نبيل عودة
جو الدراسة الجامعية أسعدها . لم تتوقع أن تجد نفسها في مثل هذا الجو من العلاقات الدراسية. الآن بدأت تشعر أنها انتقلت حقا من جيل لا يملك حق القرار لنفسه إلى جيل مسئول عن نفسه. ما حملته من تنبيهات أمها وجدتها عن خطر الاحتكاك مع الشباب ، يبدو لها الآن ، وبعد اقل من شهر على بدء الدراسة، مقطعا من مسرحية كوميدية ، أو من عالم لم يعد له وجود إلا في مخيلات جداتنا. في البداية شعرت بالخوف وبعض الرهبة. وشعرت بضعفها، عقلها الواعي أعطاها القوة النفسية لتهزم مخاوفها وتضع حدا لحالة الضعف التي اعترتها في الأيام الأولى. الجو الجامعي المليء بحركة الحياة والحوار التعليمي بين الطلاب، والنقاش السياسي وحول قضايا المجتمع والعادات،أخرجها من العالم ألبيتي، الضيق، المحصور بين واجبات محددة سلفا، إلى عالم واسع الآفاق حدوده السماء.
كانت، بينها وبين نفسها، تتشوق لعلاقة صداقة خاصة وتتمناها، من ناحية تشعر أن جميع زملاء الصف هم بمثابة أصدقاء، ولكن هناك فرق بين صداقة خاصة تربطها بأحلام وأماني مشتركة مع زميل، وبين صداقة عامة بحكم الزمالة والتعاون الدراسي. ما يخيفها أن يكون خيارها متسرعا مدفوعة برغبة متأصلة في كل امرأة. فتندم حين لا ينفع الندم.وقد يتناثر حلمها الكبير في مواصلة الدراسة الجامعية.
حتى في الحافلة تحايدت الجلوس إلى جانب شاب.لم تجد تفسيرا لتصرفها . دائما تختار زميلة لتجلس بجانبها. ليس خوفا، هي نفسها لا تعرف تعليل تصرفها. في الجامعة داخل غرف المحاضرات والكافيتيريا والمكتبة تتحدث بطلاقة وبدون وجل. عندما تصعد الحافلة تشعر ان العيون تراقبها. لا تعرف مصدر هذا الشعور. هل هي التربية المحافظة تؤثر على تصرفاتها ؟ لا تعرف جوابا رغم ثقتها أن المنطق هو التعامل مع زملائها ندا لند.
شخصيتها ومستوى حديثها، وثقافتها من القراءات الكثيرة التي كانت تلتهمها أثناء دراستها الثانوية، أضفت على شخصيتها وقدراتها التعبيرية واتساع معارفها جاذبية شدت إليها زملاء الدراسة، الطلاب والطالبات على حد سواء. كانت مشاعرها تدغدغها بأحاسيس تبعث الثقة في نفسها أنها فتاة مرغوبة لجمالها وعقلها. أن تكون مرغوبة، فيه الكثير مما يشبع غرورها.
في السنة الثانية وجدت نفسها، بدون أن تعرف كيف جرى ذلك، تتواصل فكريا مع زميل لها في موضوع الأدب، ثم في موضوع الفلسفة، شعرت انه صاحب تفكير مبدع ،وقارئ واسع الاطلاع لا يقل بمعارفه عن معارفها، هذا الجانب سحرها. ربما جاذبيته تكمن في معلوماته واتساع آفاقه الثقافية. لا يقل عنها معرفة وإدراكا، ويبدو انه أحس بنفس الشعور، كان ممتد القامة تبدو رجولته المبكرة بارزة بقوة، خاصة بصوته الذي يميل للخشونة.
كانت فتاة قمحية اللون، تتميز بشرتها بصفاء نادر، ووجه يشد النظر بغمازتيه، وقامة ما دون الامتلاء.. وشعر أسود حريري رغم أنها تضبطه ، بربطه كتلة واحدة، وتمنعه من التحرر فوق كتفيها ليتلاعب مع نسمات الهواء. ربما ليست جميلة بشكل خاص ، لكنها مريحة بوجهها وقسماتها للناظر. قدراتها التعبيرية عن آرائها وقدرتها على فهم المواضيع بسهولة نسبية، وشرح النقاط الصعبة لبعض الطلاب والطالبات، هو ما جعلها أكثر أهمية من جمالها الوديع والهادئ.
زميلها لم يكن شابا مندفعا. كانت تلتقي بعينيه تلاحقانها، وحين تصدمه بالنظر إلى عينيه يبتسم لها متورد الوجه، ويحني رأسه احتراما. هل هو خجول إلى هذا الحد؟ كثيرا ما شعرت باليأس منه وسالت نفسها: ما الذي يشدني إليه؟ ما سبب صمته عن الخوض في حديث تتوقعه كلما تبادلا الحديث؟ ربما شدة خجله؟ ملاحقتها بنظراته هل تقول شيئا أم هي صدفة فقط لا غير؟ وهل الصدف تتكرر بمتواليات رياضية؟
بينها وبين نفسها اعترفت انه اخترق قلبها بقوة. بل باتت تخاف عليه من زميلة ما قد تكون أجرأ منها.ولكنه يبدو قانعا بحبها من بعيد.. هل هذا ما ترغب به؟
لم تكن تملك إجابة واضحة. أفكار مختلفة متضاربة تصطرع في رأسها. فيها الرغبة وفيها الحذر. وقد أشغل فكرها ومشاعرها بشكل لم يسبق لها مواجهته في السابق.
لماذا لا تقطع الطريق وتتحدث معه الند للند حول مواضيع غير مواضيع الدراسة؟ عن الأماني الشخصية مثلا؟ عن المستقبل كما يفكران به؟ أن تبني بينها وبينه صداقة مميزة بين طالبين زميلين. ترى هل سيتجاوب؟ ماذا سيقول لنفسه عنها إذا تجرأت وبدأت معه في حديث ذا شجون؟ هل سيصنفها بخانة سلبية؟ أم يعطيه ذلك دفعة من الجرأة ليفصح عن مشاعره ؟ وما الضمان أن لا تجد نفسها اقرب إلى علاقة حميمة معه ؟ تتمناها ولكنها تعرف أن عقلها سيردها، ربما خوفا، وربما؟ .. هل تكون الغرائز أقوى من العقل؟!
مضت نصف سنة وهذه الحال لا تتغير. ولولا ضغط الدروس لوجدت نفسها في قلق وتشتت عاطفي لم يسبق لها مواجهته. كانت أروع دقائق حياتها الفترة بين الاستراحات، فترة الحوار المفتوح معه حول مواضيع الدراسة والثقافة عامة. كان يجب أن يشعر بما يدفعها لحواره والحديث معه دون أن تغير نهجها بحوار زميل أو زميلة غيره، وذلك منذ شدهما لبعض أول حديث.
كان واضحا لكل الطلاب أن ما يجمعهما معا هي علاقة خاصة، لذلك نادرا ما اخترق الحوار بينهما طالب آخر. وقد لاحظت بوضوح انه يبحث عنها بين الاستراحات ليتحدث معها، مبتعدا عن الجميع. فما باله لا يعبر عن مشاعره نحوها؟ هل في ظنه أن خصوصية ما بينهما تكفي للتعبير عما تتمنى أن تسمعه بكلمات مباشرة؟
من ناحية شخصية، بهرها بسعة اطلاعه على التراث العربي وخاصة عن الحب العذري عند العرب. ترى هل بات متأثرا بهذا الحب لدرجة تجعله لا يفهم ما يعتريها من مشاعر؟ ولا يحس بالدفء الخاص في حديثها معه؟ ولا يستوعب نداء العيون؟ ولا يعبق أنفه برائحة الصبا المتفتح مثل زهور الربيع ؟ وهل الحب العذري يجعل الإنسان جلمودا بلا أحاسيس؟! وماذا يضير الحب العذري إذا أضيف له اعتراف صغير بان قلبه يخفق كلما التقى بها؟
تبحث بين كلماته عن تلميح ما يخصها. ولكنه لا يلمح بشيء بل يواصل النظر إلى وجهها بوداعة تشعرها بالألم حين تضع رأسها على الوسادة ليلا. حتى لمسة يده ليدها تشتهيها.
أحيانا تخاف من الاختلاء به بدون زميلاتها وزملائها،رغم انها تتمنى أن تكون لوحدها معه، في البداية كانت تصر على مرافقة زميلة أو زميلتين، ولكن لكل واحده عالمها وأحلامها..وربما مواضيع الحوار بينهما لا يعني زملاء الدراسة بنفس القدر الذي يشدهما . أو هو تصرف زمالة إنساني بإعطاء الفرصة لعاشقين للتعبير عن نفسيهما بدون حضور غير مرغوب فيه. وعلى الأغلب كانا يتحاوران لوحدهما. كم هو جاد في حواره لدرجة تشعرها برغبة بالبكاء. كانت تتمنى أن يفاتحها بإعجابه.. لا تريد أن تقول، أن يفاتحها بحبه، ولكنها لا تعرف تعبيرا أقرب لحقيقة ما يعتريها… وربما يعتريه. ولكنه يكتفي بابتسامات خجولة تخترق قلبها وتزيد هواجسها. وفي الحقيقة كانت الأوقات التي تقضيها بقربه هي أجمل ما في أيامها منذ وصولها للجامعة.
في الفترة الأخيرة بدأ يتقرب منها ويحادثها عن نفسه وعن أهل بيته، هذا طمأنها. شعرت أنها مقدمة لحديث ذو شجون. ولكنه لم يتجاوز الرسميات.
إذا كان هذا هو التطبيق العملي للحب العذري فليسقط هذا الحب قبل أن يصرعها. لا تعرف سببا يمكن تحديده لرغبتها بأن تكون بقربه دائما.
صارت، دون أن تدري ، تفضل لقائه وحيدة وبعيدا أكثر ما يمكن عن عيون زملاء الدراسة، لعل الجو المليء بنظرات الزملاء ، وربما توقعاتهم أن ما بينهما ليس مجرد حديث دراسي ، بل حب ملتهب جعلهما يميلان للابتعاد إلى أكثر الزوايا فراغا وهدوءا من النظرات . يتحدثان عن مواضيع الدراسة،عن الثقافة ،عن التراث، وعندما يطرقان موضوع الحب العذري يتحدث بتدفق ودون توقف.. لدرجها تشعرها برغبة في أن تقول له ليذهب هو وحب العرب العذري إلى الجحيم.
هل شوه الحب العذري نفسيته ورجولته؟! أم هي عقيدة دينية جديدة؟!
كانت تحدثه عن آخر قراءاتها ألروائية، وتشدد الحديث عن لحظات الغرام بين أبطال الرواية، وقدرة الكاتب على توصيف لحظات الحب. قصدت أن يكون حديثها مليء بالتمثيل والدعوات الصريحة له إلى الإقدام .. كان إحساسها أن اللقاء بينهما تشارك فيه رغبتين متحفزتين، ترى من يجرؤ أن يكون السابق في الاعتراف بما يعتمل في نفسه؟ تفكيرها يقول لها أن البادئ يجب أن يكون الشاب، وتطمئن نفسها أن طهارة نفسه ، وأوهامه العذرية، هي المانع، ولكنها لا تعشق هذه الطهارة وتتمناه جريئا مقداما ، وتثق انه سيعبر هذه المرحلة… إنما متى؟ وكيف تدفعه إلى ذلك؟
في درس عن التراث العربي تطرق المحاضر لموضوع الحب العذري عند العرب، اتسع الحديث حول مفاهيم الحب المختلفة، تحدثت هي مطولا مستعرضة الكثير من قصص الحب العذري عند العرب، كما حفظتها منه ،فاجأت الطلاب بسعة اطلاعها، وكانت عيناها اثناء الحديث لا تفارقان عينيه، كأنها تقول له هذه حالنا أيضا، أليس كذلك ؟ ألا تفكر بما هو مختلف؟
بعدها، تحدثت طالبة عن الحب وكيف صار في أيامنا مبتذلا. وقالت أن الذكور حطموا مفاهيم الحب الإنساني بمبالغتهم وفهمهم أن الحب مجرد ممارسة جنسية. وأن الحب العذري مقدمة لحب حقيقي،إنساني، وعدا ذلك لا قيمة له. قد ينفع الشعراء، ولكنه لا ينفع الإنسان.
زميلها الذي ترتجف له شغاف قلبها طلب حق الكلام. شعرت وكأنه سيرد عليها، لأن نظراته هو الآخر لم تفارق عينيها.
قال أن المشكلة قد تكون ذكورية مجتمعنا الشرقي، الذي يعتبر المرأة حالة جنسية فقط، وينفي عنها عقلها. لأن الحب العذري يسمو بالمرأة إلى السماء. أرادت أن تقاطعه صارخة أن ما يهمها الواقع على الأرض، ولكنها أمسكت نفسها في اللحظة الأخيرة.
وتابع يقول: الحقيقة أن المجتمعات المنفتحة الليبرالية تعاني أقل من مجتمعاتنا من الانحرافات الجنسية،رغم انها لا تعرف الحب العذري، ورغم فهمنا المغلوط أنها إباحية… وان الموضوع يتعلق بإعطاء المرأة مكانة متساوية للرجل.
هذا المقطع أعجبها.
وواصل القول بحماس: أن مشكلتنا نحن الشرقيين، إننا نفهم الحب كسيطرة للرجل. هذا ليس حبا إطلاقا. هذه صفقة شراء، الجانب المغموط الحق فيه هي المرأة. الرجل يبيعها وهما. وهذا ما يشكل قضية اجتماعية وإنسانية حارقة. إن أجمل حب هو حب لا يميز بين الجانبين بسبب اختلاف الجنس.
ثم استفاض بالحديث عن مفاهيم الحب العذري، بشكل جعل حتى المحاضر ينصت بلا مقاطعة أو إضافة ملاحظات، بل جلس مشدوها وكأنه طالب أمام أستاذه البارع.
سرها عرضه وكأنه يشرح لها مفاهيمه عن العشق، وعن رؤيته لمكانة المرأة. وكانت على قناعة أن الحب العذري ينمي إنسانية الشخص . والويل إذا صار نوعا من العبادة.
وقال مواصلا بعد إن توقف لبرهة قصيرة: سأحدثكم بطرفة جنسية، رغم إني سألقى نقدا من البعض على جرأتي بقصها، وهي عن عبثية الحب العذري، الذي أعتبره منميا لأجمل ما في الانسان من خصال أخلاقية..
وقد فاجأها بتعبير عبثية الحب العذري. موقف لم تتوقعه وأسعدها حقا.
قال: خرج عاشقان طالت بينهما سنوات الحب العذري، لرحلة في الطبيعة. بعد ساعة من السير جلسا تحت شجرة وارفة الظلال.. كان الجو شاعريا ، سألته:” قل لي يا صديقي كيف يعرف القط أن القطة تريده؟” أجابها:” من رائحتها”.ثم انتقلا إلى تلة مرتفعة تشرف على بساتين خضراء. سألته:” والكلب كيف يعرف أن الكلبة تريده؟” أجاب:” من رائحتها”. وانتقلا إلى ضفة نهر . سألته:” وكيف يعرف الغزال أن غزالته اشتاقت له؟” أجابها:” من رائحتها”. وصلا إلى حديقة زهور، جلسا متجاورين فوق احد البنوك وشاهدا أرنبان بريان يركضان هربا منهما. سألته:”افهم أيضا أن الأرنب يركض وراء الأرنبة بسبب رائحتها؟”. أجاب” “هذا صحيح” . فقالت محتدة: “إلا أنتم معشر الرجال، مصابون بالزكام!!”
وضحكت كما لم تضحك في حياتها. بل الصف كله ارتج من قوة الضحك. وتمنت أن تقترب منه وان تضمه إلى صدرها بقوة وأن تبكي، هكذا بلا سبب بين ذراعية وفوق صدره.
مع انتهاء الدرس تعمدت أن تحاذيه. نظرا بعيني بعض طويلا، بادلها ابتسامتها بابتسامة عريضة. كانت متشوقة لكلمة منه لهمسة،لتأوه ، وها هي تنظر إليه نظرات ذات معنى ليتجرأ ويبدأ.. كانت مستعدة لكل المخاطر..لم تعد تطيق الصبر، ولكنه واصل الابتسام لها، كعادته عندما تفاجئه يلاحقها بنظراته، وأراد أن يعبر عنها ويمضي، لمست يده بيدها لمسة لها أكثر من معنى ودلالة، فنظر إليها متيقظا منفعلا، لا تعرف ما اعتراها ، وجدت نفسها تسأله همسا، وعيناها في عينيه:”هل أنت مصاب بالزكام؟”
* كاتب من فلسطين