فراس الغضبان الحمداني
بعد مضي أكثر من نصف قرن على قيام مجموعة من الضباط العراقيين بحركة عسكرية لإسقاط النظام الملكي في العراق وإعلان النظام الجمهوري ، مازال الخلاف قائما على تسمية هذه الحركة بالثورة أو الانقلاب ، بل امتد هذا الاختلاف على تفاصيل مجريات هذه الحركة ورموزها ومسارها الذي يراه البعض قد انحرف ويراه طرف آخر ان الآخرين هم الذين انحرفوا وغدروا بالثورة والثائرين .
خلال هذه السنوات صدرت الكثير من الكتب والدراسات والبحوث ونشرت وثائق كان القاسم المشترك بان ما جرى عام 1958 هو حدثا سياسيا نوعيا في العراق ، وان زعيم الثورة عبدالكريم قاسم أصبح رمزا شعبيا رومانسيا للفقراء والحالمين بالتغيير ، لكن الثورة وزعيمها ورغم عمرها القصير قد حققت انجازات كبرى ، ولكن هناك من يؤشر أخطاء إستراتيجية نتجت عن حدث التغيير نفسه ، فمجرد قيام الضباط من الجيش العراقي باستخدام السلاح بقوة الجيش بإحداث التغيير ، فان ذلك يؤكد سابقة ألغت التوجه الديمقراطي للنظام الملكي العراقي وفسحت الطريق إمام المغامرين من العسكر باستخدام القوة لاستلام السلطة وعدم الاعتراف بالتداول السلمي لها .
وهذا ما يفسر سلسلة الانقلابات العسكرية أو المحاولات التي شهدتها البلاد وكان آخرها الانقلاب الدراماتيكي للبعثيين وما تلاه من انقلابات داخلية نفذها صدام حسين ، هذا هو المأخذ الأول على الزعيم إما المأخذ الثاني وتشترك معه الأحزاب فانه قرب اليمين فابتلع اليسار ثم قرب اليسار فنكلوا باليمين ، ولكنه نجح بالانتماء إلى الشعب حين رفع شعار اغضب كل الأحزاب ..وتآمروا عليه ، فكان هذا الشعار ( الشعب فوق الميول والاتجاهات ) .
والمأخذ الخطير على رجال الثورة أو المهاجمين على قصر الرحاب هو قتل العائلة المالكة التي تشكل هذه الحادثة خطا كبيرا ولغطا محيرا لماذا تم تصفيتهم بدلا من ترحيلهم إلى خارج العراق لتكون ثورة بيضاء بلا دماء ، المأخذ الآخر لزعيم الثورة هو عاطفيته وانحيازه الكبير إلى الفقراء فبدلا من رعايتهم وتطوير مناطقهم في الجنوب .. خاصة وانه قد ألغى قانون الإقطاع ، لكنه فتح أبواب بغداد لمئات الآلاف من المهاجرين وأسكنهم في كانتونات في مدينة الثورة بعد إن تركوا مزارعهم وبساتينهم وانخرطوا بكامل عوائلهم في مهن لاتتلائم مع الكرامة الإنسانية لابن الريف .
وكان من نتائج هذه الهجرة هو غلق الباب وإنهاء أي عملية للتخطيط العمراني والمدني والتنمية البشرية بجعل مدينة بغداد مدينة متحضرة ، لان الذي حدث وحصدنا ثماره الآن في عام 2010 إن خمسة ملايين مؤريف مزدوج الولاءات لم يهضموا التمدن ولم يهضمهم التحضر ، باتوا يجثمون الآن على ضفاف دجلة مثل قبيلة بدوية متوحشة تنتظر ضعف الحكومة لتدمر كل البناء ، وهي تنظر أيضا وكالمعتاد منذ آلاف السنين ظهور زعيم جديد لتبدأ الهتاف باسمه ( بالروح بالدم نفديك يازعيم ) مع اختلاف الأسماء وتعدد الأزمنة .
قيل الكثير وسيقال الأكثر عن عبدالكريم قاسم وثورته لكن الذي لا نقاش فيه إن الزعيم ويعترف بذلك حتى أعدائه انه كان نزيها محبا للعراق لم يخلف ورائه أطيان وعقارات ومليارات .. بل ترك خلفه ذكرى عطرة وشخصية شجاعة ونبيلة أرادت إن تخدم العراق لكن الأحزاب غدروا بالثورة وانقلبوا على زعيمها وحطموا كل أحلام الشعب الذي لم يصدق برحيل زعيمه .
وكان الشعب يتخيل صورته على وجه القمر ويلمس انجازاته في قناة الجيش وفي عدد كبير من الإحياء السكنية في عموم مدن العراق ، ويراه أيضا في القوانين والتشريعات التي انتزعت الأرض من الإقطاعيين ومنحتها للفلاحين ، وأعاد الثروة النفطية للبلاد بعد إن اصدر القانون رقم 80 ، ويكفي الزعيم الأمين هذه الانجازات وشجاعته النادرة وهو يواجه برجولة وبسالة الانقلابيين ويجعل أيدي فرقة الإعدام ترتجف من هيبته فأين لنا بهكذا رجال مازال الشعب يرى فيهم الأسطورة والأمنيات .