ليث العبدويس
لَمْ يَدُرْ بِخُلدي يوماً أنَّ دُروبَ الحياةِ وأزِقّة الأيامِ سَتقودُني إلى ذلكَ المُنعَطَفِ الموبوءِ بِتقاطُعات المَصائِر المَجهولة وِقطع الدَلالة الغامِضةِ الاتجاه المُبهَمةِ اللُغة، فنحنُ العَربُ، وبشكلٍ استثنائيٍ من بَقيّة الخَلائِقِ، لا نَتحرّرُ مِن أرحامِ أُمهاتِنا إلّا نحو أقبية سُجونٍ يُسمونها مَجازاً أوطاناً.
نولَدُ عادةً بلا حَبلٍ سُرّي، بَلْ بِشيءٍ بَشِعٍ يُشبِهُ الأغلالَ والسَلاسِل، سيُرافِقنا في رِحلةِ النَكَدِ مِنَ المَهد الوَثير إلى اللَحدِ الحَقير، مَطلوبونَ لأجهِزَةِ أمنِ بَلَدِنا بِتُهمة إبصارِ النورِ، مُطارَدونَ تَحتَ طائِلةِ قانون مُكافَحةِ الحَياة.
ولأنّني أعشَقُ الحُريّةَ وتماثيلَها، وضوءَ الشَمسِ وإن خَفَتْ، وخريرَ الماءِ وَلو عُدِم، وزَقزَقَة الطيرِ الذي رَحَل، قَرّرتُ الارتماءَ تحتَ أقدامِ أصنامِ النِظام، إنفاذاً لِوصيّة أسلافي كابِراً عَن كابِرٍ صُعوداً إلى هابيل نَفسِه، ووطنّتُ نَفسي على إدارةِ كِلا خَدّيَّ لِيتلقيانَ ما شاءتْ إرادةُ “الذاتِ العَليّةُ” مِنْ صَفعات.
واظَبتُ على السيرِ بِجانِبِ الجُدران حَتّى كُدتُ أنسى سِعَةَ الطُرُقات، أيقنتُ بِجزمٍ لا يَقبلُ التأويل أننا أيتامٌ وَعالة على مائِدة صاحِبِ الجَلالة، يَهُشُّنا عَنها كَما يُهَشُّ الذُباب أو يَجودُ عَلينا بِما يَجودُ بِهِ القَصّابُ على الكِلاب، فإن شاءَ حَرَمنا فَكانَ حِرمانُنا مِحنة، أو شاء رَحِمَنا فكانتْ رَحمَتُهُ مُنحة، فالبِلادُ والعِبادُ والقَرادُ والجَرادُ أمانَةٌ في العُنُقِ المُترهلِ لِسيِدِنا الحَصور، وَهل تَصلَحُ الأمورُ بِغيرِ تَدبيرِ قائِدنا المُلهَمِ المُحَنّك الجَسور؟
صادرتُ بَصَري وَبَصيرَتي فلا يَقعانِ إلّا على ما يُرضي النِظام، وهل أُلامُ إن عَفّتْ نَفسي عَن الحَرام؟ وألغيتُ سَمعي فَليسَ يَلِجهُ غيرُ طيبِ الذِكرِ عَن سيرَةِ ساسَتِنا العِظام، وقَطعتُ لِساني وأطعمتُهُ لِقِطَطِ النِسيانِ والخَرَس، أوليسَ مَقتَلُ المرءِ بين فَكّيه؟ وهل يُنبئ الذِئبُ عن الأغنامِ غيرُ صَليلِ الجَرَس؟
لا أرى ولا أسمعُ ولا أتكلّم، حيثُ العَمى والبُكمُ والصَمَمُ دَليلُ الحَياةِ وَطوقُ النَجاةِ في عالم يُقبَرُ فيه الأحياءُ ويمشي فيه الأموات، فأن تاقَتْ عَينُكَ للألوان وأُذُنُكَ للألحانِ ولِسانُكَ للهَذيانِ فَدونَكَ دُنيا الأحلام، مَتّع فيها ناظِرَيكَ وأطرب سامِعَيكَ وَدلّل فِيكَ بالرُغاءِ والثُغاء على أتمّ التَمام.
أُسَدّدُ الفَواتيرَ وأُصلِحُ المَواسيرَ وألهَجُ بالدُعاءِ في السِرّ والخَفاءِ لِورَثَةِ الخِلافَةِ وأصحابِ السُموّ والسيادةِ والنيافة، مُصَفّقاً للخُرافَةِ ومُصَدّقاً أن تَعومَ البومُ أو تَطيرَ الزَرافة، فيا للتَفاهةِ ويا للسَخافة!
وَمَكثتُ على هذا الحالِ دَهراً بَدا أطوَل الدُهور، حتى سَرتْ في أحشاء الليلِ إشاعة، مَفادُها أنَّ أشقاءً لَنا ممنْ نلتَقي وأيّاهُم في يَعرُب وَقحطانَ راغُوا على هُبَلِهِم ضَرباً باليَمين فَفَرَّ شيطانُهُ اللَعين، وأنَّ غَيرَهُم نَكَسوا رأس الصَنَمِ في النِفايَةِ، واستخرَجوا سادِنَهُ المَجنونَ أشعَثاً أغبَراً زاعِقاً جاحِظَ العُيون واسلَموهُ لِمصَيرِهِ والنِهاية، وَغَيرُهُم آخَرونَ اقتادوا فِرعونَهُم مَخفوراً إلى قَفَص الاتهام بِتُهمَة العَبَثِ بالأرواحِ والأرزاقِ والأعراضِ والنِظام.
اليومَ واليومَ فَقَط، استَعدتُ رُجولَتي التي استَكثَرَها عليَّ النِظامُ العَنين، اليومَ فَقَط سَمَحتُ لِدمعي بالانهمارِ سَخياً وأنا أُعلِنُ الحِدادَ على كُلّ الراحِلينَ في زِمن الصَمتِ المَهول، اليومَ فَقَط سَأُرَتّبُ مَقبَرَةَ أهلي وأحبّائي بِحَسَبِ النوباتِ التي تركها فُقدانُهُم، والفَراغَ المُضَمّخَ بألمٍ لا يُحتَمَل.
اليومَ واليومَ فَقَط، سوفَ لَن أُطِلَّ برأسي عِند ذلكَ المُنعَطَفِ إلّا لأُرسِل أحدَ خُصومي إلى الجَحيم، سأنسِفُ قِطَع الدَلالة المَحنيّة الرِقابِ لأنَّ الشَمسَ وَحدَها تَكادُ تَصيحُ بِنا هَلِمّوا، سأشنَقُ آخِرَ الطُغاةِ بأمعاءِ آخِرِ الكَهَنة.
اليومَ فَقَط موعِدُ الانتقام ممن فقئوا عينَ الشَمسِ وَجفّفوا نبعَ المياهِ ورصفوا البلابُلَ أمام فِرق الإعدام، اليومَ فَقَط سأركُلُ وَجهَ النِظامِ وأقطَعُ وتينَ قابيل، اليومَ أعتَصِبُ بالغَضَبِ وأتمنطَقُ بِموجَةٍ مِن رَصاصٍ لَجِب، عَليَّ سيماءُ الحَربِ والحُبّ فهل تُرى يَصمُدُ الأقزامُ بِوجهِ عاشِقٍ مِنْ لَهَب؟