الدكتور زاحم محمد الشهيلي
حين نتحدث عن الديمقراطية وممارساتها الانسانية في حياة الشعوب، ونتبناها كـ “مصطلح” قمة في الرقي الحضاري، لابد لنا ان نبحثها كـ “مفهوم” ينحدر من ثنايا التاريخ الانساني لتصل جذوره الى الحضارة اليونانية القديمة، حين كان مصطلح الديمقراطية يتكون من كلمتين ، الاولى Demos وتعني “الشعب” والثانية Grates وتعني “حكم”، وبذلك ولدت الديمقراطية من رحم الشعوب منذ الازل وتعني “حكم الشعب”، أو نظام حكم أو النظام السياسي لدولة ما الذي يختاره الشعب بالإقتراع السري.
وحين تفهم الديمقراطية على انها “حكم الشعب” فانها تعني في جانب الحقيقة “نظام الحكم” الذي يستمد شرعيته من الشعب أو من غالبيته. وبالتالي اصبحت الديمقراطية تعني ممارسة الشعب الحقيقية للسلطة، أو المشاركة فيها أو التاثير فيها على اقل تقدير. وعليه فقد اصبحت الديمقراطية مطلباً قانونياً واخلاقياً للكثير من الشعوب في العالم، بهدف تحقيق ذاتها في إدارة مؤسسات الدولة المختلفة والوسيلة الوحيدة لحماية حقوق الناس وحرياتهم.
وترتبط الديمقراطية بمفهومها الانساني القديم والحديث ارتباطاً وثيقاً بحرية الفرد والجماعة، وعلى مستوى العلاقة الجدلية بين الحكام والمحكومين، وكما جاء في مقولة العلامة الفرنسي (جورج بوردو) التي جاء فيها: “ان الديمقراطية مرتبطة كفكرة وكواقع بالحرية”، فهي تعني بالنسبة له: “نظام الحكم الذي يهدف الى ادخال الحرية في العلاقات السياسية، اي في العلاقات بين من يأمر ومن يطيع”.
ولذلك فإن مفهوم الديمقراطية اضحى يتمحور في الجانب الانساني والقانوني لبناء العلاقة بين القابضين على السلطة والشعب في اطار ما يقره الدستور وتنظمه القوانين التي تحفظ للمواطن حقه في حرية التعبير عن الرأي والاختيار الحر والواعي “للشخصية القانونية المعنوية” التي تمثله في السلطة. وعليه اصبحت الديمقراطية الدستورية لها شروط ومقومات من اهمها اقرار مبدأ المواطنة الذي يعد بمثابة مصدر حق المساواة السياسية بين الاطياف والشرائح الاجتماعية المختلفة.
ولذلك تعد الديمقراطية المعاصرة وفق فكر الباحثين في النظم السياسية والدستورية المعاصرة “منهجا” وليست “عقيدة”، المنهج الذي تقتضيه المصلحة العامة بضرورة التعايش السلمي بين افراد المجتمع الجمعي الواحد والجماعات المختلفة الممثلة فيه، والذي يقوم على عدة مباديء اساسية ومؤسسات تعطي امكانية للجماعات السياسية لإدارة أوجه الاختلافات في الاراء وتباين المصالح بشكل سلمي بعيدا عن التوتر وتغليب المصالح الخاصة بين الطرفين ، مع الاخذ بنظر الاعتبار المصلحة العليا للوطن والمواطن.
ان التمسك بالديمقراطية كـ “منهج” وليس كـ “عقيدة” يُمَكِن الجميع من السيطرة على مصادر العنف، ومنع حدوث الفتن ونمو الاحقاد ووقوع الحروب الاهلية والطائفية والعرقية التي ادمت تاريخ الانسانية بشرورها، حيث يعد الشعب “القاعدة” الاساسية والممول الاستراتيجي للعملية الديمقراطية والحامي لها ومصدر نجاحها.
وبخلاف ذلك تتحول الممارسات الديمقراطية، وخاصة في دول الشرق الاوسط المنكوبة، الى “شواذ” تكرس رغبة الاستحواذ على السلطة بهدف رعاية المصالح الشخصية والحزبية بحجة القومية والعرقية والطائفية، لتعيد الى الاذهان ممارسات الحكم المركزي الدكتاتوري المستبد القائمة على استغلال السلطة، والاستحواذ على المال العام لصالحه، ومصادرة حقوق وحريات الاخرين، وبذلك تكون الديمقراطية اقرب الى “العقيدة” الزائفة منها الى “المنهج” الصحيح.