الحُـكم بمَرسوم إلهي!
الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين
بعد فترة ليست بالقصيرة من الاقامة في الدائرة القطبية الشمالية اكتشفت شعورا غريبا خجلت أن أعترف به بيني وبين نفسي؛ انه الشعـور بالغيرة والحسد ، ذلك الركض على غير هدى داخل سراديب الأعماق ، ذلك الجنون الذي نكره الاعتراف به وحتى مجرد الحديث عنه .
هذا ما أحسست به وأنا أشاهد القناة الأولى في التلفزيون السويدي ، بعين مثقف من العالم الثالث ، وأرى المذيع يعـلن فوز “الحزب الاشتراكي الديموقراطي“ بنسبة 47% فقط وليس 99.99 بالمئة !! والغريب أن نتائج الانتخابات لم تـُعـلن سلفا ، كما يحدث في مصر أو بنغلادش او زائير، كما أن أحدا لم يتلق الدعوات (قبل أشهر من الانتخابات ) لحضور مهرجانات التكريم للمرشح الفائز الأوحد !!
لقد احسست بالغيرة ، بل بالحسد ، وأنا أشاهد المواطن السويدي يذهب الى صناديق الاقتراع ويقرر من سيحكمه … انا العربي الذي عاش عمره وسيموت قبل أن يلقي بورقة في صندوق اقتراع ، واذا ما فعل كسواه من الـ 400 مليون الذين يعيشون في هذا العالم العربي المترامي الاطراف ، فخوفا من العقاب لرفضه القيام بدوره على “مسرح“ الديمـوقرااطية ، حيث السيناريو مكتوب سلفا ، والشعارات طبعت ولـُوِّنت وزُينت (بنسبة 99.99 بالمئة دائما) ، والانتخابات طبخت على نار هادئة قبل ذلك بوقت طويل .
ندوات تقام على شاشة التلفزيون بمناسبة فوز الحزب الاشتراكي الديموقراطي على خصومه الذين ما زالوا أحياء أمام عيوننا على الشاشة ، ولم يزج بهم أحد في السجون أو المقبرة لما فيه “مصلحة الجماهير“… ها هم ينتقدون زعيم الحزب الفائز ويعارضونه عـلنا ، دون أن يرتجف أطفالهم رعـبا ، ودون أن يخطط “زوار الفجر“ لاقتحام حرمات منازلهم ، والقائهم “وراء الشمس” ، ومن المؤكد أنهم سينامون في بيوتهم وليس في المعتـقـل الصحراوي .
هاهو السيدSven Melander سفين ميلاندر يقدم في برنامجه “على فكرة” ، وهو أكثر البرامج شعبية في التلفزيون السويدي، رئيس الوزراء بهيئة خنزير برّي ، والملك كارل غوستاف بهيئة بومة حمقاء ، ناهيك عن بقية زعماء الاحزاب بهيئة بقـرة ودب وثعلب…
ولكن السيد ميلاندر لن يلقى مصرعه برصاصة مدججة بكاتم الصوت، ومدير التلفزيون لن يختفي في “ظروف غامضة” … وعلى الرغم من اغتيال رئيس الوزراء اولوف بالمه في احد الشوارع الرئيسة في العاصمة استوكهولم عام 1986 ، فان الشرطة لن تقطع الطرقات أمام بيت رئيس الوزراء، وتمنع المواطنين من السير في – او حتى الاقتراب من – دائرة قطرها كيلومتر كما كان يفعل“الرئيس المؤمن“ انور السادات ، ولن تحرق “الجمـاهير” ، بأوامر من “اللجان الشعبية” ، بيوت مؤيديه وتلقي بجثـثهم في مزابل العاصمة ،أو أحد شوارعها المهجورة ، كما كان يفعل “الأخ العـقيد” معمر القذافي .
في الدول النامية التي يسميها علماء السياسة والاقتصاد ـ تأدبا ـ بالعالم الثالث اعتاد الماريشالات والجنرالات والكولونيلات (وقد انضم اليهم مؤخرا ضباط أقـل رتبة ، وحتى رقباء كما حدث في بـركينا فاسو) ان يربحوا معاركهم في ميدان السياسة لا في ساحات الوغى .
فالسياسة عند هؤلاء الذين يصرورن على أن تلتقط لهم الصور التذكارية وهم في بزاتهم العسكرية التي تزينها الميداليات والأوسمة والنياشين ( مع أنهم لم يخوضوا غـمار معركة واحدة ) مناورة بالذخيرة الحية لاسكات المعارضة ، والشعب طابور يقف بانتظام ليؤدي يمين الولاء وسلام الطاعة ، والاحزاب السياسيه ـ ان وجدت ـ سرايا وكتائب وفرق موالية ، والقاعـدة الشعبية مدفع وراجمة صواريخ .
فالجنرال سـان يو رئيس جمهورية بورما “لا يحب الانتخابات “، والجنرال زين العابدين بن علي لا يطيقها ، والفيلدمارشال احمد كـيريكو رئيس جمهورية بنين “الديموقراطية والشعبية” يفضلها “هادئة” في ظل الأحكام العرفية المستمرة منذ عشرة اعوام فقط …
والجنرال آنج- فليكس باتاسي (رئيس الجمهورية ، رئيس مجلس الوزراء ، وزير الدفاع ، وزير الخارجية ، ووزير الداخلية فقط) في جمهورية افريقيا الوسطى يهواها “تأكيدية” ، والجنرال أحمد سوهارتو الزعيم الاندونيسي السابق كان يفضل “الانكباب على أعمال التنمية بدل من اضـاعـة الوقت في مثل هذه الترَّهات“ [كذا !!] ،
والنقيب (أجل النقيب !) بليز كومباري ، رئيس جمهورية بوركينا فاسو”الديموقراطية والشعبية” ، لا يتسع وقـته لاجرائها …
اما الجنرال المصري عـبد الفـتـاح السيسي ( وهل يخفى القمر؟! )، فـ “زاهدٌ في الحكم” ، بدليل أنه أمضى 11 عـامـا في السـلطة ولكن الشعب “لايرحم“ ، اذ يطالبه بـ “البقاء“… وبمـا أنـه لم يتعـود أن يرفض للشعب طلبا، فقـد قرر فخـامتـه أن يرضخ لارادة الشعب ويرشح نفسـه لفترة رئاسية أخرى!!.
إن كراهية هؤلاء الزعماء للإنتخابات ليست وليدة رغبة في التسلط (حاشى للـه!! ) فحسهم “الديموقراطي“ مرهف للقاية ، واحترامهم لحقوق الانسان وحرياته الاساسية يصل الى حد “التقديس” ، واذا كـنتم في شك من ذلك اسألوا منظمة العفو الدولية !!.
ولكن لهم في المسألة وجهة نظر اخرى ، فحاجة بلادهم الى قهر التخلف تفرض على شعوبهم الافادة من كل لحظة لتشيد مدماك جديد في معركة البناء ، ولا يصح استنزاف وقت الناس (والوقت – كما نعرف جميعا – من ذهب) بالانتظام صفوفا وطوابير أمام صناديق الاقتراع ، وحرمان صرح التقدم والتنمية مدماكا او مدماكين .
ثم ان الانتخابات مدعاة للجدل والانقسامات وهم دعاة وحدة وطنية شاملة ، ذلك أنهم يحبون الشعب موحدا ملتـفـا ، كالبنيان المرصوص، حول قيادته “الشرعية” ، غير عابىء بالدعايات المسمومة التي تبثها الأوسط الامبريالية المعادية ، لشق الصفوف وتشكيك الشعب بقيادته “الرشيدة“.
واسماء المرشحين ، كما قال الجنرال سـان يو ، “تزرع الحيرة في صفوف الناس ونفوسهم” ، والحكام يريدون الشعب قاطعا في خياراته ، ومدركا طريق الخلاص…
ولماذا يحرق الشعب أصابعه في صنع القرارات السياسية طالما تيسر له ، بفضل الله سبحانه وتعالى، من يحرق أصابعه نيابة عنه؟!
وما هو مبرر الانتخابات ما دام “الزعيم المنقـذ“ موجود بالسلطة ؟ وأي معنى لها في هذه الحالة الا اذا حانت وسيلة أو مناسبة لشكر الزعيم المنقذ والمبجل على حكمته وحصافـته وانجازاته.
والانتخابات – على حد تعبير الجنرال آنج- فليكس باتاسي – “عادة سيئة” يروج لها الغـربيون “لشق الصفوف الداخلية ، والقضاء على الوحدة الوطنية، وزرع البلبلة، واثارة الفـتن ، والتسبب في مناخات تساعـد على أعمال الشغب ، والهـاء الشعب عن المشـاركة في عملية البنـاء والتنميـة…!!” [كذا!!].
فالإنتخابات ، اذن ، “مؤامرة ضد الشعب” ، تقـسمه ولا توحده ، “تربكه فـيضل المسيرة” ليتلهى بالشعارات والبيانات والخطب الحماسية… وكما تساءل الجنرال بينوشيه: “ ما الجدوى من ورقة تلقى في صناديق الاقتراع؟!” ثم ان غياب الانتخابات يعـفي المواطن من أي مسؤولية عن الكوارث الحاضرة والمقبلة، والإدعاءات الغربية بأن الإنتخابات فرصة لمحاسبة المسؤولين “تتضمن قدرا من الوقاحة” ، ذلك ان الزعيم المنقذ “ظل الله في الارض“ ، هو وحده صاحب الحق في الثواب والعقاب… ألا يحكم بمرسوم الهي؟!
في شهر آذار (مارس) عام 1984 كنت في زيارة عمل في الباكستان التقيت خلالها الرئيس ، القائد العام للقوات المسلحة ، الحاكم العرفي العام ، (وهـذا لقبه الرسمي) الجنرال محمد ضياء الحق ، رحمه الله. كان ذلك قبل فوزه بنسبة 99.99% في الانتخابات …
وقال لي الجنرال ضياء الحق ، بحضور الدكتور عزيز الرحمن جانجو، وزير الاعلام الباكستاني ، وعدد من كبار المسؤولين العسكريين ، أنه “رأى فيما يرى النائم” ملاكا يوقظه ويبلغه ان الله “اختاره لحمل الامانة”…
ولم يتردد الجنرال الملهم لحظة بالاستشهاد بالآية القرآنية :“ إِنَّا عَرَضْـنَا الأَمَانَةَ عَـلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِـبَالِ فَـأَبـَيْنَ أَن يَحْمِـلْـنَهَا وَأَشْـفَـقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا“(سورة الأحزاب ، الآية 72)
فاذا كان الله قد اختاره فكيف يحق للانسان ،أي انسان ، أن يحاسبه؟؟ ان السؤال الذي يطرح نفسه ، اذن ، لماذا يسأل الماريشالات والجنرالات والكولونيلات الشعب رأيه طالما أنهم الأبناء البررة لهذا الشعب؛ خرجوا من صفوفه، ونذرواأنفسهم لخدمته ، ويذوبون كالشموع ليضيئوا مستقبل بلادهم ؟ هل نحن بحاجة الى اجابة؟
ان الحال يغـني عن السؤال!!