منذ أن ظهرت المدنية والطبقة والدولة والهيمنة بعد تلاقي ثقافتي تل حلف ذات المشارب الآرية وثقافة آل عبيد ذات المنابع السامية في ميزوبوتاميا السفلى وظهور الظروف والأرضية لبناء مدينة أورك وما تلاها حوالي 6000 ق. م ، كان استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وسرقته ونهب كدحه. وترافق هذا الانحراف في السلوك البشري مع مقاومة المجتمعات وأهم عنصر للحياة المستقرة والحرة فيها المرأة الحرة، وكانت الميتولوجيا والتصورات الذهنية والأفكار الغيبية كنافذة تصورية وكطاقة روحية لرفض الشذود والاستغلال في التعامل البشري مع جنسه ومحيطه وأيضا كوسيلة تستخدم بعد تدجينها وترويضها لضمان حماية النظم السلطوية النهية وربطها بالحالة التصورية الغيبية وفرض مفهوم العبد والعبودية والطاعة العمياء للنظم السلطوية كطريق ووسيلة للوصول إلى الجنة والحياة المفقودة والتي تم تلويثها وتمزيقها ونهب قيم الأمومة-والمرأة-الآله فيها، كرمز للعطاء والمساواة والديمقراطية .
ومع الإمبراطوريات ومستوطناتها ولعل أشهرها الإمبراطورية الأشورية ظهرت الرأسمالية التجارية وفي القرن الثالث عشر ومع حالة الجمود والسكون والتشرذم وعدم الاستقرار والحروب البينية المتصاعدة التي لحقت بأمصار الخلافة العباسية التي أصبحت مترامية الأطراف و شكلية رمزية، بعد تحكم الأنساب التركية القادمة من أواسط آسيا فيها، انتقلت التفوق التجاري إلى أوربا وفي القرن السادس عشر أصبحت الرأسمالية التجارية حالة هيمنة عالمية وفي تزايد وانتشار واسع إلى أن وصلنا للقرن الثامن عشر والثورة الصناعية وظهور الرأسمالية الصناعية التي تنامت بشكل كبير مع حالة الاستعمار والاحتلالات إلى أن وصلنا لدور المال والعولمة والبنوك الدولية و البورصة أي الرأسمالية المالية في نهايات القرن التاسع عشر .
ربما كانت للرأسمالية وبأنواعها الثلاثة خصائص جوهرية أو أركان ثابتة لا تتغير مع تغير الاشكال والأدوات ومنها:
1- الأنانية والفردية المتضخمة وبالتالي إضعاف المجتمع وتقسيمه وتشرذمه لأن المجتمعات لم تقبل يوماً الخضوع الكامل لكل أنواع الرأسماليات وظلت تحتفظ بقواها القادرة على التفاعل عبر أنسجتها السياسية والأخلاقية أي بينيتها وتركيبتها الديمقراطية.
2- العمل المأجور بتنوع تسمياتها من العبد إلى الموظف الحالي الذي يعمل بأجر زهيد ويقبل كل أنواع الحياة المفروضة عليه.
3- الربح والقيمة الأعظمية دون الاكتراث بالبيئة والمناخ والطبيعة والإنسان.
4- الملكية الخاصة المتضخمة وتطويرها لملكية الدولة أو رأسمالية الدولة وشرعنتها بمختلف القوانين الوضعية.
5- تسليع المرأة وتبضيعها وجعلها وسيلة للبيع والشراء وإناء للمتعة وآلة لإنجاب الأولاد وخداعها بالمفاهيم الليبرالية للحرية الشكلية الفردية والزائفة دون اعتبار للكيانية الحرة للمرأة والطاقة المبدعة لها ولحقها في قرارها المستقل فيما يخص كينونتها وجنسها وطريقة تشكلها للعائلة الديمقراطية والمجتمع برمته.
6- الهيمنة الفكرية والفلسفية أو الأيدولوجية والعمل لخلق أرضيات وأجواء للتأثير في تشكل معظم السياقات النضالية الاجتماعية والتيارات السياسية والثقافية والسلطات-الدولتية حتى تكون في النهاية في خدمة الرأسمالية وتعزيز هيمنتها كما فعلتها أغلب التيارات والأحزاب وحركات التحرر الوطنية والدول حول العالم التي اعتنقت وتلاحمت وأخذت الميول والأفكار القوموية والإسلاموية والجنسوية أساسا لها.
7- المحافظة على الدولة وتطويرها كوسيلة احتكار للعنف و لكونها أداة النهب والتحكم والاستغلال وإضعاف المجتمعات وتجديدها مع كل ثورة وحركة تغير كانت تقوم بها المجتمعات عبر العمل من الطبقة البرجوازية لانتصار الثورة المضادة وضخ دماء جديدة في هذه الأداة والاستفادة من الأخطاء السابقة وإفشال كل الجهود المجتمعية الديمقراطية.
8- اقتصاد السوق والاحتكارات المختلفة والتحكم بآليات العرض والطلب والأسعار وعلاقات الانتاج.
يمكن القول أن الرأسمالية تجدد نفسها دائما بعكس الطرف والنظم الأخرى التي تظل دوغمائية وقالبية فتكون مصيرها السقوط، ولقد أثبتت الرأسمالية أنها أكثر قدرة على الاستمرارية والحياة مما كان يتصور خصومها، حيث تغلبت على أخطر التناقضات في اللحظات المناسبة، ويمكن القول والاعتبار أن الثورة التكنولوجية أو استغلالها والتحكم بها والهيمنة عليها هي المرحلة الحالية و المقبلة من مراحل تجديد الرأسمالية لنفسها في إطار مرونتها وقدرتها على الاستمرار كما استفادت من الثورة الصناعية.
لكن مع وصول الرأسمالية إلى مرحلتها الراهنة إلى الرأسمالية الافتراضية أو الرقمية وتكاثفها وأدواتها الجديدة، دخلت البشرية في عصر جديد تتخذ فيه الرأسمالية أبعادا جديدة مضافة وربما مقاربات جديدة من القضايا السابقة والأركان الثابتة لديها مع التأكيد أن جوهرها واعتبارها للإنسان والمجتمع والطبيعة كمواد أولية للربح والاستخدام والهيمنة تظل نفسه. و التغير المصاحب لتطور تقنيات المعلومات يؤثر على أسس نمط الإنتاج ويزعزع استقرار حتى مبادئه الأساسية، ويؤدي ظهور التكنولوجيا الرقمية إلى تعطيل العلاقات التنافسية لصالح علاقات التبعية، ما يعطل الآليات الكلية ويجعل الاستحواذ مقدّما على الإنتاج وبذلك يتم إرجاع البشرية إلى عهود الاستعباد وبنماذج عصرية.
إن الرأسمالية الرقمية تستند إلى تحقيق الربح و الكسب المادي من البيانات الشخصية. ويمكننا القول أن مصانع القرن الحادي والعشرين الذي تستخدمها الشبكة العنكبوتية لا يتمتع بمداخن عالية بل يرتكز على الذكاء الاصطناعي، والمنتجات التي تصنعها تعتمد على توقع سلوك بشري تبيعه إلى المعلنين. وتشكل عملية تبادل المعلومات الرقمية من خلال شبكات البيانات، قلب النشاط الاقتصادي والاجتماعي في نمط الانتاج الرأسمالي الرقمي. البيانات هي أهم سلعة هنا، وشبكة الويب العالمية هي البنية الأساسية للاقتصاد الرقمي. ذلك أن الإنترنت هو العمود الفقري لكل عمليات تقديم الخدمات والتداول، سواء كان الأمر يتعلق بالأخبار، أو الاستماع إلى الموسيقى، أو مشاهدة الأفلام، أو الاتصال. لقد أصبح الإنترنت ضرورياً، ليس فقط لعمل الاقتصاد بأكمله ولكن أيضا للحياة الفردية التي تم زج الفرد فيها والدفع لتشكيلها، لأنه أصبح أكثر فأكثر العنصر الأساسي للانخراط في ما يسمى الحياة الاجتماعية أو الحالة الافتراضية.
إن طبيعة الهيمنة الرقمية، يبين البدأ بالنموذج الاقتصادي الذي يشترك فيه كل نشطاء الاقتصاد الرقمي ومنها استعمال المعطيات ومعالجتها باللوغاريتمات التي تزداد دقة كلما ازدادت المعطيات وفرة، وبذلك صار لاستراتيجيات غزو الفضاء السيبراني نفس الغاية مهما كان الاقتصاد الأصلي، أي السيطرة على فضاءات الملاحظة والتقاط المعطيات الصادرة عن الأنشطة البشرية.
لقد أشار الاقتصادي الفرنسي، المتخصص في التكنولوجيا، سيدريك دوراند، أن الرأسمالية الرقمية تمثل “إقطاعية تقنية” قائمة على الريع والافتراس والسيطرة السياسية للشركات متعددة الجنسية، ويقول أن هذا الوصف أكثر تعبيرا عن علاقات الإنتاج التي يسر نحوها هذا النمط من الانتاج الافتراضي العالمي.
بذلك هي الظاهرة هي التي تسمح باستغلال القوة الجماعية لتردّها في شكل سلطة، وهنا تتجلى المسألة الإقطاعية، فالمنصّات تحوّلت إلى إقطاعات (الإقطاعة هي مجموع ما يملكه الإقطاعي من أراض وما عليها)، ليس لأنها تعيش على “أرض رقمية” مأهولة بالمعطيات فحسب، وإنما أيضا لأنها تقيم حواجز صارمة على خدماتها ومعلوماتها، تلك الخدمات التي تغدو أساسية لا غنى عنها لكونها صادرة عن ما تسمى القوة الاجتماعية المتحكمة.
أن التغير الذهني و السلوكي المرافق في أداء الفرد والمجتمع بسبب التفاعل مع التطور في تقنيات المعلومات وبرامجه المختلفة، يؤثر على أسس علاقات و نمط الإنتاج ويعطيها أبعاد جديدة، ويؤدي ظهور التكنولوجيا الرقمية لصالح علاقات التبعية، ما يعطل بعض الآليات والمعاير السابقة ويجعل القرصنة والاستحواذ والتجاوز متفوقاً على الإنتاج، كما هي المعلومات والميول والتوجهات والنبضات المحتملة التي تكون في قبضة الرأسمالية الرقمية وطبقتها النخبوية التي لاتتجاوز نسب أقل من السابق وربما اقل من 5% السابق في عصور الرأسماليات السابقة.
جاء عام وباء كورونا التي ربما تكون أحدى إبداعات الرأسمالية الرقمية وأدواتها، ليظهر مدى اعتماد العالم على التكنولوجيا في ظل الإغلاقات في أغلب الدول حول العالم للحد من انتشار فيروس الوباء. ليس فقط نتيجة استخدام التكنولوجيا الرقمية في العمل من البيوت والتعلم عن بعد، بل أيضا في التسوق الالكتروني عبر الانترنت وطرق الدفع والتحويل الرقمية والتفاعل الاجتماعي الافتراضي بين الرجال والنساء. لقد اصبح قطاع “التكنولوجيا المالية” واحدا من القطاعات الأسرع نموا الآن في الاقتصاد العالمي، وحتى الصين، التي وإن كان اقتصادها تحول للرأسمالية بشكل منضبط ومقيد ومختلف عن الرأسمالية الغربية، ولكنه أكثر توحشا وتنافسا الآن بقوة في مجال التكنولوجيا والتكنولوجيا المالية تحديداً، وربما وصل لمنافسة وادي السيلكون الأمريكي أو الإسرائيلي المتفوقين في العالم والمنطقة بالتقنيات المختلفة من الاقتصادية إلى العسكرية والأمنية.
نستطيع القول إن الرابح الكبير من هذه الجائحة الصحية التي يعيشها العالم منذ سنتين، ولا يبدو أنها ستنتهي قريبا أو ستكون هناك كوارث أخرى لأجل نفس الأهداف، هو القطاع الرأسمالي الرقمي. ومنذ ما قبل فترة الوباء تحولت الأنظمة الرقمية إلى جزء لا يتجزأ من كل مجالات الاقتصاد السياسي القائم والمهيمن دولياً ومع الأزمة أصبحت أغلب قطاعات الحياة تتركز حول الرقميات ومحاولة التمازج معها.
الآن بلغت الثورة التكنولوجية أوجها على ما يبدو، و لقد كانت الرأسمالية المالية سابقاً الأكثر استفادة من العولمة، بحرية انسياب رؤوس الأموال وترابط النظم المالية حول العالم عبر شبكة من البنوك والقنوات التي تستند إلى التكنولوجيا بكثافة. ولكن الآن التركيز هو على العملات الرقمية، وميزة تلك العملات المشفرة الرئيسية أنها لا تصدر عن بنك مركزي، ولا تنظمها أي قواعد أو قوانين لأي جهة. فهي ليست متجاوزة لدور الحكومات والدول والمؤسسات الدولية، بل لكل الهيئات المجتمعية حتى شبه المستقلة منها .
ولو أردنا أن نقدم قراءة فلسفية وسياسية عن الفلسفة الرأسمالية وزيفها وأهم أركانها الاقتصاد السياسي وعلى رأسها وفي ذروتها الاقتصاد المالي و الرقمي أو الأفتراضي، يمكننا القول إنّ مهمّة طرح نسخةٍ جديدةٍ من السرد الميثولوجيّ المماثل لدين تجّار أوروك الأوائل، قد وقعت على عاتق من يسمّون بعلماء الاقتصاد السياسيّ ظاهرياً، والذين هم ضمنياً مبتكرو الدين الجديد للرأسمالية. أي أنّ ما صيغ وأنشئ ليس اقتصادا سياسيا و رقمياً. بل ظهر تدريجياً دين جديد بكلّ حلّته، بكتابه المقدّس ومذاهبه المتفرعة، مثلما الحال في كل دين.
إنّ الاقتصاد السياسيّ قد صيغ لإخفاء الطابع المضارب للرأسمالية ومنها:
1- شرعنة الطابع الاحتكاري وتكديس البضائع لأجل التلاعب بالأسعار.
2- الاستفادة من الفوارق الإقليمية و المناطقية والنظم القوموية الأداتية.
3- تزيف الحقائق والتصور المخالف لطبيعة الأشياء.
4- أخفاء السلطوية والقمع والنهب نحت اسمها البراق.
وهذا يفوق النهب والسلب الذي قام به الأربعون حرامي المتمرسون بأضعافٍ مضاعفة. إنه الإنجاز الأكثر زيفا ونهبا، والذي ابتكره الذكاء التصوريّ والرقمنة الحالية . ونظرية قيمة الكدح في هذا الشأن هي اللقمة العالقة بالصنارة، لا غير.
أمّا العالم الافتراضيّ المسيّر على يد الأجهزة الإعلامية والبرامج والستلايتات، كأساسٍ وطيدٍ لهيمنة الرأسمالية ذهنياً، فهو أداة هيمنةٍ ذهنيةٍ أخرى جدّ مهمة. فتحوّل الحياة إلى خيالٍ افتراضي، يعني وصولها أقاصي حدود العقل التحليلي. ولدى عرض حادثٍ مروّعٍ -كالحرب مثلا- في الفضاء الافتراضي، فسيتمكن لوحده من إفساد ونسف الأخلاق دون شك. فمنذ القديم الغابر توصف الحياة التي لم يجرّبها الإنسان بذهنه وجسده على أنها حياة زائفة. ولا يمكن أن تنجو الحياة من الزيف بإضافة اسم الافتراض أو الرقمنة عليها. لكن لا يمكننا أن نتّهم هنا التطور التقنيّ وجهد العلماء والباحثين الذي مكّن من الحياة الافتراضية. بل نقوم بإعادة تناوله وتقييمه بخصائصه، التي تشلّ ذهن الفرد وتمكّن من الاستغلال والاستثمار. لكون التكنولوجيا المتحرّرة من قيودها هي من أخطر الأسلحة كالأسلحة النووية والكيميائية والآن الأسلحة الليزرية أو الضوئية المحتملة التي تعتمد على الضوء لإحداث تخريبات لم تحصل من قبل في التاريخ.
إن المؤثر الأوليّ الذي يفرض وجود الحياة الافتراضية، هو تحكّم الرأسمالية بالتقنية، وحاجتها إلى بسط حكمها على المليارات من البشر. حيث لم تعد الحياة تطاق، لأنها دوما تتحول إلى عالمٍ افتراضيٍّ يدلّ بدوره على موت الإنسان وهو على قيد الحياة. وما التقليد والمحاكاة سوى حالة ملموسة للغاية عن الحياة الافتراضية. ولكن، لا يحصل الإنسان على المعرفة عبر محاكاته لكلّ حادثٍ أو تشبّهه بكلّ علاقةٍ أو إنجاز. بل إنه يغدو أبلها وسفيهاً بذلك. إذ لا يمكن إحراز التقدم بتقليد جميع المنجزات الحضارية، و ما يتحقق هنا هو هيمنة ثقافة التقليد والمحاكاة والجبن. لكنّ الاختلاف المخفيّ في ثنايا جوهر الحياة لا يطيق التكرار بتاتا. حتى التاريخ لا يكرر نفسه. فالتقليد ضدّ التقدم. في حين أنّ الحياة الافتراضية ترتكز إلى التقليد اللامحدود. ذلك أنّ الجميع يقلّدون بعضهم بعضا، فيشابهون بعضهم بعضا. وهكذا يخلق حشد القطيع. كما أن عصر المال لم يكن من الممكن عيشه بدون الحياة الافتراضية التي مهدت للرأسمالية الرقمية. ولا يمكن إدارته إلا بسيادة الحماقة والغبن بلا حدود، والذي لا يتحقق بدوره إلا مع الحياة الافتراضية. أما الحدّ من ذلك، فهو المهمّة الأساسية للحياة الحرة. فتعريف الحياة الحرة وتنظيمها ضرورة حتمية لا غنى عنها، كي تحافظ المجتمعات على تماسكها ورصانتها. وتكمن في هذا المجال أغلب القضايا التي ينبغي على سوسيولوجيا الحرية أن تجيب عليها.
يمكننا شرح نجاح النظام الرأسمالي العالمي بشأن تطوير الحياة الافتراضية للوصول إلى الرقمنة الاقتصادية من عدة نواحٍ كما:
1- اسقاط الأخلاق والدين: أي إضعاف علاقات المجتمع وروابطه الوظيفية مع الأخلاق والدين، وإسقاط الأخلاق والدين إلى المرتبة الثانية عن طريق القانون العلمانيّ، وبالتالي فرض التبعية على المجتمع. أي إنه يسمح للدين والأخلاق بالانتعاش تماشيا مع مدى خدمتهما للنظام القائم. فالقوانين والعلمانية في جوهرهما وسيلتان لتأمين انتقال الرقابة المجتمعية إلى قبضة السلطة الرأسمالية. حيث تتمّ تصفية الدين والأخلاق عن طريق سلاحي العلمانية والقانون، بغية فرض التبعية على الشرائح الأرستقراطية وشرائح الأقنان الموجودة في المجتمع القديم على حدٍّ سواء، ولإفساح المجال أمام رأس المال والقوة العاملة، وتشكيل قوةٍ احتياطيةٍ منها. إنه لا يفنيهما كليا لأنه بحاجةٍ ماسةٍ إليهما. فباعتبارهما أداتين شائعتي الاستخدام من قبل المدنية، فإنّ النظام الرأسماليّ أيضا بحاجةٍ إليهما بصفتهما “الكلمة الفصل”. ولكن، بشرط ألاّ تشاطراه سلطته الاقتصادية والسياسية، وألاّ تعرقلا مسيرته. وبهذه الإجراءات، تتحول دولة القانون والإصلاح الدينيّ إلى مظاهر أساسيةٍ للحداثة الرأسمالية، فيؤديان بذلك دورهما الأصليّ كأداتين أساسيتين للانتقال إلى حالة الاقتصاد الرأسماليّ والمجتمع الرأسماليّ. وهما في الوقت نفسه وسيلتان لحلّ مشاكل ذهنية النظام.
2- الفصل بين الذات والموضوع: أو ما يسميه النظام الرأسمالي “الأسلوب العلمي”. فكأنّ الفصل بين الذات والموضوع مفتاح الهيمنة الذهنية. فمبدأ الموضوعية، الذي يبدو ظاهريا كضرورةٍ لا غنى عنها في الأسلوب العلمي، هو في الحقيقة مرحلة تمهيدية ضرورية لأجل هيمنة النزعة الذاتية. فأن تكون ذاتا فاعلة هو شرط لازم لأجل الحكم. وبطبيعة الحال، فما يقع على عاتق المأمورين هو أن يكونوا موضوعا شيئيا. وكينونة الموضوع تعني التشيؤ والخضوع للحكم كأيّ شيءٍ كان. إذن، فالأشياء، وبالتالي الموضوع، تعبير أسلوبيّ عن بلوغ الذات حالة التحكم المزاجيّ. بل إنها تفعل ذلك وكأنها من مسلّمات العلم. تمتد جذور الفصل بين الذات والموضوع إلى عهد أفلاطون. ذلك أنّ أفلاطون، ومن خلال عالم “المثل” الشهيرة لديه، قد شكّل أساس كلّ التمييزات على نحو ثنائياتٍ تشمل الانعكاسات البسيطة. في حين أننا نشاهد أسسه الميثولوجية بشكلٍ خارقٍ في المجتمعات السومرية والمصرية. فأصولها الأصلية تتجسد في السموّ الإلهيّ بالهرمية العليا وتبجيلها؛ وفي استعباد واسترقاق من في القاع. فالتعبير الذهنيّ عن ثنائية الخالق–المخلوق وقرينة الحاكم–المحكوم قد تطوّرت شيئا فشيئا على شكل: الإله–العبد، الكلام–الشيء، المثل الفاضلة–الانعكاسات البسيطة؛ لتبلغ تدريجيا الفصل بين الذات والموضوع. وكذا يندرج الفصل بين الروح–الجسد في هذا الإطار. أما المعنى السياسيّ لذلك، فهو إنكار الديمقراطية، وفتح السبيل أمام الأوليغارشية والمونارشية.
ينبغي الإدراك تماما أنّ الذهن التحليليّ قد بلغ أكثر أنماطه حيلة وتآمرا ومكيدة مع الرأسمالية. والبورصة والرقمنة مثال صارخ على هذه الحقيقة الواقعة. والذكاء المضارب (التصوّريّ) أو الافتراضي هو مجالها الذي يدرّ عليها الأرباح الطائلة. أي أنّ المضاربة والذكاء التصوريّ يغدوان توأما في النظام الرأسمالي، مثلما الحال في القطاعين السياسيّ والعسكريّ. فالحروب تنشب على أساس الحيلة والمكر والمكيدة، لتكون بذلك ذروة ثقافة الصيد. لقد بات الذكاء التصوري أداة للتلاعب والمضاربة والتآمر في حقول البورصة والميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبدرجةٍ غير مسبوقة. إنه لا يعبأ، ولو بمثقال ذرّة، بالوجدان والعاطفة. فبينما تحترق الأجساد في نيران القنابل النووية وغيرها من الأسلحة الفتاكة في مكانٍ ما والحروب وانتشار الفيروسات، فإنه يجري اكتساب المليارات من النقود في مكانٍ آخر خلال عدة أيام، ودون أن تتصبّب قطرة عرقٍ واحدة. بالمقدور القول أنّ الرأسمالية تكشف النقاب عن ذهنيتها بكلّ جلاءٍ في البورصة والرقمنة والسياسة والحرب. إذ، ما من قيمةٍ أو عاطفةٍ إنسانيةٍ لن تنتهكها الرأسمالية كرمى لعيني الربح. بيد أنّ الذكاء العاطفيّ ضرورة لا غنى عنها لأجل الحياة. فكلما ازداد الانقطاع عن هذا النوع من الذكاء، كلما خبت معاني الحياة أكثر. أما الكوارث البيئية، فتنبّئ بالمخاطر المحدقة بالحياة، وكأنها تنبّئ بحلول يوم القيامة. والمسؤول عن ذلك هو الذكاء التصوري المستخدم بمنظورٍ منحرف، والمقتات طرديا على اللغة والسلطة والمدينة والدولة والعلم والفن؛ ليتحوّل إلى وحش عالمي (الإمبراطورية العالمية لرأس المال العالمي وللرقمنة الاحتكارية). أما التصدي لهذا الوحش وصدّه، فيتطلب الذكاء العاطفيّ وبذل جهودٍ حثيثةٍ وشاملةٍ للغاية. ولأجل شلّ تأثيره المدمّر، يجب ردعه عن قمعه المسلّط على الحياة الحرة، وردّه على أعقابه. ويجب قطع أنفاسه كي يعجز عن العيش، قبل أن يجعل الحياة على كوكبنا لا تطاق بسبب ارتفاع الحرارة والتلوث وتغيرات المناخ. وستكون المهمّة الرئيسية لسوسيولوجيا الحرية هي بلوغ الرؤية النظرية لهذا العمل المصيريّ، والنجاح في رسم تخطيطه السليم.
لقد اصبحت التنمية والتطوير ومحاربة الفساد والإرهاب ومقاومة الشعوب ضد الإبادات الجماعية والتطهير العرقي والتغير الديموغرافي الذي تم تسليطها على شعوب المنطقة في جزء كبير منه وبتوجيه من الرأسمالية العالمية الرقمية الاحتكارية مرتبط اليوم بالقدرة وبإمكانية الوصول وبتكلفة ميسورة إلى تقنيات الاتصالات الحديثة والمعلومات المحتكرة والرقائق المشفرة كشرط لا غنى عنه للتنمية والحياة المعقولة في القرن الحادي والعشرين.
ربما يقول أحد ما أن الفرد مازال يملك حرية مقاطعة الإنترنت والعالم الرقمي والاستغناء عن تلك الخدمات، ولكن الثمن هو سيكون كبيراً وربما تهميشه اجتماعيّاً، وافتقاده لقدرات وساحات المواجهة. ما يعني أن القدرة على استخلاص القيمة لم تعد اقتصادية، بوصفها خيارا لأفراد أحرار أو مجتمعات مقاومة وتبحث عن الحرية والديمقراطية، بل تحولت إلى ظاهرة التقاط واستيلاء يرغم فيها الفرد والمجتمع على دفع سهمه كي يعمل و يعيش عيشة طبيعية في أغلب دول العالم ويتمتع بحريته، وهذا الإرغام لا علاقة له بالسوق، فـالخدمات الرقمية الكبرى تحولت إلى إقطاعات لا يمكن الفرار منها، ولكن القضية هي كيفية التعامل والتفاعل في ضوء متطلبات المجتمعات والشعوب ودول المنطقة في إنجاز التحول الديمقراطي وتحقيق التنمية الاقتصادية.
وهكذا يتبين أن الرأسمالية الرقمية هي مرحلة متقدمة من هيمنة عالمية شاملة تتسلل إلى أدق التفاصيل في بنى المجتمعات والشعوب وكذلك حياة الأفراد الشخصية وبيانتهم للاستفادة والتربح منها وتوقع السلوك البشري عبر بياناته وتفاعله مع الفضاء الافتراضي وبالتالي تمهيد الخيارات الموجهة أمامه بحيث لا يخرج الفرد والمجتمعات والشعوب وحتى الدولة القومية التي أصبحت عبء على الرأسمالية العالمية إلى خارج الساحات والأطر المقبولة من قبل نظام الهيمنة العالمية. وهنا أمام المجتمعات والشعوب وقواها الفاعلة تحديات متنوعة، يستلزم رؤية كاملة للرأسمالية الرقمية وكيفية التفاعل معها وفي الوقت نفسه حماية الثقافات والتنوع الاجتماعي والحياتي في جو وإطار من التكامل والوحدة الكونية التي اصبحت واقع فعلي مع عصر الأنترنت والرأسمالية الرقمية. وأن كانت الرأسمالية هي جزء كبير منها هي إضعاف للمجتمع وتماسكه وتضخيم الأنانية فإنه مع عصر الرأسمالية الرقمية أمام المجتمعات والشعوب تحديات جديدة في هذا المجال وغيره تتطلب كيفية التعامل مع الثورة التكنولوجية كمجهود بشري نبيل نتيجة لتراكم الانجازات العلمية والعمل لاستخدامها لتحقيق وتطوير الأداء المجتمعي الديمقراطي وتحقيق التحول الديمقراطي في دول المنطقة والعالم وتطوير الاقتصاد وتحقيق التنمية من جهة ومن الجهة الأخرى فهم ومعرفة استخدام الاحتكارية العالمية والنظام المهيمن للثورة التكنولوجية لإيصال الرأسمالية لزروتها للرأسمالية الرقمية والإرجاع بالهينمة والتصور الفكري و الأداء السلوكي إلى عصر الاقطاع ومن تملك البشر إلى السيطرة على أفكارهم وعواطفهم وميولهم لتحقيق أكبر قدر من الربح مع استغلال الطبيعة والبيئة علاوة على الوصول باحتكار العنف و القوة والمال إلى أجيال جديدة من الأسلحة تتجاوز الأسلحة النووية والكيميائية إلى الهجمات السيبرانية والأسلحة الضوئية والرقائق التي من الممكن أن تذرع في أجسام الإنسان إلى العملات الرقمية وتكوين واقع خيالي في عالم البصريات كهولوغرام وغيره، ولا يمكن للشخص أو أي مجتمع أو قوى اجتماعية الذهاب بعيداً عن هذا الواقع فقد أصبح جزء من منظومة الحياة ولكن العبرة في اختيار المعقول ونوعية الاستفادة وكيفية التعامل والحصول على المعلومة والاداة التقنية في الوقت المناسب لامتلاك وسائل القوة وآليات الدفاع عن الوجود المجتمعي المهدد ورغبة الحياة الحقيقة والتي تتجسد في الحرية والديمقراطية كهدفين من اسمى أهداف الوجود والحياة.