الخوف ذلك الشعورالمدمر الذي يرافقنا .
من منا لا يعيش على أيقاع الخوف الذي يحاصره من كل جانب ؟؟؟؟
مغرور جدا من يجيب بالنفي ويجزم بأنه سليم معافى من هذا الحصار الخطير الذي يسمم حياتنا ويمنعنا من العيش في سلام وطمأنينة واسترخاء .
والخطورة الكبرى أننا استبطنا هذا الخوف وغدا مرافقا لنا في الكثير من مهامنا اليومية بدون حتى أن ندرك ذلك .
الخوف من سطوة الطبيعة :
يخاف الإنسان عموما والبسيط بشكل خاص من أهوال الطبيعة حيث لا يملك بعد أدوات مواجهتها بالشكل المطلوب ، فالإنسان قزم أمام عناصر الطبيعة وتحولاتها المستمرة مهما كان مجتهدا في ابتكاراته واختراعاته العلمية للتحكم فيها .
ذلك أن أنظمة الأمان والتأمين تصاحب الإنسان العصري أينما حل وارتحل : فكلما ركبنا الطائرة كان أول تحذير تنبيهنا إلى شروط الأمان في حالات الخطر الذي قد يداهمنا في كل وقت وحين .
وتشكل اوراق التامين على السيارات وثيقة إجبارية لا يمكن لحركة السير الدؤوبة ان تتم بدونها .
وتكفي اطلالة بسيطة على شبابيكنا وشرفاتنا وحتى أبواب شققنا ومختلف “مساكننا” المسيجة بالحديد للحماية من اللصوص لتعبر عن مستوى الإحساس بالأمان داخل بيوت لم تعد تستحق اسم مسكن إذ تغيب منها السكينة أو على الأقل تحضر في أدنى مستوياتها .
ثم هل يستطيع اي منا تسليم بيته في غيابه لأي صانع للقيام باي اصلاح في ثقة و طمأنينة ؟؟
بل حتى حضور المعني بالأمر ومواكبته لعملية الإصلاح بنفسه لا تعفيه من هاجس السرقة المحتملة بموازاة الإصلاح الجاري فكل غريب يدخل البيت
يبدو سارقا محتملا أو مصدرا لشر آخر سواء كان صانعا أو خادمة أو حتى زائرا لا نعرفه حق المعرفة ومن هنا فالكثيرون منا يسيجون ليس فقط ابواب منازلهم بل ايضا علاقاتهم الاجتماعية إلى أبعد مدى .
وتعبر شروط الجيرة في الأحياء المسماة بعصرية على أقصى درجات التسييج الاجتماعي لدرجة أصبح الجار لا يعرف جاره ، يصعدان معا في نفس السلالم أو المصعد ولا يتواصلان ولو بالسلام عليكم إلا قليلا .الكل يحث على” التيقار” بين نكرات يتنكر بعضها للبعض حتى وإن اقتسمت نفس الجدران والماء والهواء والذبذبات المتفاعلة في اتجاه التباعد وحتى التنافر أحيانا .
تخيلوا أن تتكون العمارة من 20 شقة مفروشة بشكل مريح ومع ذلك يجتمع
أعضاء مايسمى ب”السانديك” في ممر العمارة واقفين او خارج العمارة اصلا او حتى بالمرآب مما يجعل النقاش غير مريح وغير فعال أصلا,
أو ليس هذا قمة البؤس الإنساني ؟؟؟
لاشك أن كل واحد من هؤلاء يخاف شيئا ما أي شرا ما يعوق استضافته لجيرانه
حول صينية شاي تسهل مأمورية مناقشة مشاكل السكن المشترك مثلما كان يفعل آباؤنا وأجدادنا فتحل المشاكل من تلقاء نفسها ببركة تقاسم العيش والملح والتضامن في السراء والضراء ككتلة لايمكن تجزيئها مهما حدثت الخلافات .
لماذا تسيطر فرضية الشر على غيرها فتسمم العلاقات بل تخنقها ؟؟
لماذا ينطلق الإنسان المتمدن من فرضية أن الجحيم هو الآخر فيعزل نفسه في قوقعة قابلة للانكسار أمام أول ارتطام مع صخرة المفاجآت غير السارة داخل
عزلة بائسة قد لا يجد من يؤازره فيها غير أهله الداخليين إن وجدوا أصلا وإن كانت العلاقات الداخلية متماسكة بالشكل المطلوب ؟؟
داخل بيوت المتحضرين جدا جدا يهيمن هاجس الخوف من الجراثيم والامراض
لدرجة يغدو هذا الهاجس أكبر جرثومة تسمم تلقائية الحياة ،ومن ثمة يتم التعامل مع الآخرين الغرباء أو المختلفين اجتماعيا كحاملي جراثيم محتملين ، إذ يتم اختزال الآخر لكائنات حاملة للفيروسات وحتى تحيتهم تتم بتقتير وبكثير من الاحتياطات مثلما فعلت الفنانة “نانسي عجرم ” وهي ترد التحية على من حاول التقرب منها من بين رواد موازين المارقين عن قرار المقاطعة الشعبي بتقزز وحركات مريبة وامثال هذه المخلوقة موجودون في كل المجتمعات ككائنات طفيلية على الجنس البشري تقتات على احتقار الآخرين لأنها فقيرة لللأمان الداخلي جملة وتفصيلا. ( حدث ذلك قبل ظهور كوفيد وكتب هذا المقال قبل هذه الفترة )
وهاهو الفيروس كوفيد يأتي ليزج بكل المجتمعات نحو بحار الخوف كي تتلاطم
البشرية بأمواجه الخبيثة ، فتضخم خطابات التحذير والتخويف أتت على ما تبقى للناس من هوامش الأمان إلا من رحم ربك
ولاشك أن الهاجس من المرض لدى بعض الفئات يترجم لإفراط في التنظيف والتعقيم للأماكن والألبسة والأكل والأشياء و يخلق حواجز إضافية في عمليات الفرز العلائقي ,,,,بل يلجم حرية الحركة والتعامل لدى البعض قد تتجاوز السقف المطلوب لضمان الحد الأدنى من حياة شبه عادية
الخوف من الكائنات الخفية :
وتعبر ثقافتنا الشعبية المتداولة عن خوف عميق جدا من “الشيطان ” ، ذلك أن خطاباتنا اليومية مثقلة “بلعن الشيطان ” فنحن نستحضره في أدق تفاعلاتنا بكل أنواعها ,,,,
و بنفس الصورة يغدو خصمنا أو عدونا شيطانا نحمله وزر سيئات أفعالنا أو وزر كل الأحداث السلبية التي تضر بحياتنا العامة محيطين إياه بقدرات خيالية في إنتاج كل أنواع الشرور حتى وإن كان مجرد شخص له محدوديته البشرية ككل الناس .
ذلك أن كل سيئات العالم العربي سببها “إسرائيل ” وحليفتها أمريكا تارة أو أية قوة خارجية يمكن أن تلعب دور العدو الذي يعطيه إياها الحاكمون لتصدير التوتر الداخلي إلى الخارج .
وغالبا ما تعتبركل سيئات المجتمع داخليا سببها الحكومة المكونة أصلا من أشرار يحكمون شعوبا طيبة الأعراق ، حسب نظرية المؤامرة التي تفسر كل شيء مهما كان بمعادلة واحدة و وحيدة,
مثلما أن كل مشاكل الحاضر تفسر بالماضي او بمسؤولية المستعمر او الأعداء الخارجيين الذين يحسدوننا عن الازدهار المحقق و هلم جرا,,,,
وداخل البلد يغدو خصم ما مختزلا لكل الشر حيث تنسب له كل الأفعال الشريرة مخرجين إياه من محدودية “البشر” إلى كائن خرافي لا شغل له إلا الإضرار بالملايين من البشر بفعالية عجيبة مثلما قد يحدث ما بين الحين والأخر مع إحدى شخصيات الشأن العام التي
يلبسونها لباس “الشيطان الرجيم ” وتبدأ عملية الرجم بالكلام العنيف والسخرية والتهويل وو عبر صفحات التواصل الاجتماعي أو النكات أو ,,,,
فالشيطان عندنا كائن متعدد الأوجه وله حيوات متجددة ،فرغم أنه يرجم كل سنة من طرف الحججاج المسلمين بمكة ،فهو يجد طريقه إلى الحياة من جديد عبر مخيالنا الخصب ,,,,ومن لا يستطيع الذهاب لمكة صنع شيطانه ورجمه رجما بطريقته ,
يخاف الكثير من الناس أيضا من كائنات خفية لا نراها ولا ندركها يفترض أنها تسبب
الكثير من الأضرار لبني البشر الجميلين والناجحين فيحصنون أنفسهم بالأبخرة والتعويذات
والأدعية , ولولا هذا الخوف الجبار المستبطن في أفئدة الملايين من الناس عبر تنشئة على الرعب لما انتعش المشعوذون غنى وترفا وتفننوا في إيجاد أساليب النصب والاحتيال ,
الخوف من المستقبل:
ويحتل الخوف من المستقبل مكانة مهمة تجعل الجميع يهجر حاضره لتهييء مستقبله في هذا الجانب أو ذاك وقد يتم الأمر بشكل لا يخلو من إفراط هنا وتفريط هناك ,,,ذلك أن القليل من الناس فقط يعرف كيف يعيش هنا والآن خارج هذا الركض في الزمان والمكان بلا بوصلة حقيقية اللهم إلا دافع الخوف من الغد ومحتوياته المفاجئة .
الخوف من المجهول:
أغلبنا يخاف من الآخر المختلف عنا ثقافيا أو حتى اجتماعيا ,يخاف الغني من حقد الفقير و تمرده ويخاف الفقير من استعلاء الغني وجبروته .
الخوف ما بين الحاكم و المحكومين :
يخاف الشعب من بطش الحاكم وجبروته فيمعن في التملق و التذلل وإعلان الولاء بمناسبة وبدون مناسبة . ويهدي المتفوقون منهم انتصاراتهم في الكرة أو الفن أو أي مجال للحاكم الأله الذي يتماهى مع أوصاف الله الحسنى في وجدان الناس ولا أحد غيره يستحق الأفضل وكل أوجه النجاحات وفق الصورة التي صاغتها أجهزة الإعلام الاستبدادي ومشتقاتها ,,,
ويحرص بعض المتكلمين باسم الشعب على التأكيد على ولائهم للحاكم حتى وإن كانت جرأتهم تهتم بموضوع لا يعنيه مباشرة ، إنها التعويذة ضد الخوف لعل اللسان ينطلق من فرط الرعب من الأشباح الخفية التي تصادر الحق في الكلام خارج المتحكم فيه .
وماذا عن الحاكم الأله في بلدان الاستبداد ؟؟ هل هو فعلا بتلك الصورة من القوة التي يصدرها للمحكومين عبر إعلامه وكل ترسانات الحكم الحاملة لرموز القوة والجبروت ؟؟
يحرص كل الحاكمين على تطويق أنفسهم بترسانات دفاعية وأمنية جد قوية بشريا ولوجيستيكيا فيبدع خبراؤهم في صناعة الأجهزة المختلفة يتجسس بعضها على البعض الآخ رلضمان أمن لايشعر به حتى من يشتغل في مجاله ، وحتى عمران القصور والفلل ذات الجدران الفارهة والفاخرة في قوتها وزخرفتها بالإضافة إلى فنون البرتوكول تهدف إلى تصدير صورة يراد تسويقها للرائي وصناعة “هبة تليق بمن يسوس ملايين البشر في بلده أو حتى خارجها أحيانا مثل حكام البلدان العظمى, فالهندسة والعمران أحد تجليات السلطة والجبروت والقوة حسب تمثلات كل مجتمع في فترة ما ،تبعث لدى الرائي مشاعر التهيب الذي قد يصل للخوف والانكماش وو
والمفارقة أن أولئك الذين يسوسون ملايين البشر لا يمكنهم بتاتا التجول بين الناس ككل الناس ، ولا حتى أن يمارسوا رغباتهم البسيطة ككل البسطاء الذين يعيشون في تلقائية بخيرها وشرها .
المشاهير عموما و الحكام خصوصا يخافون أيضا من تجاوزات من يعتبرون “عامة الناس ” يخافون حبهم أو إعجابهم المفرط وحتى كراهيتهم المفرطة التي قد تتحول لعدوانية إذا ما تعروا من حماتهم الذين يصبحون مثل ظلهم .
المشاهير والحكام محرومون من حرية الحركة ويخافون من كل شيء , يخافون ممن يترصد أخبارهم وصورهم الحميمة ، يخافون على تلك الأسرار الخاصة التي يشهرها عامة الناس على بعضهم البعض أينما حلوا وارتحلوا فيفرغون شحنتها النفسية ويشعرون بالخفة بعد التخلص منها ,
أما أولئك الكبار بدرجاتهم فلا حق لهم في أفشاء أسرار قد تلطخ تلك الصورة غير البشرية “التي صنعتها لهم ترساناتهم المختلفة فجردتهم من الحق في العيش بعفوية ككل الناس ,
وقد يكون “حرمان النجوم و المشاهير أكثر وقعا من أنواع الحرمان التي يعيشها العامة في الأمور المادية , ووضعية هذه الفئة جد هشة إذ يتعرضون لكل أنواع الاستعمال غير السليم لشهرتهم سواء من طرف السياسيين أو من الفئات الاجتماعية الأخرى وقد يؤدي بعضهم ثمنا باهظا لهذه الشهرة على حساب أمانه الداخلي ,
الخوف من العقاب الاجتماعي: ,
يخاف أغلب الناس على صورتهم لدى الآخر فيلبسون أقنعة تتلاءم و انتظاراته كي لا يحكم عليهم سلبيا ,ويغدو الأمر كاريكاتوريا في المجتمعات التي لا تسمح بالحريات الفردية والحق في الاختلاف عن الغالبية في هذا المجال أو ذاك فينصهر الجميع في آليات النفاق الاجتماعي أو المجاملات الاجتماعية بدرجات متفاوتة حسب قوة الشخصية أو شروطها الاجتماعية ,
ومن ثمت قد تفرض علينا شروط المجاملات الاجتماعية أن نتصرف بهذا الشكل أو ذاك
تفاديا لتوترات ناتجة عن عدم تقبل الاختلاف في الرأي أو السلوك ,,,,,
ومن هنا يكون الخوف مرافقا للجميع مهما كان مستواهم ، وقد يغدو رعبا في المجتمعات التوتيلارتية أي الشمولية في معتقداتها وقيمها و اختياراتها السياسية .
الخوف من فقدان المكانة الاجتماعية :
يخاف الغني من الانحدار إلى مستوى أسفل لذلك فهو يجتهد بكل الأساليب للحفاظ على تفوقه ومكانته في السوق وفي المجتمع فيتحول ركضه إلى جشع يقضي على سكينته الداخلية إذ لا يرتاح إلا وهو يلتهم كل ما توصلت إليه يداه خصوصا إذا غابت القوانين المنظمة للتوازنات المجتمعية وتتوأمت سيادة المال والسلطة لتلجم ما تبقى من مؤسسات بسلاسلها اللعينة ,
ويخاف الفقير من عدم القدرة على تلبية حاجياته الأساسية له ولأسرته لذلك فهو يتحمل
ضنك العيش ومصاعبه في التنقل وفي الشغل مواجها الاستغلال بالخنوع خوفا من فقدان الشغل إن وجده أو تذللا لدى من يملك المال لعله يجود عليه من باب الشفقة والإحسان ما يضمن بقاءه على الحياة
الفقر المذقع والغنى الفاحش كلاهما وجهان لعملة واحدة ،يلازمهما الخوف المستمر وتكون نتيجتهما فقدان جزء هام من آدمية الإنسان .
الخوف عبر التنشئة :
يخاف الطفل من سلطة أبويه الذين يسيرانه حسب أمزجتهم واختياراتهم في الغالب و التلميذ من الأستاذ وانتقاماته المحتملة في التنقيط ويخاف الموظف من رئيسه والرئيس من تمرد مرؤوسيه .
نخاف جميعنا من الموت التي لا نملك تجاهها اية حيلة ، فيسعى خبراء الصحة والتغذية
وعلماء النفس والروح لاستثمار هذا الخوف لبيع بضائعهم من أجل إطالة العمر ما أمكن
أو الموت بسلام في أحسن الأحوال .
نخاف ما بعد الموت ، من أله جبار عنيد يهييء للأشرار منا “عذابا في القبر” و جهنم بدرجاتها البئيسة وبئس المصير .
أما الطيبون منا فيجعلهم خوفهم يختارون العبادة والأعمال الخيرة التي قد تؤهلهم للولوج
للجنات بأنواعها ,,,
لايمكن حصر لائحة للأشياء والأمور التي نخاف منها إذ نخاف حتى من أنفسنا ،أي من
نزوعاتنا التي قد لانتحكم فيها,,,,,ألا يقول “الفقيه اللهم احمنا من سيئات أعمالنا “؟؟,
وعليه فنحن نتعايش مع الخوف في أبسط تجلياته أو أخطرها حسب شروط عيشنا وحيثياتها
الذاتية والموضوعية ولا خيار لنا إلا محاولة تدجين هذا الشعور المدمر بما نملك من آليات نفسية وروحية تجعل العيش في بحبوحة السكينة والطمأنينة ممكنا ولو نسبيا وهذا في حد ذاته تحدي يومي يفرض نفسه على الكثير من الواجهات ولا نتحكم إلا في بعضها ,,,
ذلك أن نمط العيش “العصري” يفرض علينا الكثير من شروطه المسممة للعيش الطبيعي ،
ومن ثمة قد يغدو الرجوع للعفوية والبساطة والعدالة و لقيم المحبة والتعاطف عوض النهم للمال والسلطة مطلبا إنسانيا لاسترجاع جزء من إنسانيتنا المهدورة من فرط الخوف المركب .
عائشة التاج . الرباط