د. زاحم محمد الشهيلي
يكثر الحديث عن “الدبلوماسية التقليدية” Traditional Diplomacy واهميتها في تنمية العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية وسبل تطويرها بين الدول والشعوب، وفقاً للاعراف والمواثيق الدولية المتعلقة بالتمثيل الدبلوماسي العالمي التي اتفقت عليها الدول الاعضاء في الامم المتحدة لادامة علاقاتها الثنائية على كافة الأصعدة. ولم تكتف بعض الدول بالنشاط الدبلوماسي التقليدي، وانما دأبت الى تفعيل الحراك الشعبي لتقوية تلك العلاقات وتنميتها مع الدول ذات النفوذ السياسي والاقتصادي المؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية، واطلقت على هذا الحراك تسمية “الدبلوماسية الشعبية” Public Diplomacy.
ووفقا لهذا التوصيف بات من المهم التمييز بين نوعين من الدبلوماسية لفهم وظائف ومميزات كل منهما، فهناك “الدبلوماسية التقليدية” التي تعد الاسلوب الرسمي الامثل المتبع في تطوير وادامة زخم العلاقات الثنائية بين الدول وفق الاليات الرسمية المتبعة، لتعميق التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي فيما بينها، والعمل على فظ النزاعات بين الدول، وجلب الاستثمارات ورؤوس الاموال، والتعرف على ثقافة البلد المُضِيف والتعريف بثقافة وعادات وتقاليد البلد المُستضاف. وكثيرا ما تكون هذه النشاطات محددة ومقتصرة على عدة اشخاص مكلفين رسميا من قبل حكوماتهم للقيام بهذه المهمة بشكلها الرسمي والقانوني المتفق عليه بين اطراف القانون الدولي العام التي تتمتع بشخصيتها القانونية والمعنوية، ومن خلال نشاطات وفعاليات لا ترتق في بعض الاحيان الى مستوى الفعاليات والنشاطات الشعبية.
لذلك دأبت بعض الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة الامريكية، منذ ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي وما تزال مستمرة، الى استقطاب المعارضين السياسيين لانظمتهم واستخدامهم كأداة في زعزعة الامن في تلك البلدان التي تسعى للنأي بنفسها عن سياسات المحاور الاستعمارية واستعباد الشعوب. حيث اطلق الباحثون على هذا الحراك تسمية “الدبلوماسية الشعبية” لتكون موازية للدبلوماسية التقليدية، والتي تعد من الناحية التقليدية نتاجا للنشاطات التي تقوم بها بعض الافراد ومجاميع شعبية من (المفكرين والاطباء والكتاب والفنانين والرياضيين والاعلاميين والطلاب المبتعثين والناشطين المدنيين والمغتربين بكافة اصنافهم) لكسب الرأي العام الخارجي والتأثير به من خلال نقل ثقافة وعادات وتقاليد البلد الذي ينتمون اليه الى الدول الوافدين اليها، والذي يفتح الطريق امام التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي بين المجاميع والشخصيات المُضِيفة والمستضافة بهدف التكامل مع السياسة الرسمية، والتي ينتج عنها بلورة افكار ومشاريع واعمال مشتركة واستثمارات مختلفة يكون لها تأثيرا ايجابيا على ترطيب العلاقات السياسية وديمومة تطويرها لمصلحة الشعبين الصديقين، وكذلك امكانية التوصل الى حلول للازمات التي يعجز السياسيون في بعض الاحيان عن ايجاد مخرجا لها.
لذلك فإن الاغتراب في حياة الشعوب لن يكون بالضرورة حالة سلبية، ابدا، اذا ما تم النظر اليه بايجابية ومن الجانب المضيء، الذي تتحقق فيه المصلحة العامة للشعب والدولة، رغم المعاناة التي يواجهها الشخص أو الجماعة في بيئة الاغتراب البعيدة عن ذكريات الاهل والاصدقاء والوطن، والتي تختلف فيها الثقافة والعادات والتقاليد التي يجب التاقلم عليها والاندماج بها، شريطة ألا يرتق الامر الى حد الانغماس وتمييع الثقافة الام بالثقافة الاجنبية، وانما السعي الحثيث للمحافظة وعدم التفريط بالثوابت الثقافية والدينية الايجابية للشخص المغترب، كواقع حال لا مفر منه الا بالعودة الطوعية الى ارض الوطن الام.
ويكمن سر نجاح “الدبلوماسية الشعبية” ومدى تاثيرها في العلاقات الدولية بثقافة الجماعات والافراد ومستوى وعيهما والتزامهما بالقوانين والانظمة المحلية، واحترام الثقافة الاخرى، والالتزام الاخلاقي في التصرف والتعامل مع الطرف الاخر بالشكل الذي يكون جاذبا له حين يكون مطمئنا تماما على علاقته الصادقة وعلى مصالحه وممتلكاته، لان الثقة في التعامل، وحفظ الامانة، وعدم الخيانة والنزاهة، والالتزام بالقوانين واحترام النظام تعد المفاتيح التي يستطيع الفرد والجماعة من خلالها فتح خزائن الشعوب المادية والمعنوية وتوظيفها لصالحهما من خلال الحراك الشعبي القائم على القيم والمعايير الاخلاقية والمصالح المشتركة بين الشعوب والأمم.
وبذلك يعد كل فرد من الجماعات والشخصيات المغتربة والوافدة بمثابة سفيرا لبلاده، يعمل على تلاقح ثقافتين مختلفتين تماما لينتح ثقافة ذات مزيج منصهر انسانيا وحضاريا، بعيدا عن الصراعات والازمات وويلات الحروب واراقة الدماء، وذات فائدة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعلمية، خاصة اذا ما استغلت العلاقات الانسانية بين المجاميع الشعبية وقريناتها في الخارج بالشكل الصحيح، وتم تنميتها من قبل الدولة من خلال الدعم المادي والمعنوي، وتسهيل اقامة الندوات والمؤتمرات وورش العمل المشتركة التي تصب في مصلحة جميع الاطراف.
ووفقا لذلك، نرى ان تولي دول الشرق الاوسط العربية اهتماما كبيرا وواضحا بـ “الدبلوماسية الشعبية”، وتعمل على تنميتها وتفعيلها من خلال وزارات خارجياتها / دائرة المغتربين بالتنسيق مع بعثاتها في الخارج لايجاد منافذ متعددة للتاثير في علاقاتها على الدول المؤثرة في صناعة السياسة الدولية والمهيمنة على القرار السياسي ومسرح الاحداث العالمي، لكي تستطيع مواجهة التحديات والازمات التي تعصف بالعالم اليوم، والتي سوف لن تتوقف أو تنتهي في المستقبل.