلي للمادة، يجب علينا معرفة بداية هذه الحركة من التناقض، وفقاً للتطور الكمالي السالف للمادة. ولا يكفي أن نقول بدأت عشوائياً، فهذا هروب فكري وليس تفسير علمي.
هذا ولقد طور هنري برجسون (1859-1941) فكرة شوبنهاور عن “الحياة”، وإتخذ من مبدأ القوة الحيوية مسلكاً له. فجوهر الحياة وحركة روحها الذاتية تتعلق بالزمان أكثر مما تكون عليه في المكان، لأن الإرتباط بالمكان ليس تاماً وعميقاً، فمن جراء تفكيرنا المادي تهيأ لنا بأنه صحيح تام، وأن الحياة ليست إلا هذه الصور المكانية التي نحسها. والحقيقة هي غير ذلك، إذ تكمن في الزمان الذي هو عبارة عن تراكم صور للوجود الكوني على بعضها البعض.
بعبارة أخرى، أن الزمان هو صورة الوجود التي إمتدت منذ بدايتها الأزلية وأخذت تتطور متقدمة بالتدريج حتى وصلت إلى الزمان الحاضر للوجود. وبما أن الزمان في مفهوم برجسون عبارة عن صور وجودية متراكمة. إذن فمن المحال أن يكون الحاضر مشابهاً إلى الماضي وكذلك المستقبل إلى الماضي نظراً إلى تعاقب الصور الجاثمة والتي تمر على الوجود. كما وأن هذه الصور تكون مستقلة عن الذهن في واقعها الخارجي لأن العقل في اللحظة التي يلتقط بها صورة الوجود تكون هنالك صورة لاحقة أخرى في اللحظة التي تليها ثم تتبعها صورة جديدة أخرى بعد اللحظة الثانية والرابعة بعد الصورة الثالثة وهكذا دوليك. حيث أن الواقع الحسي الخارجي يكون في نظر العقل عبارة عن مجموعة صور تراكمية تتلو بعضها الآخر. من أجل أن تملاْ صورة الوجود التي تتربعها جميعاً في الحركة المستمرة. إذ أنها لا حياة فيها إن لم تدب فيها الحركة حيث تربط أشتاتها جاعلة منها حقيقة واحدة.
ولهذا يؤكد برجسون إنه:”ليس هناك واقع واحد، على الأقل، نحن الذين نتشبث بفكرته من الداخل بالحدس وليس بالتحليل البسيط. إنها خاصية شخصيتنا في التتبع من خلال زمن–ذواتنا التي تحتمل. ولا شيء يمكننا فعله غير المؤاساة العقلية، ولكن مؤاساة يقينية بخاصية ذواتنا”23.
أما مارتن هيدجر (1889-1976) الذي سعى بفلسفته الوجودية أن يربط الكينونة بالزمان لكي يبرهن على محدودية وتناهي الأنا الفردية عند الإنسان. إذ حسب رأيه أن الكينونة لا يمكن أن يكون لها كيان مستقل عن باقي الكائنات الأخرى والتي إنكشفت في الزمان عبر تحققها في الكائن. ومن خلال هذا التلازم وجِدتّ الكينونة وظهرت في الزمان، إنه الإرتباط الوثيق بين الكينونة والزمان. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي بمقدره أن يفهم الكينونة، لأنه يستطيع إستحضارها باللغة والكلام والفن والأدب.
وفي هذا الصدد يكتب هيدجر قائلاً: “أن الكينونة توجد ككيان في كينونتها، وهي مصدر نفسها. إنها في مقدمة مستلزمات نفسها قد أمتلكت مشروع نفسها. وهي عندها إمكانياتها قبل أن تستمر إلى أي مراعاةٍ مجرد لنفسها. وفي مشروعها تكشف عن نفسها كشيء ما مرمياً. إنها مرمية ومستسلمة في هذا “العالم”، وقد سقطت في قلقها التام”24. وأن “الزمان يجعل نفسه عاماً إلى الكينونة–في–العالم. لكن الحاسة في أي وقت “تكون” إن هي تكون ضرباً عاماً واضحاً، وتبقى محدودة تماماً إذا هكذا زمن أٌعتبر كوجود فعلاً… وعندما الزمان يكون عاماً، فإن هذا لا يحدث غالباً ومتوالياً. بل على العكس، فالكينونة كشيء ما منتشية زمنياً تكشف عن فحواها، لأن الفهم والتأويل كلاهما تابعان إلى الوجود، وإن الزمان جعل نفسه شأناً عاماً”24.
الجانب العلمي
أن ما قام به ديكارت من التفسير الآلي للوجود والنظر إليه بإعتباره واقع فيزياوي تجري فيه الأحداث المادية ضمن القوانين المسيطرة عليه والتي بوسع الإنسان إكتشافها وتسخيرها لمصالحه، قد مكنت أسحق نيوتن (1642-1727) أن يسهب أكثر في مجال علم الفلك والآلية والجاذبية، وأن يضع تصوراته عن المكان والزمان وتعميمهما بشكل نهائي على الوجود، فأخذت منعطفاً علمياً خطيراً رسخت أكثر مبادىء العلم الحديث. فلقد أعتبر نيوتن أن المكان والزمان لهما وجود موضوعي حقيقي منفصلان به عن المادة المتحركة وعن بعضهما الآخر أيضاً. وبذلك لهما وضع مطلق.
وفي المفهوم الفيزياوي المعاصر، أن الوجود الكوني قد إتخذ منعطفات جديدة لاسيما في النظرية الكمية والنظرية النسبية. فالأولى تنص على أن المادة يجب أن ينظر إليها كشيء واحد يحتوي على: الطاقة والزخم الدوراني والشحنة. إذ أن المادة لا تتخذ قيمة صغيرة تكون ذات صلة بشكل عشوائي، بل أنها تأخذ قيمة تكون متقطعة وليست متصلة. كما وأنها تزداد أو تنقص بحسب الإمتصاص أو الإشعاع الذي يكون في قيم متقطعة. ومن هذا المنطلق تقدم النظرية الكمية رؤيتها عن الوحدة الأساسية للكون. فليس هناك تجزئة كونية منفصلة وفق كيانات صغيرة مستقلة بذواتها، وما يترتب على ذلك من حركة ومكان وزمان. وإنما هو كون متكون ضمن شبكة معقدة من العلاقات التي ترتبط بين مختلف مكوناته أو أجزائة. وكلما نسبر غور المادة كلما يتبين لنا الطبيعة أن الكون لا يتألف من أجزاء منفصلة، بل وحدة متماسكة الأجزاء.
ويقول أحد أقطابها نيلز بور (1885-1962) أنه يتوجب علينا أن نحد من وصفنا إلى الأحداث الطبيعية وذلك وفق مبدأ السببية في المكان والزمان. فهو يعتبر السببية تكون جزءاً تكميلياً إلى وصف المكان والزمان وفق تنامي أحدهما إلى الآخر ضمن محتوى التجارب. أما ماكس بورن (1882-1970) يرى أن ما نضعه من صور وفرضيات فيزياوية عن الوجود فإنها ليست نتاج تمخض عن خيال حر وإنما لها محتوى للواقع الموضوعي، حيث أنها تمثل وجود “أشياء حقيقة”. أما الذهن والأحاسيس والمشاهدات فهي مجرد إثبات إلى الواقع الموضوعي ليس إلا.
ويذهب ألبرت آنشتين (1879-1955) في نظريته النسبية معتبراً أن الصفة الإحصائية في النظرية الكوانتية لا يمكن أن يؤدي إلى تطور فيزياوي عن مفهوم الوجود. وأكد بالإمكان أن نضع نظرية يكون بمقدورها التعبير عن حركة الجسم المنفرد وذلك وفق الدالة المتصلة بالمكان والزمان. لأن حركة المادة تكون خاضعة إلى القوانين الموضوعية التي تتحرك بها. وفي نظريته النسبية الخاصة التي وضعها عام 1905 دحض آنشتين نظرية نيوتن تجاه المفاهيم التقليدية في قوانين الحركة المادية، حيث أفترض ثبات سرعة الضوء ثم عمم مفهوم النسبية عند غاليلو (أن جميع القوانين الآلية تبقى هي هي في كل المراجع القصورية) لكي يشمل كافة قوانين الفيزياء. ولقد أستنتج آنشتين من هاتين الفرضيتين نتائج فائقة التقدم منها: نسبية المسافة، الزمن، آنية الأحداث، علاقة الكتلة بالسرعة، علاقة الكتلة بالطاقة والتي تم تحقيقها علمياً في التحولات النووية سواء كان في القنبلة الذرية أو المفاعلات النووية، أو سلوك الدقائق الذرية وقياس فترة بقاء مركبات الذرة وغير ذلك.
أن النجاحات المبهرة في هذه النظرية قادت آنشتين أن يضع نظرية النسبية العامة في عام 1915 التي يفسر فيها الظواهر الكونية الدقيقة التي لم يستطيع المفهوم التقليدي العام الجواب عليها. منها حركة الكوكب عطارد أو تقوس شعاع الضوء في المجال الجاذبي والأزاحة والحرارة. ولقد أثبت آنشتين في هذه النظرية عن تكافؤ الكتلة القصورية والكتلة الجاذبية. بيد أنه لم يحسم الإجابة إن كان الوجود نهائي أو لا نهائي. بل جعله نسبياً بحسب المكان والزمان والمادة والحركة، وعلاقة الكتلة والطاقة بالمادة والحركة، والرابطة التي تكون في بنية المكان والزمان. ففي النسبية الخاصة ليس المكان مطلقاً لكي يكون منفصلاً عن المرجع القصوري. وكذلك الزمان لا يكون منفصلاً عنه، لأن حركة الإنتقال من مرجع قصوري إلى آخر لا يتغير فيه المكان فقط بل الزمان أيضاً. وبذلك يكون الوجود في هذه النظرية رباعي الأبعاد لا ينفصل فيه قط المكان عن الزمان فصلاً موضوعياً، وإنما هما متصلان. بينما النسبية العامة تنص على أن صفات المكان لا تكون منفصلة بذاتها بل تكون ملازمة للمادة، لأن المادة هي التي تحدد البنية الهندسية للمتصل المكان والزمان؛ مثلما تحدد البنية للمكان والزمان في حركة الأجسام والمجالات. وهنا تكمن نقطة الفرق بين هاتين النظريتين. حيث أن بنية المكان والزمان في النسبية الخاصة يكونان مستقلان عن المادة. أما النسبية العامة على العكس تماماً حيث أن الزمان والمكان ليسا منفصلان عن المادة. وبذلك لا يمكن من خلالها تحديداً مضبوطاً إلى زمان كوني، لأن مخروطي الضوء لا يكونان متناظران في الماضي والمستقبل داخل المدى الواسع.
بمعنى آخر، في النسبية العامة يرى آنشتين أن المكان والزمان لهما تأثيراً متقابلاً. فالمكان والزمان يؤثران على الأجسام الكونية، وبالوقت نفسه يتأثران بهذه الأجسام. وبذلك يندمج المكان والزمان في بنية الرابطة للمتصل المكازماني (المكان والزمان) ذي الأبعاد الرباعية والذي يحدد تقوسه بواسطة المادة.
وفي هذا الصدد يشير أحد كبار العلماء المعاصرين وهو ستيفن هاكونغ (1942-) قائلاً: “أن النظرية النسبية قد غيرت جذرياً أفكارنا عن الزمان والمكان. ويتوجب علينا أن نتقبل بأن الزمان ليس منفصلاً ومستقلاً تماماً عن المكان. بل أنه متصل معه ليشكل ما يُعرف المكان–الزمان”26.
ورغم التقدم الهائل والخطير الذي أحرزته نظرية النسبية، إلا أن جعل الهندسة في الوضع الملائم والصحيح في الوجود يكون متطابقاً دونما أن يكون هناك من تناقض بين الفرضيات والبديهيات هو همها الوحيد في الواقع الموضوعي. فإنها قد دحضت العقل ولم تعر له إنتباهاً. بدعوى أن هندسة المكان تكون تحديداً من خلال الواقع الموضوعي. وهذا خلل، كونه جعل التفسير المادي معياراً ثابتاً للحقيقة. علاوة على أن الأمر لا يتعلق فقط بمدى وضع فرضيات وبديهيات ذات صحة تامة لا تضاد فيها تسعى إلى إكتشاف القوانين المسيطرة على هذا الوجود من خلالها. وإنما يتعلق الأمر كذلك في قدرة العقل المستقل عن المادة والذي يعمل بفعله على تفاعله في هذا الوجود بغية إكتشاف قوانينه. وعليه فلا يجوز لنا أن نقلل من قيمة تفكيرنا العقلي ونُعلّي قوانين المادة ثم نطلق العقل في إكتشاف كيفية عمل تلك القوانين التي لم ندركها إلا من خلاله فقط.
من المآخذ الأخرى على هذه النظرية هي تبديلها إلى الذات المشاهد من حيث الملاحظة في جهاز تسجيل يمكن له ملاحظة نفس ما يكون عند الإنسان في المشاهدة. وبالتالي فإن النتيجة تكون واحدة لا إختلاف فيها ولا تغير سواء كان المشاهد إنساناً أو آلة. ولكن سواء توصلنا إلى هذه الأداة التسجيلية، أو لم نتوصل، فإن هذا لا يقلل قط من أهمية ذاتية الإنسان الذي يشاهد ويشعر ويحس. وعليه فأن تحليل الإستعاضة يعتبر ناقصاً، وأن القياس في جهاز آلي لا يعني إبدال الذات، بقدر ما يعني إحدى السُبل الخاضعة إلى العقل الذي يفكر ويشاهد.
الجانب القرآني
لقد جاء ذكر الزمن في آيات القرآن بصيغ كثيرة، سواء ما توافق مع الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل حول قضية الخلق في ستة أيام، أو القياس الزمني المتفاوت العدد في الصلة بين السماء والأرض. ورغم أن الله الخالق لا يحتاج إلى زمن هو خالقه، إلا أن الإنسان في العالم السفلي يحفزه عقله أن يسبر غور الماديات والروحيات وما ورائها نحو العلم العلوي المتجرد. وهنا نود أن نتناول الزمن الكوني المذكور بالقرآن، ولماذا التغاير فيه؟
تشير النصوص القرآنية بما يلي:
“وإن يوماً عند ربِكَ كالفِ سنةٍ مما تَعدُوُن”. (22:47).
“يُدبرُ الأمرَ من السماء إلى الأرض ثم يعرجُ إليهِ في يومٍ كان مقدارهُ ألفَ سنةٍ مما تعدٌّون”. (32:5).
“تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ في يومٍ كان مقدارهُ خمسينَ ألفَ سنةٍ”. (70:4).
إن فِهمنا إلى “الألف سنة” وكذلك إلى “خمسين ألف سنة” تقع ضمن الأبعاد المكانية المحدودة في الوجود الكوني الفسيح. حيث أن المسافة في البُعد والقُرب تكون معكوسة بين الإجرام السماوية بحسب الموقع المكاني لها. مثلاً: الذي يعيش في العالم الطبيعي يرى أن الأرض هنا والمريخ هناك، والعكس بالعكس يكون صحيحاً أيضاً. وكذلك بالنسبة إلى منظومتنا الشمسية أو مجرتنا الخ. وبالتالي فأن الزمان والمكان يقترنان بحركة الجسم ويحدان بحدوده. وهذا يعني أن الوجود متناه الأبعاد ومحدود بمكوناته. غير أن الحركة تختلف بين الأجسام وفق أحجامها من ناحية، والإنتقال بين مسافاتها من ناحية أخرى. فالزمن الأرضي ثلاثة أضعاف الزمن القمري. والسنة الضوئية في القياس الكوني تعادل ملايين السنين من الزمن الشمسي للطبيعة الحية. ولذلك فأن الزمن الذي يذكره القرآن يعني حقيقة هذا الواقع الكوني الجسيم في الوجود. وبذا نقرأ قوله تعالى: “فلا أُقسِمُ بمواقعِ النجومِ وإنهُ لقسمُ لو تعلمونَ عظيمٌ” (75-76: 56).
وعندما ينص القرآن في هذه الآيات قائلاً: “الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ ثم أستوى على العرش” (32:4). “ولقد خلقنا السمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستةِ أيامٍ وما مسَّنا مِن لُغُوبٍ”(50:38). “وهو الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ وكان عرشُهُ على الماءِ” (11:7). فأن وقت هذه المدة الزمنية المتثمل “في ستة أيام” هي ليست أكثر من حساب تقريبي للعقل البشري لكي يدرك شيئاً عن عملية الخلق العظيمة والجبارة. وإلا كيف نفهم الجوانب العلمية في وحدة الكون المادية، وأن عمر الكون يزيد عن عشرة مليارات سنة، والأرض أكثر من أربعة مليار سنة الخ. فأين هذه الأزمان من “ستة أيام”؟ ولكي لا ندخل في تفاصل تقسيم هذه “الأيام” وتساويها في عملية الخلق وفق المفهوم الديني، نقول أن الزمن الكوني الذي جاء ذكره بالقرآن يعني لنا إثباتاً جلياً إلى حقائق هذا الخلق الفسيح الذي يمتد بحركة موجوداته المتناهية في حدودها المكانية والزمانية.
بمعنى آخر، أن الحركة التي يتمدد فيها الكون عبر موجوداته، فإنها تبقى ضمن نطاق المكان والزمان التي تتحدد فيها؛ فهي متناهية بذلك وتستمر بهذا الوضع المحدود. أي مثل تناولنا لصور الأعداد الأصلية من 0، 1، 2 إلى 9، إذ مهما أخذنا بالعدّ والتوسع والإزدياد في الأرقام الحسابية، فأن صور الأعداد الأصلية المحدودة تبقى هي نفسها، لكن نتائج تكرارها يختلف بحسب إستمرارية العدّ. فالوجود هو هكذا، حيث يكون محدوداً بمكوناته مكانياً وزمانياً ومهما أمتدت توسعاته الحركية.
أستنتاج
أن تطور مفهومنا عن الزمن من الجوانب الفلسفية والعلمية والدينية يبقى مستمراً ومتواصلاً وفقاً للنتائج التي نصل إليها نظرياً وعملياً. فما توصل إليه العلماء في القرن العشرين من آنشتين ونيلز بور وماكس بورن وغيرهم يعتبر حلفة جديدة متقدمة على ما توصل إليه نيوتن وغاليلو وسواهم في القرنين السابع والثامن عشر. وهذا بدوره يتصل أيضاً بما قدمه ديكارت ولايبنتز وكانت وبقية فلاسفة العصر الحديث من بناء فلسفي علمي جديد مستقل بمفاهيمه وأفكاره عن فلسفات وتصورات العصور الوسطى والقديمة من أفلاطون وأرسطو في الجانب اليوناني، وأفلوطين في الجانب الإسكندراني إلى الفارابي وأبن سينا والغزالي وأبن رشد وغيرهم في الجانب الإسلامي.
وضمن السرد الاستنتاجي، أود أن أعرض شيئاً عن رؤيتي في هذا الموضوع وأقول:
أن الزمان هو مقومة شرطية من مقومات الوجود الذي فيه المرئي كالمادة، واللامرئي كالزمان. وهذه من بين الأدلة الجلية على وجود الخالق اللامرئي. فالمقومات الشرطية للوجود: المادة، المكان، الزمان، الحركة لها واقعها المستقل والمتداخل مع بعضها الآخر ضمن قوانين تُشكل بمجملها النظام الإلهي العام المسيطر على وحدة الوجود منذ حدوثه.
وإذا كانت المادة تمتاز من وضع إلى آخر والإنتقال من موضع إلى آخر، وأن المكان يكون الحاوي على تقبلها وإنتقالها، فأن الزمان مقياس سائر عبر الحركة في هذا الوجود. فالموجودات لها مكاناً حاوياً وزماناً سارياً حركياً. وطالما كانت حركة الجسم السماوي لها حدوداً مادية ومكانية، إذن فإن الزمان يكون معهم محدوداً أيضاً. فالجسم يكون محدوداً بجزئه المادي وحيزه المكاني ودوره الحركي، وبالتالي لابد له من حد زماني لكي تكتمل المقومات الشرطية للوجود. فالوجود ليس مطلقاً من الأزل وإلى الأبد، بل محدث ومتناه.
وعندما نقول أن الزمان في الوجود يكون مستقلاً ومتداخلاً فيه. فأن طبيعة المادة تكون قابلة للتغير والإنتقال، بينما الزمان سيل ثابت من الآنات ضمن خاصية: الحاضر والماضي والمستقبل. وكذلك فأن وجود المادة يكون محدوداً بالجسم الظاهر والمحسوس، بينما خاصية الزمان محسوساً لا ظاهراً. وبذا يكون الزمان مستقلاً ومتداخلاً في هذا الوجود.
وإذا كانت المادة مرئية والزمان لا مرئي، فإن الزمان لا يكون مظهراً من مظاهر المادة. إذ أن معنى مظهر، يتوقف عليه إثباتات كثيرة، منها كيف يكون للشيء المرئي ظاهرة لا مرئية؟ وإذا سلمنا بذلك، فمن أين جاء هذا الشيء الظاهر؟ هل جاء من شيء لا ظاهر؟ وبما أن الشيء لا يعكس إلا شيئه، لذا لا يجوز أن يكون اللاظاهر إنعكاساً إلى الظاهر، أو العكس. وعليه نقول: أن الزمان ليس مظهراً من مظاهر المادة، وإنما متطلب شرطي مستقل ومتداخل فيها ضمن الوجود العام للخلق.
أما إذا فرضنا أن خاصية المادة تمتلك ظاهرة اللامرئي. فإنه يتوجب علينا أن نثبت ذلك من خلال وجودها المحسوس. وبما الزمان لا يمكن أن نتحسَّسه بالمعنى العياني للشيء، بل نشعر به فقط. إذن فإن المادة تبقى محسوسة لكونها مرئية، واللامرئي كالزمان يبقى نتحسَّسه شعورياً عبر العقل. وأن الشيء اللامرئي يرمز إلى وجود الله الخالق اللامرئي.
المصادر
1- Plato: ‘Plato’s Republic’, book VII, trans. Henry Davis, New York, (No date).
2-Taylor, A. E., Litt, M. A., D. ‘Aristotle’, London, 1945, p. 88.
3- M. Grant (ed.): ‘Greek Literature in Translation’ London, 1973, p. 461 ff.
4- “رسائل الكندي الفلسفية” تحقيق ونشر محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1953، ج 2، ص 14.
5- الفارابي: “كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين” تحقيق د. البير نصري نادر، بيروت، 1960، 108.
6- . أبن سينا: “الإشارات والتنبيهات”تحقيق د. سليمان دنيا، القاهرة، 1957، ج1، ص 517
7- الغزالي: “تهافت الفلاسفة”تحقيق د. سليمان دنيا، القاهرة، 1374ه/1955، ص 97.
8- المصدر السابق، ص 93.
9- أبن رشد: “تهافت التهافقت”، تحقيق د. سليمان دنيا، القاهرة، 1964، ج 1، ص 136.
10- المصدر السابق، ص 56.
11- المصدر السابق، ص 138.
12- Descartes: ‘Philosophical Writings’, trans. & ed. E. Anscombe and P. T. Geach, with intro. London, 1966, p. 222.
13- Leibniz: ‘The Monadology and Other Philosophical Writings’, trans. with intro. R. Latta, O.U.P. London, 1948, p. 101.
14- Leibniz: ‘Philosophical Writings’, ed., G. Parkinson, trans. M. Morris and G. Parkinson, London, 1979, p. 179.
15-Berkeley: ‘A New Theory of Time and Other Writings’, London, 1969, p. 168.
16- Berkeley: ‘The Principles of Human Knowledge’, London, 1942, p. 46.
17-Locke: ‘An Essay Concerning Human Understanding’, London, New York (No date), p.p. 241-42.
18- Hume: ‘A Treaties of Human Nature’, analytical Selby-Bigge, notes P.H. Nidditch, Oxford, O.U.P. 1989, pp. 34-35.
19- Kant: ‘Prolegomena to Any Future Metaphysics’, trans. J. W. Ellington, Indianapolis, 1988, p.82.
20- Kant: ‘Critique of Pure Reason’, intro. A. D. Lindsay, trans. J. M. Meiklejohn, London, New York, 1979, p. 49.
21- Hegel: ‘The Phenomenology of Mind’, trans. with intro. and ed. J. B. Baillie, intro. G. Lichtheim, New York and Evanston, 1967, p. 800.
22- Schopenhauer: ‘Essay and Aphorisms’, sel. Trans. and intro. R. J. Hollingdale, Penguin books, London, 1970, p. 51.
23- Bergson: ‘An Introduction to Metaphysics’, trans. T. E. Hulme, London, 1913, p. 8.
24- Heidegger: ‘Being and Time’, trans. J. Macquarrie and E. Robinson, Oxford, 1985, p. 458.
25- Ibid., p. 464.
26- Hawking: ‘A Brief History of Time’, London, 1988, p. 26.