الدكتورعبدالقادر حسين ياسين *
غـيـَّبَ الموت يوم الأحـد الماضي الرفيق الدكـتـور يـعـقـوب زيـاديـن ، المناضل الشيوعي الأردنـي الفذ والقائد الوطني الكبيرعن عـمر قـارب 92 عاما قضاها في خدمة شعبه …
رحل أبـو خـلـيـل بهدوء دون ضجيج وصخب ،
رحل هـذا الشيوعي العتيق بعـد أن تركت سنوات النضال الشاق بصماتها في مسيرة كفاحه الطويل ،
رحل بعد ان حفرت اقبية السجون الأردنـيـة أخاديدها على جسده الذي انهكته رحلة نضال طويل امتدت لعشرات السنين ،
غادرنا أبـو خـلـيـل نظيف اليد طيب القلب ، تاركا خلفه سيرة نضالية تميزيت بالعـطاء الثوري غير المحدود في وقت عـزَّ فيه العطاء ، و بزرع بذور قيم الحرية والديموقراطية والـعـدالة اﻻجـتـمـاعية والتضامن اﻻممي .
غادرنا أبـو خـلـيـل ولم ينله تعـب، ولم ينحن له ظهر، رغم طعنات الظهر التي تلقاها من جاحدين يعتقدون ان ذاكرة الشعب الأردني سوف تنسى مناضلا بحجم أبي خليل.
ولد يعقوب زيادين عام 1922 في محافـظة الكرك الأردنية في مجتمع رعـوي أقـرب إلى البداوة. تـلـقـى تـعـلـيـمـه الإبـتـدائي في القرية، ثم انتقل إلى المدرسة الأميرية في الكرك. بعد انتهائه من المرحلة الثانوية انتقل إلى دمشق حيث تعرف على الحزب الشيوعـي و مبادئه. لكـنه بعد سنتين تحول إلى دراسة الطب في بيروت، وبعد تخرجه طبيبا جراحا بدأ العمل في القدس حيث تعرف على فـؤاد نصار ، و قد أنشآ معا عام 1951 الحزب الشيوعي الأردني.
في عـام 1956 انتخب نائبا عن محافـظة القدس رغم كونه من الكرك، وأصبح عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وقد ترأس الحزب الشيوعي الأردني عام 1987 واستقال من منصبه عام 1997.
زار الدكتور زيادين الاتحاد السوفيتي عدة مرات إلا أنه لم يترك لديه انطباعات ايجابية. وبالـمـقـارنـة مـع الـعـديد من الشـيـوعـيـيـن الـعـرب ، لـم يـتـخـلى الدكتور زيادين عن مبادئه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وظل حتى الرمـق الأخـيـر على قـنـاعـة بأنه لا طريق آخر لخلاص البشرية إلا الاشتراكية العـلمية.
في مـذكـراتـه ، “البدايات…أربعـون سنة في الحركة الوطنية الأردنية” يـقـول الـدكـتـور زيـاديـن ان قريته كانت “من أفقر القرى” من حيث الأراضي الزراعية، وكان هناك “الكثير من المظالم بين الناس” مما خلق لدية وعـيا مبكرا في الصراع الطبقي. ويشير الـدكـتـور زيـاديـن الى ان سليمان النابلسي ، الذي شـكــَّـل أول حكومة حزبية وطنية في الاردن عام 1956 ، ترك لدية انطباعا لأول مرة بـأن “الوطن والوطنية والنشيد الوطني أشياء مقدسة لا يجوز الاستخفاف بها “حينما كان مدرسا في المدرسة الأميرية عام 1933.
ويـُـقـرّ زيادين في “البدايات” أن عام 1943 كان عاما حاسما في بلورة قناعاته لأنه “استمع من الدكتور نبيه إرشيدات لأول مرة عن الظلم والاستغلال، ومن هو المستفيد منه ، وكيف يتكون رأس المال من استغلال العمال بتشغيلهم ساعات عمل أكثر وأجور أقل”.
التفت إلى نـبـيـه إرشـيـدات وسألـه بجدية تامة:
“كيف تعرف كل هذه الأشياء؟ من أين لك كل هذه المعرفة؟ قل لي حالا…”
وأشار إرشـيـدات الى حي المزرعة في دمـشـق وقـال لـه:” هنا مكتب الحزب الشيوعي السوري، فيه كل هذه المعلومات،وهناك جريدته “صوت الشعب” التي تصدر يوميا من بيروت.”
وأجـابـه زيادين :”خذني حالا الى هناك. وأرسل لي الجريدة غـدا. وخذ الاشتراك الان…”
ويضيف زيادين : “دخلت مكتب الحزب …رأيت عشرات الكتب والكراريس والمنشورات وصور لينين وستالين التي أراها لأول مرة على الجدران. جمعت عدد من الكتب وعـدت الى البيت … لم أغمض جفني حتى قرأتها كلها، ثم نمت هادئ البال سعيدا سعادة لم أعشها من قبل، سعادة من وجد ضالته الغالية. بعد ذلك راودتني أحلام الإخاء بين الناس وانتفاء الظلم والطغيان والاستبداد والاستغلال. “
مـن نـافـلـة الـقـول أن الدكتور يعـقوب زيادين جـزء من الذاكرة الوطنية الاردنية، وعلم من اعلام النضال في الاردن والعـالـم العـربي
ويقول زيادين ان من ربط رزقه ورزق اطفاله بمؤسسات الحزب (أي حزب) وأمواله لن يستطيع امتلاك القدرة على نقد سياساته الخاطئة ، مضيفا ان استقلاله الاقتصادي ساعـده على المحافظة على موقفه ، وكشف الأخطاء التي ارتكبها بعض رفاق دربه.
وفي الـمـخـيـمـات الـفـلـسـطـيـنـيـة يعـرف الـجـمـيـع أن أبـا خـلـيـل كان يعالج الفقراء مجانا… كـان يصادقهم ويـشـاركـهـم شـظـف الـعـيش…
ويتذكر أبـو خـلـيـل الخيمة التي ولد فيها ، مـشـيـراً الى ان تلك الايام ما زالت منطبعة في ذهـنه حيث الحياة المتواضعة البسيطة، ويقول الى انه عمل كثيرا على مساعدة أهله في تلك الفترة ورعى الغنم لفترة قصيرة.
ويشر زيادين الى انه دخل المدرسة مبكرا … “كانت الحياة صعـبة ، مما انعكس على حياة الناس حيث كان الاطفال يذهبون إلى الـمـدرسـة حفاة شبة عـراة ، ويجلسون على الارض الباردة في الشتاء. كـانـت القـريـة فقيرة جداً، وكان معظم أبناء صفه الصغار، جوعى في معظم الأحيان، يأكلون خبز القمح وخبز الشعير، أو خبز الذرة، وأعـتـقـد أني كـنت الطالب الوحيد الذي يملك رغيفاً من خبز القمح.. ” ويثنى زيادين على والدته الفلاحة الأمية التي شجعـته على الذهاب للدراسة .
وجد الطبيب الشاب عند تخرّجه عملاً في مستشفى “أوغستا فيكتوريا” أو “المطلع” في القدس، فضمن من خلاله مأوىً ومصدر دخل.
أضرب أبـو خـلـيـل مع أطباء المستشفى عن العمل، إثر قرار وكالة الغوث بإغلاق المستشفى، ونجح في النهاية بالتصدي للقرار.
في القدس لم يكفّ أبـو خـلـيـل عن العمل السياسي، إذ ازدادت شعـبـيـته بين المقـدسيّين بعـد التصدي لقرار إغلاق المستشفى، حتى جاءت انتخابات 1956 وفاز فيها عن مقعد القدس إلى جانب خـمسة شيوعـيين .
كانت الاوضاع في الاردن في فترة حكومة سليمان النابلسي الوطنية تبشر بالخير مما أسهم في “رفد آمال الناس بحكم وطني ديموقراطي”، كما يقول زيادين في مذكّراته . في ذلك الوقت، شُكّلت لجان لمكافحة الفساد، وأُجريت المفاوضات لإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، وسُمح للحزب الشيوعي بإصدار جريدة “الجماهير” الأسبوعية… إلى أن أقيلت حكومة النابلسي، وبدأت مطاردة الوطنيين والشيوعـيـيـن، ليقضي يعـقـوب 12 عاماً في المعتقلات الأردنـيـة.
كان معتقل “الـجـفـور” الصـحـراوي الرهـيـب يرمز إلى نهاية العالم. وكـان المعتقل (الذي أقامه غـلـوب باشا ، قائد قوات البادية البريطاني في جنوب الأردن )، يـضمَّ عدداً من الرموز الوطنية: بهجت أبو غربيّة، فؤاد نصّار، منيف الرزّاز، وغيرهم. حـوّله المعتقلون إلى مدينة صغيرة تضم مزرعة للخضار والفاكهة، مراكز للترجمة، ومحاضرات تثقيفية وتعليمية، وعيادات طبية لمعالجة المعتقلين والسجّانين وعائلاتهم.
رحل أبـو خـلـيـل، القائد الاممي المرموق، وفي قلبه غصة وفي نفسه حسرة، جراء تدهور الحال العربي الى الدرك الاسفل، وانكفائه الى عصر الظلمات ، وخذلانه لآمال وتطلعات وتضحيات عـدة اجيال من المناضلين العرب الذين نـذروا حـيـاتـهـم لخدمة امتهم، والدفاع عن حقها في الحرية والتقدم والـعـيـش الـكـريـم.
كان أبـو خليل قائداً بمعنى الكلمة، وقاسماً مشتركاً لتيارات الحركة الوطنية الاردنية التي ما فـتـئـت تـفـقـد رموزها وفرسانها تباعاً، دون ان تقوى على سد الـفراغ.
وداعــاً … أبا خـلـيـل ،
سيبقى مكانك عابقاً بأريج المحبة والوفاء…!
لك الغـار والنـدى …
فالأشجار تموت واقـفـة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد .