تتشكل في عراق اليوم لوحة عجيبة غريبة تبدو وكأنها غير مفهومة ومغلَّفة بطلاسم لتشكل جزءاً من المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني والعسكري المتداخل في منطقة الشرق الأوساط. إنها لوحة سوريالية شديدة التعقيد والتشابك، تشارك في صنعها أطراف محلية وإقليمية ودولية ذات مصالح متناقضة وأهداف متصارعة وأساليب متنوعة، تؤكد ما ذهبت إليه كونداليزا رايس التي تحدثت عن توجه المنطقة صوب “الفوضى الخلاقة!” المدمرة لمصالح شعوب المنطقة ودولها وقيمها ومعاييرها الإنسانية بفعل لاعبيها ولاعبين آخرين.
إلا إن المتتبع لأوضاع العراق من 2003 حتى الآن يمكنه أن يرى وجهة العملية السياسية المشوهة الجارية في البلاد والعواقب المريرة التي ترتبت عليها وما يمكن أن يحصل لبغداد، دار السلام، وعموم العراق في المستقبل إن استمر الوضع على حاله الراهن.
أنباء العراق ترصد بوضوح بدء قادة الدولة العميقة بإرسال رسائل قوية متلاحقة وممعنة بالتحدي والاستفزاز عبر واحدة من أكثر الميليشيات شراسة وعدوانية وتبعية للولي الفقيه والحرس الثوري وفيلق القدس، إلى الدولة والحكومة في البلاد، هذه الميليشيا المسؤولة، مع مثيلات لها، عن قتل المئات وجرح الآلاف من العراقيات والعراقيين في الأشهر الأخيرة فقط، عدا ما تمارسه اليوم من استفزاز وابتزاز وهيمنة، لاسيما في المحافظات المحررة من عصابات داعش الإجرامية لتحل محلها وتمارس أفعالها الإرهابية المخزية هناك. فقد توجه قائد ميليشيا كتائب حزب الله في العراق بتهديدين مباشرين تضمنا ما يلي:
1) تهديد رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي بالتصفية إن تجرأ على ملاحقة واعتقال مرتكبي الجرائم ضد قوى الانتفاضة، لاسيما قتلة د. هشام الهاشمي.
2) ) التهديد باستخدام العنف والسلاح في ضرب وطرد القوات الأمريكية في العراق، وإنها مالكة للقوة والإمكانية للقيام بذلك، رغم علمها بأن هذه القوات موجودة بموافقة الحكومة العراقية!
وللعلم نشير إلى أن ميليشيا كتائب حزب الله هي جزء من الحشد الشعبي، وبالتالي فهي خاضعة من حيث المبدأ لقيادة القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي! ولكن قادها الفعلي هو نوري المالكي المكلف بقيادة الدولة وتوجيه العميقة في العراق. والسؤال العادل الذي يواجه الجميع: ماذا فعل مصطفى الكاظمي لمواجهة هذه التحديات والعمليات الإرهابية، وإزاء كثير من الممارسات الاستفزازية المباشرة لرئيس الحكومة التي قامت وتقوم بها الميليشيات الشيعية الطائفية المسلحة؟
نشر الزميل عبد المنعم الأعسم مقالاً مهماً تحت عنوان: الكاظمي المهزوم أمام الدولة الموازية المتمردة (7 منظورات)، على موقع نافا NAWA بتاريخ 11/07/2020، وهو مقال مهم جدير بالقراءة لرؤية حقيقة ما فعلت هذه الميليشيات في تحدياتها، وما لم يفعله الكاظمي لمواجهة ذلك، عدا عن قوله دون فعل “لن نسمح بتحويل العراق إلى دولة عصابات”!، والتي تتلخص، كما يبدو، في الاستسلام التدريجي للدولة العميقة التي لا يتمناها كل إنسان له، إلا أن التمني شيء والواقع المعاش الجاري شيء آخر!
لم أكن أتوقع، لكن كنت أتمنى، أن يبادر رئيس الحكومة الكاظمي، أن يرد بقوة وحزم على أيدي من أطلقوا صواريخ كاتيوشا صوب المنطقة الخضراء والسفارة الأمريكية والمطار، وهم من نفس فصيلة قتلة هشام الهاشمي، بدلاً من التراجع والسماح لقضاء الحشد الشعبي بتبرئة المعتقلين الإرهابيين الفعليين لعدم كفاية الأدلة!!! إن هذا الموقف الانهزامي له تأثير كبير باتجاهين متعارضين: تقوية القوى الإرهابية للدولة العميقة من جهة، واضعاف للجبهة المناهضة للدولة العميقة وميليشياتها المسلحة من جهة ثانية، إنه إضعاف لمصطفى الكاظمي.
لم تكن قيادة الدولة العميقة بحاجة إلى تدجين عادل عبد المهدي حين تسلم رئاسة الحكومة في عام 2018، إذ كان الجزار جزءاً من الدولة العميقة وتابعاً مباشراً لولي الفقيه، واعتمدت عليه في قتل المئات من المنتفضين وتعزيز مواقع إيران الاقتصادية والسياسية والأمنية وميليشياتها في الدولة العراقية. إلا أن الكاظمي لم يكن جزءاً عضوياً من الدولة العميقة، كما كان شخصية مستقلة طيلة فترة المعارضة وما بعدها، وهو شخصية مدنية، كما يشير إلى ذلك من يعرفه، ومنهم الأعسم، كما تعهد وأقسم بأن ينفذ ما وعد به للمنتفضين والشعب، وبالتالي نشأ تصور بأن الكاظمي يمكن أن لا يسمح بتدجينه وتحويله إلى شخص لا يختلف عن حيدر العبادي أو عبد المهدي. فهل يستقيم هذا التصور مع ما يجري على أرض الواقع؟ القريبون من واقع العراق يشيرون إلى وجود مهادنة فعلية حتى الآن مع قوى الدولة العميقة تجد تعبيرها لا في الجانب السياسي والعسكري، بل وفي الجانب الاقتصادي ولاسيما قضايا الاتصالات حيث وافق الكاظمي مثلاً على إعادة تجديد إجازات شركات الهاتف النقال التي تسيطر عليها الميليشيات الطائفية المسلحة التي يعرفها العراقيون والعراقيات جيداً. فقد جاء في مقال لجريدة طريق الشعب في عددها 176 بتاريخ 11/07/2020 بعنوان “قرار يهدر ثروات الوطن” بصدد الموضوع ما يلي:
“تفاجأت أوساط واسعة من المواطنين والمختصين والمعنيين، بالقرار الصادر عن مجلس الوزراء في جلسته الثلاثاء السابع من تموز الجاري، والمتعلق بتجديد إجازات شركات الهاتف النقال. ويبدو من خلال ما صدر عن الجلسة ان المجلس اعتمد السيناريو الثالث في قرار مجلس الأمناء لهيئة الاعلام والاتصالات، القاضي بالتجديد لمدة خمس سنوات مع اقتراح مدة إضافية (ثلاث سنوات)، بذريعة ما اورده مجلس الأمناء عن “احداث داعش الإرهابي وجائحة كورونا”، فيما تقتضي الشفافية وواجب الحفاظ على المال العام ان يتم اطلاع المواطن على كل الاقتراحات الواردة في تلك الدراسة، التي جرى الاعتماد عليها في اتخاذ القرار، والتي بموجبها وهب صانعو القرار ما لا يملكون! فوفقا له لن يكون التمديد لخمس سنوات فقط كما ينص اصل العقد مع تلك الشركات، بل لثماني سنوات! وبكلفة لا تزيد على 233 مليون دولار الا قليلا! وحتى هذا المبلغ الضئيل لن يسدد كاملا مرة واحدة، بل على دفعتين، تسدد ثانيتهما وهي بحدود 100 مليون دولار خلال خمس سنوات! ومن دون فائدة! يا بلاش البلاش!”
لا يمكن للكاظمي أن يتمتع بـ “مناخين على سطح واحد”، كما يقول المثل الكردي، لا يمكنه أن يكون مع الدولة العميقة وإرهابها وجرائمها البشعة في البلاد، ومع الدولة الرسمية وتدهورها المتواصل أيضاً، عليه أن يحدد موقفه قبل فوات الأوان وقبل فقدانه الفعلي للتأييد الواسع الذي حظي به من قوى الانتفاضة وعموم الشعب، لاسيما بسبب تاريخه وإعلانه الالتزام بما يريده المنتفضون والذي اقسم عليه حين استوزر، فحبل الكذب قصير وقصير جداً!