الديوانية التي كانت زهرة الفرات
زهير كاظم عبود
لاتتميز الديوانية المدينة بأي معلم شيدته الدولة العراقية فيها منذ تأسيسها حتى نكوصها ، فهي من البلدات العراقية المهملة والمنسية عمداً بالنسبة للسلطات التي تعاقبت عليها ، ومن الطريف إن هذه المدينة لم يحكمها أحد ابنائها مطلقاً حتى اليوم ، ولم تكن الديوانية مدينة تنتشر بها الأماكن السياحية الجميلة أو الجديرة بزيارة الأجانب والسياح وعشاق الطبيعة مثلما تنتشر هذه الأماكن في العديد من مدن العراق ، وقد اندثرت جميع حدائقها التي أقيمت في الخمسينات والستينات من الزمن المنصرم بفعل الإهمال وانعدام الخدمات ، وباتت المدينة تشكو من التصحر الذي بات يقضم إطرافها ، إذ تتميز بجوها الصحراوي اللافح ومكانها على أطراف مناطق صحراوية عديدة قبل أن يتم تقطيع أوصالها أدارياً ، لكن مايميزها تلك البساطة التي تبرقع روحها وتتلبس أرواح أولادها الذين عرفوا بالكرم والطيب والبساطة والتواضع والشجاعة .
مدينة وليست ككل المدن كانت قديماً تدعى بزهرة الفرات ، غير أنها اليوم تفتقر لحدائق الزهور التي ماتت وذبلت وأصبحت في طي الذكريات والصور العتيقة ، حتى هجرتها أشجار الدفلى التي اشتهرت بها ، وليس لها من الفرات الا شطيط يتلقى فوق ما يحمله من أوساخ مياه مجاريها التي تصب فيه فتزيده تلوثاً ، وهي مهشمة البنيان وباهتة الملامح وصغيرة مثل القرى ووجهها المعفر بالتراب لايغسله سوى مطر الله ونهر صغير يفيض عليها فيغمر جسورها المتعبة والفائضة عن حاجة مدن أخرى استهلكته قبلها وحشوداً من الفقراء يشكلون نسيجها الأساس .
لاتتميز الديوانية بشيء سوى صوبيها الكبير والصغير الذين يفصلهما شط الحلة الصغير الذي يخترقها فيفصلها الى شطرين ، حيث تسكنها عائلات عرفت بعضها وتقيدت بقيم وأعراف تجسد علاقاتها الطيبة وتحكمهم هذه القيم والأعراف ، غير أن الديوانية تميزت بذلك الحس الوطني المتميز الذي تشهد له الحركة الوطنية العراقية ، وما سجله لها من مآثر التاريخ العراقي الحديث ، الذي جعل لها اهتماما لدى السلطات لقمعها ومراقبة حركة النشاط الوطني فيها ، فاهتمت في مؤسساتها الأمنية والمخابراتية اهتماما ملحوظاً بالنظر لكونها في العديد من الأوقات مركزاً لتلك الحركات السياسية ، وملاذاً لقادتها ومكاناً مناسباً لاستعادة تشكيلات تنظيماتها السياسية .
ولكون المدينة تعج بالفقراء والمعدمين ، فأنها لم تكن تخلو من الأغنياء والملاكين والتجار ، غير أن ذلك التمايز الطبقي والاجتماعي يكاد إن يخبو ويختفي مع تلك العلاقات الإنسانية التي تربط الجميع ، حتى تشعر أن تلك المدينة عائلة واحدة .
وبالرغم من حداثة المدينة الا أنها لم تكن منتظمة لتوحي للزائر بأنها مدينة تم التخطيط لها حديثاً أو أنها مدينة من مدن العصر الحديث ، وتدل على تلك المعلومة حاراتها البائسة والفقيرة والعتيقة ، وهي وأن كانت أصلاً مضافة شيوخ خزاعة ، إلا أنها جمعت من كل عشائر الفرات والعراق أجناساً ، بل واحتضنت أسر كوردية وتركمانية وفارسية وأخرى ليسكنوا في قلبها وضميرها ويصيروا من أعز اولادها .
مايميز أهل تلك المدينة تلك الطيبة المفرطة التي ينسجم معها كل الناس فتطبع علاقاتهم بالآخرين وتصير خصلة من خصال أهلها ، ولم يكن بين أهل تلك المدينة من الشروخ السياسية أو الاجتماعية التي تفرقهم أو تضعف وحدتهم ونسيجهم الاجتماعي وتلاحمهم ، لكون العلاقات الإنسانية عميقة ومتجسدة في احترام الناس لبعضهم والتزامهم بها وبساطة الحياة وتلك العلاقات فيها ، وعبثاً حاولت السلطات حينها أن تلغي تلك العلاقة أو تحاول إن تخلق شروخ في أن ترفع من ذاكرة أهل المدينة أسماء عبقة وذكريات طرية فشلت جميعها .
وبعكس كل المدن فقد تردى حال المدينة يوماً بعد يوم بالرغم من أن بلديتها تم تأسيسها في العام 1914 ، لكن الحياة انتكست فيها فعلاً بعد أن حلت نكبة العراق في مجيء البعث الأول في الثامن من شباط 1963 ، أذ تحولت الى مأساة تمثلت في انتشار أمراض اجتماعية وقيم عفنة وانتشر التوجس والخشية والريبة والخوف بين الناس بالإضافة إلى عدم استيعاب مواقفها وسجونها لأبناء الديوانية ، مما أضطر السلطة لنقلهم الى أماكن أخرى .
وعرف أهل المدينة لأول مرة وكلاء الأمن وعملاء الحكومة والمتملقين والوصوليين والأغراب الذين حلوا فجأة ، وانتشر الخراب النفسي بين أهل المدينة منذ ذلك التأريخ ، وبالرغم من انتشار الأحياء وتوسع المدينة دون خدمات أساسية ودون تخطيط عمراني ، وانتقال العديد من سكنة القرى والمدن القريبة اليها للسكن والاشتغال ، فقد بقيت بقايا تلك العلاقات الإنسانية تحكم اولادها وتلزم أهلها بالرغم من تزاحم القيم الجديدة والدخيلة التي حلت مع قيمها وأعرافها وتقاليدها .
غير أن المدينة التي حاول صدام إذلالها وحاولت سلطته إن تسلك كل السبل الخسيسة لتطويع أهلها ، من خلال الإعدام والتسفير والتهجير والقمع ، بقيت تقدم التضحيات والشهداء من اجل إسقاط سلطة الطاغية دون أن تتوقف أو تركع سوى لله ، ويكفي إن السلطة الصدامية اختارت نماذج من أطهر وأنقى العوائل في المدينة لتمعن في إذلالهم وتشتيتهم وتهجيرهم بحجة التبعية ، ومع أن الديوانية كانت تئن من الجور والظلم أسوة ببقية المدن التي زادت جراحها وأحزانها ، مع أن الديوانية التي كانت تعطي للعراق المحاصيل الزراعية من الشعير والحنطة و الرز العنبر التي تميزت بزراعته بين مدن العراق فأنها كانت تشكو من فقرها وعوزها وجوع أهلها فوق ظلمها وتهميشها ، وتشتت تلك العائلات التي كانت تتمسك بقيم المحبة والطيبة والكرم فما عاد احد يشاهد تلك البيوت التي كانت تضم اضمامة عبقة من الأسماء التي كانت تزهو بها المدينة ، وانحسرت تلك الأسماء ببقايا لم تستطع إن تحل محل الكبار الذين غادروها كمداً وعيونهم على كل تلك القيم التي زرعوها وتوارثوها وحاولوا إن ينشروها بيننا .
وحل الزمان الصدامي الهجين ، حيث حلت أسماء لم يكن هناك من يعرفها أو من يتعرف اليها ، أسماء تحمل معها قيم بالية وهجينة وأعراف لاتليق بالمدينة ، حلت أسماء تحكم المدينة بالرصاص وتصبغها بدماء شبابها وتبرقعها بالخوف وتدمغها بالرعب ، أسماء ليس لها لغة سوى لغة القنابل والبنادق والمفخخات والقاذفات ، أسماء تسلك سلوك المافيات وتجمعات العصابات ، لاتتحمل النقد ولا الاختلاف ، تغتال من خيرة شباب المدينة تلك الورود التي رعيناها بماء العيون ، ونتطلع الى إن تحل بديلاً عن تلك الأسماء الكبيرة لتعود الطيبة والمحبة والشهامة تنتشر بين أزقتها الفقيرة والمتعبة .
والديوانية التي تفتقر الى كل ما تحتويه كلمة الخدمات من معنى ، زادها الأمريكان وقوات التحالف تهديما وقصفاً سواء في العام 1991 ، أو ما سطره جيش صدام من ملاحم الانتقام والانتصار على أهلها وعلى بناياتها التي تهدمت من قصف المدافع والدبابات الوطنية ، ولتعود القوات المحتلة تخرب شوارعها وتسحق ما تبقى لها من حدائق .
لم تزل الديوانية مهملة رغم كنس سلطة الدكتاتور ورحيل الطغيان ، والديوانية رغم حلول الزمن الديمقراطي الجديد بقيت تفتقر للديمقراطية إذ لم تزل أذناب الدكتاتورية تتحكم برقاب أهلها ، وتنشد الحرية التي حرمت منها منذ تأسيسها ولحد اليوم حتى لاتجد متنفساً للحرية المزعومة اليوم ، والديوانية التي لم يحكمها أحد أولادها سوى سيد جليل وأسم جميل لم يتم منحه الفرصة ليخطط ويخدم أهل مدينته ، ولم يستطع الشهيد السيد جمال الزاملي أن تترك له يد الغدر التي تغتال كل طيب وشهم وناصع فرصة لخدمة أهل مدينته ، وأصرت الا أن تغتاله لتفجع ليس أهله وعياله ، وإنما فجعت أهل تلك المدينة الطيبة والتي أدمنت الحزن والفقر والإهمال .
انتشر الجراد الوافد بين أزقة الديوانية يحمل معه كل علامات الأجرام ، دون هوية ودون ملامح ودون قيم ، متخذين من الموت وسيلة الموت لإثبات الوجود ورسم علامتهم بالدم المسفوك ، ويوميا تطال شباب الديوانية يد الغدر والمنون لتغتال من ورودها وشبابها الصابر مجموعات من الشباب الذين صبر أهلهم على ظلم وجور صدام لينتقلوا الى جور وظلم الذين حلوا بديلاً عن سلطة صدام .
الديوانية اليوم محكومة بمجموعات مسلحة لاأساس لها ولاجذور تغتال من تريد في وضح النهار ، وتحكم على من تشاء في أي وقت ، وبنفس الوقت الذي يستغيث أهلها على ما آل إليه الحال ، لم تزل المدينة تتميز بفقرها وافتقارها للخدمات وإهمال السلطات وتجاهلها لحاجة أهلها ، وعدم معرفة الحكام مايريده أهلها .
لم تزل زهرة الفرات ذابلة تذوي وترابها يعلو على وجوه أهلها يلفحهم صيفاً وشتاءاً ، شوارعها المخربة وإحياءها المهملة وبلديتها الغافية ومبانيها المتروكة والمتهدمة ومحلاتها الفقيرة ، كما أنها تفتقر لكل ما يفتقر اليه أهل العراق ، كما تحولت كل دور العرض السينمائي التي كانت المتنفس الوحيد لشبابها الى مخازن للمواد المستعملة ، وتحول نادي الموظفين الشهير بحدائقه المتعددة والجميلة الغافية على كتف شط الديوانية الى أثر بعد حين ، كما أزيلت من الوجود بحيرة الأسماك التي كانت تلوذ بها العوائل في ليالي هجير الصيف ، وأزيلت مبان وبيوت كانت تشكل معلماً من معالم تأريخها المتواضع ، وقامت القوات العسكرية لجيش صدام بإزالة الجامع الكبير الذي شيده المحسن السيد عباس رحمه الله في منطقة العروبة كلياً انتقاما من أهل الديوانية .
لم تزل الديوانية تضمد جراحها وتعيش الحرمان والظلم الذي عاشته في زمن الباغي صدام ، ولم تزل مجموعات الجراد تحيل أيامها جحيماً وتنشر الخراب ، ولم تزل الديوانية تعطي من شبابها قرابين كما كانت تعطي في العهود الغابرة ، فهل كتب عليها إن تكون معطاء على الدوام رغم كل مالحقها من ضيم ، وبالرغم من كل الفقر والتهميش والنسيان والإجحاف الذي يلحقها .
وبعد إن كانت بحق زهرة الفرات باتت اليوم لاتعرف أين توجه شكواها بعد إن سطر شبابها ملاحم وطنية قدموا أرواحهم الطاهرة ثمناً لها ، وبعد إن تم تسفير خيرة أهلها فبقيت بيوتهم علامات وشواهد على الزمن الخسيس الذي تسلط فيه الطاغية صدام على مقدرات العراق .
وبعد إن كانت الديوانية بحق زهرة الفرات لما فيها من حدائق ونواد ومتنزهات وشوارع وأسواق تسر النفس ، باتت اليوم خاوية حزينة منكسرة يتوزع اولادها في أصقاع الأرض لايجمعهم جامع ولا يربطهم رابط ، غير أن ما يصلنا عبر التلفاز والأخبار من تراكم المحن وتكاثر الأحزان ، يجعل الهموم تتكلس فوق جدران ارواحنا التي شبعت من الغربة ، فما عادت حتى أحلام أولادها في أمتار قليلة تضم بقايا أجسادهم ، وحق ما قال الجواهري الكبير :
والصابرون على البلوى تراودهم من أن تضمهم أوطانهم حلم
الديوانية كانت زهرة من زهرات الفرات … فهل تستعيد أيامها وبساطتها وأهلها الذين توزعوا في كل مجاهل الدنيا ينتظرون الأمل والحلم في أن يستعيدوا أيامهم وأعمارهم التي سلبها الطاغية ولم تزل مسلوبة .