الرمز الصوفي في الشعر التعبيري السردي
أخذ الشعر السردي التعبيري حيزا كبيرا في الذائقة العالمية عموما والعربية خصوصا منذ انطلاقه حيث أحدث قفزة فلكية في التحرر من القوالب التي حكمت الشعر العربي طيلة قرون متطاولة وفجر اللغة وذهبت كواكبه مبحرة صوب اللانهائيات بالبديع الزاهر والبيان الساحر والانزياح المبهر قادما من المستقبل لكتابة قصائد العصر.
قصيدة اليوم كتلة مضغوطة العوالم، كثيفة الدلالات، تنطلق من أعماق الشعور الإنساني لتصل ملكوت المعنى حيث الرمزية الصوفية لتجربة بشرية في سيرها نحو عوالم الكمال والجمال بقوارب العقل والنفس وتكسير قيود الظلام التي فرضها الواقع على نفوس الشعراء، المتصوفة، والعرفاء.
1. نص القصيدة: غربة الناي/ فراس الوائلي
غربة الناي
غربة الناي بين الحطب، ألم يعزف نفسه، نار تكره الأنغام، وفي السماء نجمة يعدو في عينيها كوكبان وآلهة غرقى، والقمر الناجي من الطوفان. المطر كثير الدلال، لا يعلم بأن الأطفال لا يجيدون الغرام. كمنجة وسط النار تصرخ، ذنبها البوح لقيثار شرقي متزمت، دموع الأوتار البريئة، لا يعرفها اللهب. ورغم الحريق، أتسامى متحدا بالسماء.
2. تفكيك المعنى
/غربة الناي بين الحطب/ الناي ( رمز تغييب الجسد) وسط نيران الغربة الروحية، وأعظم الوجع سجن الملاك في زنزانة الشيطان.
/ألم يعزف نفسه/ عبر تجاويف الناي يعزف الشاعر ذاته لخلق عالم جديد بإظهار المعنى الباطني في مقابل الواقع الإنساني المحاكي له في حركة جوهرية تتحول فيها النفس من فحمة باردة مظلمة إلى جمرة متوهجة فالعزف هنا انتقال وتحول من أرض الرماد إلى العالم الزاهر بالجمال والحقائق وهو ولادة الشعر وانبثاقه من وسط الانكسارات الروحية الهائلة.
/نار تكره الأنغام/ نار الواقع شديدة الأهوال عظيمة الحسد جليلة الأحقاد تكره أنغام الحب والجمال عدوة النقاء تكره الأمطار ومناظر الحقائق البهيجة في النفس المضيئة.
3. يبدأ العزف حين يلمح الحقيقة.
/ وفي السماء نجمة / إشارة للمعية الإلهية في سماء الروح التي أشرقت بفعل السير إليها حبا بعدما ضاقت آفاق الرؤى في الواقع المتحجر.
/يعدو في عينيها كوكبان/ وهما العقل والنفس اللذان انفتحا باليقين والمشاهدة والتذوق والترويض وإدمان أفعال النور والجمال والنأي عن كدورات الخطايا والآثام. فعقل الشاعر ونفسه يسافران في أرض الجلال الخلاب والجمال الساحر في طواف ينشد سرمدية اللحظات.
/ وآلهة غرقى/ وهي اشارة رمزية لجيوش العشاق من المتصوفة والعارفين، والحواس الإنسانية التي فنيت بذلك الجمال الإلهي الخلاب، واندكت فيه وهو مقام الفناء وانعدام الأنا العليا فالجميع غارقون في بحر الجمال لا يرون في الدار ديارا غير الحق سبحانه.
/ والقمر الناجي من الطوفان/ اشارة إلى مقام الصحو واليقظة الروحية بعد الفناء في بحور الجلال والجمال ليرى العالم بعينين احداهما ناظرة للحق وجلاله والأخرى ناظرة للخلق واعيانه وهي الرؤية الكونية التي يمتلكها الشعراء والعرفاء.
/المطر كثير الدلال/ فالمطر هو أصل الحياة على الأرض وهو الجمال الناضر والسحر المعرفي الذي يحبس الأنفاس عند نزوله على طفولة النفس السالكة وهو إشارة كثيفة الدلالة لتعالي ورقة المعارف النورانية.
/لا يعلم بأن الأطفال لا يجيدون الغرام/ الأطفال لا يجيدون الغرام حينما يكونون في احضان الحقائق المدهشة التي تحيطهم بالرحمة والحنان الأخاذ فيضطربون وتصدر عنهم الشطحات ( الطفولة الروحية) فيدخلون في غيبوبة السكرات ونوبات الهذيان كما حدث للحلاج وغيره من المتصوفة الكبار، فالحقائق الساطعة لا تلتفت لجهل الطفولة وكدورات النفس البشرية، فالشمس حين تشرق تغطي بنورها أرض القبح والجمال.
. /كمنجة وسط النار تصرخ/ صراخ الروح في سجن البدن وغربتها وسط نيران الواقع الذي يحارب الجمال والابداع وكل جديد وغير مألوف.
/ذنبها البوح لقيثار شرقي متزمت/ بعد السكرة بجمال اللذائذ المعنوية والفناء فيها تعود النفس لمحيطها المتزمت لتبوح بالأسرار المضيئة فتكون غريبة عما حولها يحاصرها ويتربص بها الأعداء والحساد، وهو شعور عبر عنه فطاحل الشعراء كالمتنبي العظيم حين قال:
أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي
وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ
أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَـ
ـهُ غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ
/دموع الأوتار البريئة، لا يعرفها اللهب/ دموع النقاء والاشراق التي تبعث من شغاف القلب واوتاره الرهيفة لا يعرفها الواقع الحقود الذي يمعن في حرق مشاعرها رفضا وحربا وحسدا لحروف ناضرة المعنى كثيفة الأغصان ناضجة الثمر.
/ورغم الحريق، أتسامى متحدا بالسماء/ ورغم حريق الواقع وشدة الغربة الروحية فاللهب مداد الشاعر لصياغة قصائد الدموع متساميا متحدا بالسماء.
فراس الوائلي/ العراق