الدكتور زاحم محمد الشمري
تزخر الحياة الاجتماعية للافراد بالكثير من المشاكل نتيجة الاختلاف في الراي والرؤى حول بعض الامور والقضايا العامة والخاصة التي ربما تكون مصيرية في تحديد مستقبل عوائل وافراد تربطهم مواثيق وعلاقات اجتماعية انسانية مشتركة كالعلاقة بين الزوج والزوجة اللذان يرعيان النواة والخلية الصغيرة المكونة للمجتمع الإنساني وهي الاسرة. ومن الطبيعي ان تتباين اراء الزوجين حول موضوع او قضية معينة، وهذا يعني عدم وجود رأي موحد لهما في قيادة مسيرة الاسرة وتحديد مستقبلها الذي ينعكس بالسلب او الايجاب على تربية الابناء ودورهم في الحياة الاجتماعية متعددة الجوانب. ولذلك يعد اصلاح الاسرة الطريق السالكة لاصلاح المجتمع وتوجيه ابناءه نحو التطور والرقي الثقافي والعلمي في جميع المجالات.
وقبل الخوض في مسلمات الموضوع لابد من الاطلاع على بعض الاسئلة التي تُطرح باستمرار من قبل الباحثين في مجال علم النفس التربوي والمهتمين بشؤون الاسرة، والتي منها: هل من الطبيعي أن يُظهر الآباء والأمهات خلافاتهم أمام أطفالهم؟ وهل للخلافات الزوجية أثر على تربية الأبناء وعلى اكتمال نضجهم النفسي والعقلي واستقرارهم العائلي والاجتماعي؟ وما هو تأثير بيئة الاغتراب على تربية الاطفال وثقافة الاسرة بشكل عام، وكيف تكون ردود الافعال؟ موضوع نطرحه ونحاول مقاربته من الناحية النفسية والسيكولوجية حسب آراء الباحثين في علم النفس التربوي.
ما يتعلق بحسن التنشئة للاطفال يقول الباحثون في فقه الأسرة بانه ينبغي على الزوجين أن يراعيا حسن التنشئة والتربية السليمة لابنائهم من خلال التوافق على منهج موحد في التعامل معهم، والاختيار المشترك لما يناسب اعمارهم من ألعاب وبرامج ترفيهية، وما يشاهدونه في القنوات، أو يتعاملون معه في مواقع وصفحات الإنترنت وغير ذلك، لأن المسؤولية هي حسبة مشتركة بين الزوجين، وكما قال رسول الرحمة (صلاة الله عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين) في حديثه الشريف في موضوعة الاسرة الذي تطرق اليه عدد من الباحثين: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها … الى اخر الحديث”، والذي حَمل مسؤولية رعاية الأسرة واستمرارها وتنشئة أفرادها للزوجين معاً.
وهذا الامر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى ثقافة الزوجين ووعيهما وأدراكهما لموضوع تنشئة الابناء بشكل صحيح بمنعزل عن الرغبات الشخصية المتعارضة من ناحية الادراك العقلي والفكري والغريزي التي يحددها التباين الثقافي والعلمي ومدى التفاهم بينهما. لذلك تعد الخلافات الزوجية من المواضيع الخطيرة جداً التي لا تعي إليها كثير من الأسر، وخاصة الآباء، الذين يناقشون في كثير من الاحيان مشاكلهم ويتشاجرون أمام الأطفال، متجاهلين الآثار السلبية التي يمكن أن تنعكس على نفسية الطفل جراء هذا التصرف اللامسؤول، لانه عندما يتشاجر الآباء، وعندما يختلفون في بعض الامور ويتصرفون تصرفات غير لائقة أمام الأطفال، يعد ذلك في نظر الباحثين تكريساً للسلوكيات السيئة من قبل الأبوين، وعليه يبدأ الأطفال يقلدون أبائهم في هذه السلوكيات أيضا، وقد تؤثر في سلوكياتهم عند الكبر حين يعملون على اعادة انتاجها ضمن معترك الحياة الاجتماعية التي يعيشونها في تلك اللحظة، حيث يعتقد بعض الآباء واهمين بعدم نباهة الطفل لهذه الامور، ولا يبالون بمثل هذه السلوكيات التي يصفها علماء الاجتماع بالخطيرة، معلقين بالقول: «ولكن هذا خطأ كبير جدا، لأن كل الدراسات في التربية، وفي علم الاجتماع، وفي علم النفس، التي تهتم بالسلوكيات عند الأطفال، وكذلك بالتصرفات والعلاقات بين الآباء والأبناء تلح وتركز وتثبت هذه المسالة، وتعتبر أي سلوك سواء كان ايجابي أو سلبي، ينعكس على الأطفال ويقلدونه في الكبر»، ولذلك يؤكدون على الآباء أن يتصرفوا دائما بحذر، وتكون تصرفاتهم ايجابية ومتوازنة أمام الأطفال، «لأن لاشيء يفلت لذكاء الأطفال في هذه الأمور».
ويتفق علماء النفس والاجتماع على أن السنوات الأولى هي الاساس في بناء وتكوين شخصية الطفل، وعليه تتسم بالاهمية والخطورة معاً، والتي يجب ان يعي اليها الآباء في حراكهم التربوي مع الطفل من خلال دقة التعامل مع هذه المادة اللينة في صناعة وانتاج شخصيته الإيجابية المبنية على القيم الإنسانية والروحية والطموح والتطلع الى الأفضل، بحيث لا نستغرب او نتكاسل في الاجابة حين نرى الطفل يكثر في طرح الاسئلة لمعرفة بعض الامور الغامضة عليه، وان نحاول جاهدين إرواء عطشه للعلم والمعرفة، وبهذه الطريقة نكون قد رسخنا مفاهيم التربية الصحية بشكل أكبر وأعمق وجنبناه قدر الامكان الميول الى الانحراف المليء بالمساويء، وكما نرى اليوم ما يجري من شذوذ لدى الشباب المراهق في مجتمعات الشرق الاوسط وخاصة العربية منها.
حيث يقودنا الحديث عن هذا الموضوع للتطرق الى مسألة كيفية تكوين العلاقة الزوجية الصحيحة بين الرجل والمرأة وحسن الاختيار بالنسبة للطرفين قبل الشروع بقضية الارتباط (الزواج) من ناحية الفهم وقابلية استيعاب الأخر والتفاهم المتبادل والتعليم والثقافة المتوازية والشعور في تحمل المسؤولية المشتركة في تنشئة الاسرة، والتي يجب ان يحسب حسابها بشكل دقيق بحيث لا يشعر احد الاطراف بالغبن وتحمل المعناة والمسؤولية لوحده وبالشكل الذي نحافظ فيه على توازن سفينة الاسرة التي تسير في بحر الحياة ذو الامواج المتلاطمة نتيجة العواصف العاتية لمجمل المشاكل والعلاقات الاجتماعية، لان الطفل في السنوات الاولى بحاجة الى قدوة ومثال يقتدي به قبل ان يبصر الحياة بشكل حقيقي، وبذلك يكون الآباء النموذج الاقرب والاصلح والجدير بالثقة المطلقة بالنسبة له، فيحاول جاهداً التعلم منهم ما أمكن وتقليدهم في كثير من الامور الخاصة والعامة.
وعليه نستطيع القول بان هناك مميزات كثيرة تساعد الآباء على تنشئة الطفل بصورة صحيحة في هذه المرحلة العمرية وهي طاعة الطفل وسماع وتنفيذ ما يقال له من قبل الآباء والمربين، ومحاولته تقليدهم، لانه يعتبرهم محط للثقة ولا يشك في تصرفاتهم وآرائهم ومقترحاتهم التي يملونها عليه بسبب انعزاله نوعاً ما عن المحيط الخارجي لجو الاسرة الذي يساعده على المقارنة والتميز بين سلوك وتصرفات الآباء. ولذلك يجب على الآباء أن يقدموا للطفل معلومات وارشادات متفق عليها مسبقاً وغير متناقضة، حسب رأي العلماء والباحثين في علم الإسرة، اي أن لا يأمر الأب مثلاً الطفل للقيام بعمل معين وتنهاه الام عنه، ولكل واحد منهم مبرراته وحججه التي يحاول ان يقنع الأخر بها ويصر على أن يقوم الطفل بتنفيذها، ومن هنا تنطلق المشاكل وتختلط الاوراق على الطفل ويفقد توازنه الفكري والتركيز في التميز بين الخطأ والصواب. وهذا خطر كبير على تنشئة وتكوين شخصية الطفل بشكل صحيح، والذي ينعكس سلباً على نظرة الاطفال لآبائهم.
حيث نلاحظ أن هناك بعض الآباء أو الأمهات ممن يتساهلون كثيراً مع الطفل من الناحية التربوية حين يرتكب بعض الاخطاء وفيما يتعلق بالواجبات المدرسية وتصرفاته داخل البيت والمدرسة، أو محاسبته بشكل صارم خاصة عند تكرار الخطأ او الاهمال في انجاز الواجبات المدرسة، وهذا الامر يجعل الطفل ميالاً الى الذي يتساهل معه ويسامحه ويظهر له نوع من المحبة والتملق أكثر نفاقاً، وهذا امر خطير جداً، وعليه يجب ان يكون هناك تفاهم وتوافق فكري وقيمي تربوي بين الزوج والزوجة ولا يظهرا مختلفين ومتخاصمين من ناحية طرح وجهات النظر والاراء والمقترحات الخاصة بتربية الطفل وكيفية تنشئته على القيم الانسانية السليمة التي تجعله طموحاً ومنتجاً في المجتمع وبعيداً عن العنف واللامبالاة.
لا نستطيع ان نجزم بالقول باننا نعيش باجواء الإسرة المثالية وانه لم تكن هناك مشاكل قد تكون مستمرة بين الزوج والزوجة سببها عدة عوامل منها: اللامبالاة واهمال احد الطرفين للطرف الآخر من ناحية العشرة الزوجية، التباين في الادراك والوعي التربوي والانساني، التعليم والتباين الثقافي، مدى الشعور بالمسؤولية والحرص على مستقبل الأسرة، والتزامات العمل، بالاضافة الى العوامل الاقتصادية التي غالباً ما تكدر جو الاسرة وتؤدي الى انحراف ابناءها خاصة في المجتمعات الشرقية التي تتحدث بموضوعة الرعاية الاجتماعية والاصلاح الاجتماعي ولا تطبقه ليصبح حبراً على ورق. لذلك يحذر الباحثون في الطب النفسي التربوي الآباء من اظهار مشاكلهم وخلافاتهم أمام الأبناء ومن أن يكون الاطفال ضحية للخلافات والمشاكل بين الزوج والزوجة من خلال استخدامهم في هذه القضية أو تلك لترجيح احدى الكفتين على الاخرى. لان وصول الاختلاف بين الزوجين الى حد الصراع والخصومة يؤثر بشكل مباشر على تنشئة الطفل وتركيبته النفسية بسبب اذكاء الشعور لديه بوجود خلل وانعدام الثوابت والمعايير في المنظومة الكونية للإسرة المتمثلة بإدارة الآباء التي تحدد المسارات الصحية في حياة الأبناء. فحين يكون هناك خلل في ثوابت المنظومة الكونية للإسرة يصبح كل شيء عند الطفل مقبولاً وغير مقبول،مما يعطيه الفرصة للاختيار الذي يفتقر الى الأسس والمعايير الصحيحة التي يستند عليها في تحديد الخطأ والصواب، وهذه الحسبة انعدمت في اسرته التي كان يؤمن بانها مصدر الثوابت والقيم الانسانية.
ففي أحيان كثيرة تساهم الخلافات الزوجية في افساد عملية تنشئة الطفل بشكل سليم، والتي يجب أن تكون وفق منطلقات بناء الشخصية التي يتوفر فيها عاملي الاستقرار النفسي والاجتماعي اللذان يؤهلانه الى الاندماج في المحيط البيئي الاجتماعي وبما يخدم المصلحة العامة للامة والشعب. حيث تؤثر الخلافات الزوجية بشكل مباشر على الدور الريادي المؤسساتي الذي يجب ان تلعبه الاسرة في مجال وضع الانظمة والتشريعات القانونية التي ترفع من شأن الاسرة ورقيها وبما يتناسب ودورها الحضاري التاريخي المميز الذي لم تستطيع المؤسسات غير الحكومية القيام به، ولذلك تعزى مشاكل الكثير من المجتمعات وخاصة الشرقية منها الى غياب دور ووظائف الاسرة ورسالتها الانسانية والتربوية في المجتمع يقابله الاهمال الحكومي لهذه المؤسسة الصغيرة التي تمثل نواة بناء المجتمع، فاذا صلحت صلح المجتمع والعكس بالعكس.
ويذهب الباحثون وعلماء النفس التربويون في تحليلاتهم لواقع الاسرة الى ابعد مما تفرزه المشاكل بين الزوجين وانعكاساتها على تنشئة الطفل، حيث يعتبرون الآباء نماذج قدوة للاطفال، ويصرون على ان لا تتغير صورة القدوة في ذهن الطفل خاصة وهو في طور بناء الشخصية في الربع الاول من عمره، ويعدون الاختلاف بين الزوجين في تصرفاتهم وفي مناقشة بعض الامور او مجملها بمثابة خلل يصيب البناء السيكولوجي العام للطفل في الوقت الذي يكون فيه الطفل بامس الحاجة للتعلم، ويكون الاباء بالنسبة له مصدر المعرفة الموثوق بها من قبله، الامر الذي يجعل السلوكيات المتناقضة والاختلافات والصرعات بين الآباء ان تكون مصدر قلق للطفل الى درجة انه ربما يضل الطريق ويتيه في معترك الحياة المضطرب دائماً في بعض المجتمعات، وتجعله ميالاً للشغب والعنف الكثير وعدم الهدوء والحركات المزعجة للآخرين في البيت والمدرسة، ويعزى ذلك الى انعدام وجود المرجعيات القادرة على استيعاب وتوجيه الطفل في هذه المرحلة العمرية الحرجة، حيث يترتب على ذلك فقدان الطفل للاسس التي من الممكن ان يستند عليها في اختيار سلوكياته وتصرفاته والدقة في التمييز واتخاذ القرارات التي تحتاج الى المرجعية الرشيدة، وعليه يمكن القول بان ما يرافق تنشئة الطفل من سلبيات سببه المشاكل المتكررة ووجود تناقضات كثيرة في سلوكيات وتصرفات الآباء، التي تنعكس بشكل مباشر على نفسية وراحة الطفل.
ومن ابرز الكوارث الانسانية التي قد تعصف بكيان الاسرة والطفل وتهدد وجودهما الاجتماعي خاصة في المجتمعات الشرقية هي انفصال الزوج والزوجة (الطلاق) نتيجة استمرار المشاكل وتعقيداتها، حين يرى الطرفان بأن الانفصال هو السبيل الاسلم لتفادي وقوع حوادث العنف الاسري بين الزوجين رغم معرفتهما الاكيدة بنتائجه السلبية والوخيمة على الاطفال حين يفقدون حنان الام والاب ويصبحون شبه مشردين بلا مأوى وعرضة للانتهاك والانجراف والانحراف. وبذلك ستبقى لعنة سوء التصرف وعدم الانصياع للآخر وخراب الاسرة وتدمير مستقبل الطفل تلاحق الآباء اينما حلوا وحطت راحلتهم، وربما ستقود الى الندم الكبير وجلد الذات الذي يؤثر بشكل مباشر على الحالة النفسية للام رغم خلاصها من مشكلة ربما تكون مستعصية في نظرها اسمها الرجل، الذي يعد في نظر الباحثين ضحية ايضاً من بين تلك الضحايا. وهنا يجب تحكيم العقل لتفادي المشاكل.
إن كثرة المشاكل بين الزوجين وتراكمها واصرارهم على الاستمرار بها وبقاءها دون حل لاسباب تتعلق بالكرامة والتحدي للآخر يجعل الطفل ضحية لنتائجها، وعليه يحمل الباحثون الآباء المسؤولية الكبيرة تجاه ما يصيب اطفالهم جراء التعصب واللامبالاة والعبث بمستقبل الاسرة. لذلك فان عدم توحيد المواقف والابتعاد عن المشاكل التي من شأنها ان تقوض العلاقة الانسانية بينهم وبين الاطفال، والتي من الممكن ان تقود الاسرة الى التفكك وضياع الاطفال في خظم معترك الحياة الاجتماعية خاصة في البلدان المتقدمة، وكما نراه يحدث مع بعض العوائل العراقية والعربية في بلاد المهجر بسبب عدم انسجام الزوجين نتيجة لظروف الحياة الاجتماعية المختلفة ومنها الاختلاف والتفاوت الثقافي ومستوى النضج الفكري والفارق العمري الكبير بين الزوجين الذي اضحى يلعب دورا كبيراً ومصدراً للمشاكل حين يتصور الزوج واهماً بان الهدف من الزواج هو انجاب الاطفال فقط بعد فشل زواجه من المراة الاجنبية، بعدها يتم هجران الزوجة حين يقل عطاءه وهي في ريع شبابها وبحاجة الى من يملي حياتها حتى ولو بكلمة جميلة تطيب خاطرها خاصة وهي تعيش ضمن محيط عادات وتقاليد المجتمع المنفتح، وحينها يُفتح باب المشاكل على مصراعيه، والتي تنعكس بشكل مباشر على نفسية الطفل حين يبدأ يقارن حياته العائلية غير المنتظمة والمنضبطة مع حياة اقرانه من الاطفال الاجانب في الروضة والمدرسة، ومن هنا تنطلق المأساة وتبدأ رحلة الشروع بالشذوذ والضياع لحياة ومستقبل الطفل.
لذلك يشدد الباحثون على ضرورة أن يكون هناك نوعاً من “الانسجام والتفاهم والتقارب والتعاطف” بين الزوج والزوجة الذي يؤدي بالنتيجة الى حلحلت الكثير من المشاكل والتوافق قدر المستطاع في الافكار والآراء التي تعني بتربية وتنشئة الاطفال، بحيث يكون جهدهما موحداً وبيناً تتسم وسائله بالوضوح وبالشكل الذي يقلل من الاختلاف والخلاف في النهج والرؤى ويقوض النزاع بين الآباء. وقد يختلف الآباء في بعض الامور والقضايا حسب وجهة نظر الباحثين، ولكن يجب ان يتم بمنعزل عن مدارك الاطفال.
وحين يدخل الطفل بالمرحلة الثانية من عمره التي تسمى بمرحلة المراهقة، يقوم الطفل بأخذ المعلومات الكافية ويتعلم من المنزل والمدرسة. وفي هذه المرحلة تتم مسألة إعادة النظر في كثير من الامور والاشياء التي تعلمها الطفل في الصغر محاولاً بناء شخصيته وفقاً للمرحلة العمرية التي يعيشها، حيث لا تؤثر الخلافات بين الآباء بشكل كبير على الطفل في هذه المرحلة، حسب الباحثين، خاصة اذا كانت الخلافات مدحوضة بآراء منطقية وافكار وحجج دامغة تساعد الطفل على الاختيار الصحيح وتعلمه على اسلوب الحوار الناجح مع الاخرين. وتعد هذه المرحلة فترة زمنية متقدمة في حياة الطفل تختلف نوعاً ما عن المرحلة المبكرة التي يكون فيها بامس الحاجة الى المرجعيات المتمثلة بالآباء القدوة وطروحاتهم الايجابية البعيدة عن المشاكل، حيث يعزو الباحثون في مجال علم الاسرة المشاكل والتعقيدات الحالية التي تظهر في حياة الطفل وخاصة في السنوات الاولى الى فقدانه لتلك المرجعيات التي يجب ان تتوفر في محيط تواجده سواءً في البيت او من خلال الوسائل التربوية الاخرى كوسائل الاعلام والمدرسة التي ترسخ لدى الطفل القيم والمفاهيم الصحيحة منذ الصغر لكي يكون في منأى عن المشاكل المثمثلة بالعنف المدرسي والسلوكيات المشينة وغير الصحية للاطفال والمراهقين، وعليه فان الآباء والمرشد التربوي هم ممن يتحمل المسؤولية في كل هذه الامور.
لذلك من الواجب على الآباء أن يُغلبوا الحكمة والعقل في رسم خارطة التعايش السلمي والعشرة الحسنة فيما بينهم تلافياً للمشاكل التي قد تهدد كيان الاسرة ومستقبل الطفل، ويكون ذلك من خلال التوجيهات الحكيمة التي يعرضها الزوج على شريكة حياته، وان يتسم بالحكمة في مناقشاته مع زوجته التي ينبغي ان تكون واعية وعلى دراية كبيرة بالامور التي تهم كيان الطفل والاسرة وتطمح ان تكون اسرتها وتربية اطفالها مثالاً يحتذى به من قبل الاخرين . ولن يتحقق ذلك في طبيعة الحال الا اذا كانت العشرة بين الزوج والزوجة مبنية على الحكمة والمعروف كما جاء في القرآن الكريم «وعاشروهن بالمعروف» وتجنب اثارة الخلافات الحادة والجدال والتنابز بالالقاب وما شابه ذلك امام الاطفال، وعليه ينبغي على المرأة أن تعي دورها التربوي في هذا المجال وتكون متفهمة وتتعامل مع الاحداث بحكمة ايضاً وعقلانية، وليست امرأة توقف العجلة وتزعج الأسرة، خاصة اذا رأت بان هناك مشاكل تهدد مستقبل اطفالها. وفي مثل هذه الحالات ينبغي عليها ان تقوم بدور المرشد والمصلح الاجتماعي من خلال ما تبديه من ملاحظات وارشادات منطقية لزوجها بمنعزل عن الاطفال، وهذا لا يعني عدم القيام بمناقشات وحوارات هامشية ايجابية طيبة يسودها الود والتفاهم والعقلانية امام الابناء، والتي قد يستفادون منها في حياتهم العملية اليومية، ويكون الآباء في هذه الحالة نموذجاً حسنا ومثالاً رائعا للوالدين المتحاورين المتفاهمين، اللذان يتقنان أسلوب تبادل الحديث، ويستطيعان من خلال الحوار الودي الوصول إلى نتيجة بسلاسة وسهولة.
وينصح الباحثون في شؤون الاسرة الآباء والأمهات بالتعامل العقلاني المتوازن أمام الأطفال، وتجنب كل سلوك وتصرف وكل كلمة سيئة أمامهم، لأنهم ينتبهون لكل الأشياء، موضحين ان أي تصرف خاطئ وكلام نابي أمام الأطفال ينعكس سلبا عليهم. لذلك يوصي الباحثون الآباء بالعمل على تجنب مثل هذه السلوكيات والتصرفات الغير لائقة، وان يتعاملوا بايجابية مع اطفالهم، ويتجنبوا الشجار والخصومات امامهم، لان مثل هذه الامور تولد في نفسية الطفل ربما الكثير من العقد والمشاكل التي سيبقى يعاني منها في المنزل والمدرسة، وتكون قابلياته محدودة في عملية الاندماج بالمحيط الاجتماعي وبناء العلاقات مع اقرانه، وقد يطمح الى تنفيذ التصرفات والسلوكيات السيئة والخاطئة التي الفها من والديه من خلال حراكه الاجتماعي، وعليه ينصح الباحثون الآباء بتجنب مثل هذه الامور امام الاطفال.
حيث يتم في هذا السياق التاكيد على أولياء امور الإسرة بالاتفاق على رؤية ومواقف موحدة في هذا الجانب، خاصة وهم لا يغذون الطفل بالقيم فقط، وانما يزودونه ايضاً بالفكرة التي سيخزنها في ذاكرته عن اسرته، وعليه يجب ان تكون هذه الفكرة وتلك الصورة التي كونها الطفل عن العائلة حال كونها منسجمة ومتحابة ولا تختلف في كل المسائل وقادرة على الحوار في حل وتجاوز المشاكل التي قد تحدث بين افرادها، ذلك لاننا جميعاً نطمح ان نعيش ضمن اسرة يسودها الحب والحنان والتجانس والانسجام، وهذا الطموح نفسه الذي يعتري خلجان الطفل وطموحه الفكري والنفسي ايضاً. لذلك يجب على الام والاب تنشئة الطفل على قيم ثابتة وواضحة تتلائم واصول التربية الصحيحة، وترسيخ الفكرة لديه بأن الاسرة يسودها الانسجام والتواد والمحبة على المستويات الثلاثة العاطفي والانساني والمعرفي. وفي هذه الحالة نستطيع ان نحافظ قدر الامكان على ان يكون سلوك وتصرف الطفل منسجماً مع عواطفه وعقله وسلوكه التي اذا ما قومت فستكون منظومة تنشئته وبناء شخصيته صحيحة وفعالة ايجابياً على مستوى القيم العاطفية والمعرفية والاخلاقية التي تجعل سلوكياته متوافقة ومتزنه حسب رأي الباحثين والنقاد.
وتجدر الاشارة هنا الى ان في معظم البيوت هناك اعباء تتزايد على الزوجة “الام” بشكل طردي مع مرور الزمن لاسباب عديدة منها اقتصادية واجتماعية، بالاضافة الى الالتزام بالعمل الذي يرافقه صعوبة الحياة وسرعة ايقاعها، ناهيك عن المشاكل النفسية المتزايدة والقهر الاجتماعي للمراة ومصادرة حقوقها مما يجعلها تحس بالغبن من قبل الزوج والمجتمع، الذي ادى الى افراز ظواهر سلبية اصبحت تنتشر في حياة اغلب العوائل التي لديها اطفال في المراحل التعليمية المختلفة، والتي تتمثل بنفرزة المرأة من ابسط الاشياء وشروعها بالشجار مع الزوج والاطفال وتبدأ “بالصراخ” الذي يرافقه بكاء ونياح في بعض الاحيان، وغالباً ما يكون مستمراً طوال الوقت.
حيث يعزو الباحثون في مجال علم النفس الاجتماعي هذه الظاهرة الى ان طموحات المرأة وأدت في مهدها نتيجة للواقع الاجتماعي الذي لا يخلو من المرارة والمعاكس لما تتمناه من دور ايجابي في معترك الحياة الحرة الكريمة، اضافة الى انها ترى بانها تتحمل مسؤولية مضاعفة حين تطمح دائماً ان يحصل اطفالها على تحصيل دراسي جيد، لذلك تراها تهتم كثيراً بمساعدتهم على فهم واستيعاب دروسهم ومحاولاتها بشتى الطرق ادخال المعلومات وترسيخها في ذاكرتهم خاصة ونحن نعيش زمن فقدان المدرسة لدورها التربوي والتعليمي الحقيقي الذي يرفع او يخفف هذه المعاناة عن كاهل الآباء وخاصة الامهات، الامر الذي يزيد من صعوبة موقف الام ويؤثر على نفسيتها سلباً حيث ينعكس ذلك على طريقة تعاملها مع الاطفال وعلاقتها مع زوجها الذي نادراً ما يمنحها الحب والحنان الكافي الذي يشد من ازرها.
فكيف لنا ان نتصور حال الزوجة “الام” وهي تعيش معاناة العمل ومشاكله بين اثبات الوجود والتطلع الى الافضل، وبين واجبات الزوج والبيت والاطفال، بالاضافة الى معاناة ما تتعرض له من مضايقات خلال اليوم في طريق الذهاب والعودة من العمل والسوق خاصة في مجتماعتنا الشرقية ذات النظرة الضيقة للمرأة، والذي يولد لديها شعور بالحسرة والملل واليأس من الواقع الاجتماعي المرير الذي تعيشه وتحياه، مما يؤثر سلباً على دورها وقابلياتها في تربية وتنشئة الاطفال والعمل على تقويم واصلاح سلوكياتهم وسط التاثيرات السلبية التي تحيط بهم من كل جانب وزاوية في حياتهم اليومية، والتي تتمثل بعالم شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) والفضائيات واجهزة الهاتف المحمول بالاضافة الى ما نراه من اعلانات استفزازية لمشاعر الاطفال المراهقين في الشارع ووسائل الاعلام المرئية والمقروءة.
ان الارهاق والاحباط وسوء الحالة النفسية غير المستقرة للمرأة (الزوجة والام)، بالاضافة الى الواجبات الملقاة على عاتقها في اشباع حاجة الاطفال من التدريس واعطاء المعلومات والارشادات والتوجيهات لهم ومحاولة ترسيخها في عقولهم تارة بالسلم وتارة بالقسر والاكراه، أدى بالنتيجة الى تعرضها للاصابة بامراض نفسية مختلفة منها الاكتآب والعصبية وحالة “الصراخ” المستمر التي تحدثنا عنها سلفاً. لذلك اصبح من المؤلم ان نرى أمهات تعاني دائما من ظروف صعبة وامراض اضحت متشابهة في الاسباب والنتائج، حيث يكون الآب في كثير من الاحيان في منأى عن مثل هذه المشاكل، ونادراً ما يشارك الزوجة همومها في تربية الاطفال وتقويم شخصيتهم بسبب انشغاله المستمر في العمل والالتزامات الاخرى كالسفر التي تبعده عن جو الاسرة باستمرار وجعل الزوجة تتحمل المعاناة وتواجه التحديات لوحدها لاعتقاد الرجل بان مهمته تقتصر فقط على جلب المال للعائلة لكي تعيش وتستمر في الحياة ونسى أو تناسى بان وجوده ودوره ضروري في حياة الاسرة وخاصة فيما يتعلق بمساعدة الام في التربية الصحية والتنشئة السليمة للاطفال وتحصيل دراستهم، وتلافي التمرد الذي قد يحصل من قبل الابناء المراهقين على والدتهم في بعض الاحيان، وهذا الامر اصبح ظاهرة ملفتة للنظر ايضاً بسبب غياب دور الآب المربي. وهنا يجب ان نثني ونشد على ساعد المرأة التي فقدت زوجها وتحملت مسؤولية تنشئة وتربية الاطفال واعالتهم لوحدها دون مساعد أو معين وحتى دون مصدر مالي ثابت يساعدها في الانفاق اليومي على الاسرة، الامر الذي زاد من اعباء الام المتراكمة وشكل ضغطاً مستمراً على أعصابها المتوترة اصلاً.
فبعد ان شخص الباحث المغترب المختص في علم الاجتماع التربوي المشاكل الحقيقية للاسر المغتربة التي من ابرزها مسألة الانفتاح والتضاد الثقافي والعادات والتقاليد الاجتماعية، اشار في الوقت نفسه الى حلول يراها عملية وكفيلة في التغلب على المشاكل الاسرية للعائلة الشرقية في بلاد المهجر، والتي تتلخص في ايجاد فرص للعمل ومحاولة تعلم اللغة التي تفتح آفاقاً جديدة للمغترب في مجالات مختلفة يستطيع من خلالها الاندماج والتواصل ثقافياً وحضارياً مع المجتمع الجديد الذي يحيا فيه شريطة أن يحافظ قدر الامكان على ثوابته وقيمه الاخلاقية والدينية التي يؤمن بها لكي لا يصاب بالاحباط والندم في نهاية المطاف ويحاول الانسلاخ مرغماً عن ماضيه وانتماءه الوطني والروحي والقيمي والعائلي نتيجة ذوبانه واسرته في مجتمع وثقافة لايؤمن او غير مقتنع بها وبعادات وتقاليد مجتمعها.
وهذا ما نلاحظه يجري الان مع اغلب العوائل الشرقية المسلمة التي يكون فيها الاب شرقي والام غربية وكل واحد منهما يعمل على تنشئة الاطفال طبقاً للثقافة والعادات والتقاليد التي يؤمن بها، والذي ادى في نهاية المطاف الى بروز مشاكل بين الزوجين التي تنذر بتفتيت الاسرة وتهدد مستقبل الاطفال الذين اصبحوا يعانون من مسألة “الازدواج الثقافي” داخل الاسرة، الامر الذي يؤدي الى ضياع الاطفال في المستقبل نتيجة انفصال أو عدم اتفاق الزوجين على نمط التربية التي تتلائم وثقافاتهم المختلفة جذرياً، مما يؤدي في بعض الاحيان الى تنازل الرجل الشرقي عن مطالبه الى الزوجة الغربية ويرضخ الى الامر الواقع عن قناعة او غيرها بسبب القوانين الصارمة التي تعطي الحق للمرأة الاحتفاظ بالابناء بعد الانفصال بالاضافة الى الضغوطات النفسية التي تسيطر على الزوج في تلك اللحظات وانعدام الاستقرار في بلده الام.
ان هاجس الخوف من مستقبل الأبناء غير واضح المعالم الذي يعتري الرجل الشرقي المسلم الملتزم، والذي تزوج من أجنبية لاسباب تتعلق بموضوع الحصول على اللجوء والاقامة والجنسية والرغبة في اشباع الغريزة الجنسية عن حب وما شابه ذلك، جعله أن يكون قاسياً وحازماً في تعامله مع الزوجة والابناء وخاصة البنات في سن المراهقة من ناحية العلاقات الاجتماعية المنفتحة، الامر الذي يؤدي بالزوجة الى طلب الطلاق والانفصال في نهاية المطاف ولجوء بعض البنات الى مؤسسات الدولة الامنية لحمايتهن من تهور الاب، الذي يلجأ في بعض الاحيان الى قتل ابنته لسبب غامض ربما يتعلق بعلاقة غير شرعية مع شاب اجنبي ليقضي بقية حياته خلف القضبان في السجن المؤبد. أما بعض الآباء فيحاولون خطف ابناءهم صغاراً والعودة الى البلد الام في حال عدم موافقة الزوجة الاجنبية على العودة معه.
أما البعض الاخر من الأباء فيبقى يعيش بين هاجس الخوف هذا ومسألة الاصرار على العودة الى وطنه ذات المصير المجهول بالنسبة له ولعائلته حسب تفكيره بسبب الفوضى التي تجتاح اغلب البلدان الشرقية والعربية على وجه التحديد، يقابل ذلك رغبته بالبقاء والعيش الرغيد في البلاد الاجنبية التي تحترم الى حدٍ بعيد حقوق الانسان ومحاولته الاندماج قدر الامكان في المجتمع وتحمل التبعات التي تترتب على ذلك ومنها أن يفقد الاطفال ليس فقط ثقافتهم الشرقية وعاداتهم وتقاليدهم الاسلامية وانما ايضاً لغتهم العربية واية لغة شرقية يتحدثون بها الى جانب لغة البلد الاجنبي الذي يعيشون فيه، ولذلك تراهم غرباء اذا ما توفرت لهم الفرصة للعودة الى بلدهم الام في المستقبل، وهذا ما نراه ونسمعه باستمرار.
لذلك يرى المختصون في الطب النفسي أن سبب تفاقم هذه الظاهرة هو اختلاف الثقافات والقيم والتشريعات بين شخصين ومجتمعين متضادين، لان الهجرة الى خارج البلد الام والعيش في البلاد الاجنبية التي تختلف في ثقافتها وعاداتها وتقاليدها يؤدي الى تغيير في الثقافة الاجتماعية للعائلة المهاجرة، هذه الثقافة التي تختلف جذرياً عما الفه افراد الاسرة من ثقافة وعادات وتقاليد وقيم وعلاقات عائلية في البلد الاصلي، والتي تؤثر في نهاية المطاف سلباً على تربية وتنشئة الاطفال والعلاقات القيمية والروحية للاسرة وكذلك العلاقة بين الزوج والزوجة سواءً كانت اجنبية ام عربية نتيجة للحقوق الكبيرة جداً التي تمنحها القوانين في البلدان الغربية مثلاً الى الاطفال والام على وجه التحديد في حق رعاية الاطفال وتنظيم العلاقة بين الزوجين وعلى عكس ما هو عليه في البلدان الشرقية التي تقع خلف المحيط، والتي تدعي بانها مصدر التشريع لكنها لا توفر ابسط الحقوق لابناءها.
في احيان كثيرة ينتهي بالفشل زواج الرجل الشرقي من اجنبية، فاذا كان لديهم اطفال يكون من حق المراة رعايتهم حسب القانون، وبذلك ينتهي دور الرجل ويختفي من حياة الاسرة والاطفال كواقع حال. ونتيجة لهذه التجارب السلبية يلجأ البعض الى عدم الانجاب من الزوجة الاجنبية تلافياً للمشاكل في المستقبل، وهذا الامر دفع الكثير من الرجال في النهاية الى الزواج من عربيات صغيرات في السن يتم “استيرادهن” من البلد الام، الذي يعاني من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية كثيرة، بهدف انجاب الاطفال وتكوين اسرة تحافظ قدر الامكان على الثقافة والعادات والتقاليد واللغة العربية وتعطي للرجل سلطة السيطرة على الاسرة قدر الامكان رغم الاصطدام ايضاً بالقوانين المحلية المرعية التي يجب الالتزام بها. وفي هذه الحالة تظهر هناك مشكلتان على الساحة الاسرية الاولى تتمثل بعلاقة الام المتشنجة مع البنت المراهقة التي تقضي اكثر وقتها مع زميلاتها بالمدرسة والعمل في المجتمع المنفتح الذي الفت عاداته وتقاليده الاجتماعية. أما المشكلة الثانية فتتعلق بعلاقة الزوجة الصغيرة بالزوج كبير السن الذي قل عطائه من ناحية التعاطي الايجابي مع الزوجة الام، التي ترغب بأن تحيا حياتها الزوجية بصورة طبيعية من جميع النواحي العاطفية والرومانسية وغيرها خاصة بعد ان اصبح الاطفال الصغار كباراً يعيشون حياتهم الطبيعية دون مشاكل وقلت الواجبات والالتزامات عليها بحيث اصبحت شبه متفرغة للحياة الزوجية مقابل عزوف الرجل الذي كانت فكرة الزواج لديه انجاب الاطفال فقط. حيث يؤدي الامران الى دخول الاسرة والاطفال بشكل خاص في دوامة اللااستقرار النفسي نتيجة المشاكل اليومية المستمرة.
وتبدأ الزوجة “المستوردة”، السعيدة بهروبها من الواقع الاجتماعي المرير الذي كانت تعيشه في بلدها الام ونشوة خروجها الى عالم الحريات الفسيح الذي وصف لها بعالم جنان اخر الزمان، تعاني من عدة مشاكل تؤثر بشكل مباشر على حالتها النفسية والعلاقة الزوجية وتربية الاطفال، ومنها اختفاء غريزة الحب التي كانت تحلم بها مع شريك حياتها، والفارق الثقافي بينها وبين الرجل الذي تزوجته بضربة حظ، والذي يمثل التقاء عالمين مختلفين في العمر والتفكير والثقافية الشخصية، وقابلية تعلم اللغة وكيفية الاندماج بالمجتمع الجديد لادارة شؤونها وشؤون الاسرة داخل البيت وخارجه.
حيث تروي المواطنة (أ) بانها لم تستطيع الانسجام مع زوجها حين جاء بها من العراق الى المانيا، وادت المشاكل بينهما الى تركها البيت والسفر سراً الى العراق بدون علم زوجها، الذي اصر على عدم طلاقها وبقيت حالتها معلقة بين السماء والارض لحد الان. أما المواطنة (ب) فقد تزوجت من عراقي في المانيا من خلال معارف له، وبعد انجاب ثلاثة اطفال وسط مشاكل مستمرة والانفصال في نهاية المطاف اتضح بان الرجل يحمل مستمسكات عراقية مزورة وكان قد تزوجها باسمه المستعار وسجل نفسه مسبقاً لدى السلطات الاجنبية للبلد المقيم فيه باسمه المزور ايضاً، وفي هذه الحالة لا تستطيع المراة تسجيل واصدار مستمسكات عراقية لابناءها بعد اختفاء الاب من حياتهم.
وتروي المواطنة (د) صاحبة بنتين لا تتجاوز اعمارهن الـ (4) سنوات بانها تزوجت من رجل عراقي من قومية اخرى مقيم في فلندا لا يجيد اللغة العربية وهي لا تجيد اللغة التي يتحدث بها او الفلندية ويتم التفاهم بينهما باللغة الانكليزية باعتبار انهم ملمين نوعا ما بهذه اللغة، وبعد مشاكل دامت سنوات تم الانفصال ووضعت المراة تحت حماية الشرطة خوفاً عليها من تهديدات زوجها المستمرة، وتم تهريب الطفلتين الى دولة اخرى ليتم تبنيهن من قبل والدة الام بعد ذهاب الاب الى العراق ليتزوج من عراقين من قوميته.
المواطن (هـ) يقول بانه لم يتفق مع زوجته التي رافقته من العراق وتركت الاطفال وعادت، وتم الانفصال (الطلاق) بينهما، وهو الان يقوم بتربية الاطفال رغم انه يعاني من عدة امراض منها في العمود الفقري. أما المواطن (و) فيبحث عن طريقة للهروب من زوجته الاجنبية مع طفله الصغير. ويقول المواطن (ي) الذي حكم عليه بالسجن المؤبد بانه قتل ابنته الكبيرة وطعن الاخرى بالسكين بسبب انفصاله عن زوجته الاجنبية وذهابها مع رجل اخر، وانتهى الامر بالعائلة الى ان يعيش الاطفال في دار الايتام ويقبع الاب في السجن. أما المواطنة (ن / 25 سنة) التي تحمل الجنسية الالمانية فتقول انها تزوجت من رجل عراقي في العراق اكبر منها سناً بحولي (20) سنة حسب رغبة اهلها، وجاءت به الى المانيا، وبعد ان انجبت منه طفلة ونتيجة للمشاكل تم الانفصال بينهما وذهب الرجل ليتزوج من المانية ويتركها تعيل الطفلة. ويرجو المواطن (ع/27 سنة) مساعدته في البحث عن والده الذي اختفى من حياة العائلة حين كان صغيراً بعد عودته الى العراق في التسعينات ولا تمتلك الام الاجنبية اية وثائق تثبت شخصيته وزواجه منها او عنوان سكنه في العراق سوى اسمه (س) يسكن في بغداد – حي القادسية.
ان ما تم ذكره آنفاً هو جزء يسير من مشاكل اكثر مأساوية يروح ضحيتها الاطفال الابرياء في بلاد المهجر، حيث تُحَمِلُ بعض المنظمات النسائية المهتمة بحقوق المرأة والطفل الرجل المسؤولية الكاملة لما يحدث من مشاكل بين الزوجين، التي يدفع ثمنها في نهاية المطاف الابناء والنساء معاً، الذين يقعون دائماً ضحية لتصرفات الرجل التي لاتتلائم وروح العصر، حسب وصفهن، والتي تؤثر فيها سلباً العادات والتقاليد والتربية الاجتماعية التي ورثها الاب عن مجتمعه، هذا المجتمع الذي تتصف التربية فيه بانها تربية مجتمع ذكوري يكون للرجل فيه السلطة الاكثر في حين يغيب ويغيب دور المرأة وحراكها الاجتماعي الايجابي، ولا توجد فيه ايضاً حقوق حقيقية للطفل مصانة ومكفولة من قبل الدولة الام، الامر الذي ينعكس سلباً على حياة المرأة والطفل وتبدأ المشاكل في الوقت الذي تتغير فيه حياة الاسرة تدريجياً في اطار محاولاتها الاندماج في المجتمع الجديد، حيث ترجح المنظمات النسائية قدرة وامكانية المرأة في التأقلم السريع والاندماج في المجتمع الجديد على عكس ما يحدث مع الرجل الذي يبقى حبيس افكاره المتأرجحة بين مرارة العودة الى الوطن وحلاوة البقاء في مجتمع لم يألف ثقافته ولا يرغب الادندماج فيه.
وتطرح المنظمات النسائية عدة حلول لحلحلة المشاكل التي يكون سببها الرجل تكمن في حث الرجل على محاولة تغيير ثقافته الاجتماعية قدر الامكان وبما يتلائم وروح العصر والمجتمع الجديد الذي يعيش فيه مع المحافظة على بعض القيم التي يؤمن بها، والتي لا تؤثر على حياة الاسرة وتحجم من دورها الاجتماعي والثقافي والعلمي. ضرورة أن يكون الرجل راعياً واعياً تماماً ولديه القدرة والقابلية على مواجهة وحلحلة المشاكل التي تواجهها الاسرة بعيداً عن التهور الذي لا يحمد عقباه. أن يعي الرجل اهمية التعايش السلمي مع شريكة حياته ويفهم بعقلانية دورها الايجابي واهميتها في حياة الاسرة وبناء المجتمع بالشكل الذي يكون فيه العطاء متبادل بين الاثنين.
ان ما تمت الاشارة اليه آنفاً لايعني في طبيعة الحال تجريم الرجل وتركه يقبع في قفص الاتهام مدى الحياة حين نلقي عليه باللائمة ونحمله وزر جميع المشاكل التي ربما يكون سببها الرئيسي الاخرين من افراد الاسرة من ضمنهم الام. فمن باب الانصاف والعدل ان ندعه يتحدث ليدافع عن نفسه فلربما لديه وجهة نظر اخرى مغايرة او تتفق مع الواقع الاجتماعي الذي تحياه العائلة في جوٍ لايخلو من صخب الحرية المفرطة وتصادم الثقافات والافكار والمصالح. حيث يقول أحد الرجال العقلاء المدركين لاهمية حلحلة المشاكل الاسرية وتفادي وقوعها في بلاد المهجر معقباً، بانه يعتقد بأن ما تتهم به المنظمات النسائية الرجل حسب الذرائع التي طرحتها قد يكون له نوع من الصحة، معزياً ذلك الى بعض الحقائق والتجارب العملية التي تؤكد بالدليل القاطع على ان ثقافة وعادات وتقاليد الشعوب لا تختلف او تتغير حين تهاجر على مستوى الجماعات والافراد الى خارج الرقعة الجغرافية (الوطن) التي تعيش فيها، ولكن تبقى هناك رغبة بالتكيف والقبول والاندماج بالمجتمع الجديد بشكل قوي جداً لدى الكثير من الرجال وحتى النساء والابناء، حيث يبرز من بين هولاء رجال يتبنون ثقافة تقدمية متسامحة وأكثر انفتاحاً مع الزوجة والاطفال بشكل خاص والمرأة بشكل عام، يقابل ذلك وبنفس الوتيرة او أكثر رجال يحاولون المحافظة والاستمرار قدر المستطاع في ثقافتهم ذات الصبغة الذكورية التي تلغي المرأة وتحجم من دورها الانساني وحراكها الثقافي والعلمي.
وهنا نوصي بان تكون مسؤولية تربية الاطفال حسبة مشتركة بين الزوجين، اللذان ينبغي عليهما تجنب قدر الامكان اثارة المشاكل فيما بينهم للمحافظة على تماسك الاسرة واستقرارها الذي يجنبها التفكك والانهيار الذي لايحمد عقباه.