الحمل والذئب والثعلب
قصة للأطفال
إيناس ثابت
كلما هزمَ العيونَ طيفُ النوم
يُحْفَرُ سردابٌ سريُّ عميق
في الوجدان
يَصُوغُ أكثر الحكايات سحرا
عن مخلوقات مشاكِسة أو وديعة
وأميرات جميلات.. يجمعن
أزهاراً متنوعة العطرِ والألوان
تحملها ساحرات الحكايات
للأطفال في عربات الأحلام
يا لتلك الليالي المقمرة المقبلة من قلب الزمن، والحكايات الدافئة الممتعة والمناظر الخلابة، وكل ما يحرّض الفكر لينزع نحو الخيال، وحكايات مفعمة بالمشاعر متعة للروح، تتدفق خلف المروج المتألقة بلون الاخضرار.
مستكينة حينا أو صاخبة تحت الخيمة الزرقاء. أزاهير الحب تتألق بلون العطر والأحلام، تتوجع أو تتأوه ثم تهدأ برقة وانسجام. تتراقص في تناغم بلا نهايات. كل شيء يبدو للعين ودودا متفائلا في عالم من الأشواق.
لكن هناك ما أفسد لوحة المروج والبهاء، وتناسق التفاصيل المخلوقة بدقة وإتقان؟ ففي القرب من جدول رقراق يجري غديرٌ تحت الظلال، وحصى صغيرة شاحبة الألوان، رقدت وتكدست فوقها بقايا هياكل من عظام الخراف.
يحكى أن هذه العظام تعود لقطيع من الخراف الوديعة البيضاء، سكنت المروج الخضراء في رخاء وبحبوحةِ وهناء، وقضت أياما طويلة في راحة واستقرار، حتى أفسد عليها ليالي الأنس والأمان، ذئب لئيم سكن غابة في الجوار، أقضَّ مضجعها وأرق ليلها ونكّد صفاء أيامها. فقد كان يأكل في كل يوم من القطيع أسمن الخراف.
يختاره وجبة من أشهى الطعام، والخراف ضعيفة لا تقاوم الحيوانات المفترسة والذئاب، ولا تحسن التخطيط بحنكة أو دهاء، فلم تجد وسيلة غير الاستسلام. هكذا استبد بها الذئب وعاش يبطش فيها ويأكل لحمها. والخراف تقضي أياما من الجوع والحرمان، لئلا يزيد وزنها وتكون وليمة للذئاب، فغدت بليدة العقل سقيمة الأجسام.
ذات يوم أتى الخرافَ ثعلبٌ بالغ المكر، قال لها بعينين خبيثتين تلمعان كالخرز شديدتي الدهاء: “يا أطيب الأصدقاء ما أجملكم وأنعم أصوافكم البيضاء! لكنكم مساكين وضعفاء بحاجة إلى عين ساهرة ترعاكم، وتعوزكم المقدرة على حماية أرواحكم من شر الذئاب، فطريق الحياة مليئة بالأهوال، وأنتم بحاجة إلى قائد حكيم قوي مرشد، يؤازركم في درب السلامة لتبلغوا بر الأمان. ما رأيكم أخَلِّصُكُم من عدوكم الذئب الفاتك الجوعان”؟.
عقدت الخراف اجتماعا للتتشاور فيما بينها، وقالت: ” نحن خراف ضعاف مساكين، يستبد بنا ويذبحنا الآخرون ويستبيحون حياتنا، فيتحكم في مصائرنا ولحومنا وأصوافنا الحيوانات المفترسة وبنو الإنسان، ولن ينقذنا من حالتنا ويحررنا من الخوف والموت، إلاّ حكيم كالثعلب يحسن السعي والتدبير ويقودنا إلى الخلاص وبر الأمان.
سيكون الثعلب مرشدنا، علنا نجد على يديه خلاصنا من نكبتنا. هكذا تمّ تنصيب الثعلب حاكما على الخراف، نصبوه عليهم ووضعوا تاج السلطة على رأسه وقالوا له: أنت حكيمنا وأميرنا الرشيد. الحكم حكمك والأمر لك.
فانظر ماذا ترى من أمرنا مع عدونا الذئب اللئيم. قال الثعلب: ” يا شعبي المسكين الأمر بسيط، ليذهب أحدكم إلى الذئب ويخبره أن ذئبا آخر يسكن الوادي ويتفوق عليه، ولن تكونوا بعد اليوم إلا وجبة للأقوى من الذئاب!؟”
انتدبت الخراف من بينها رسولا للذئب؛ ولما أتاه؟ أخبره عن وجود ذئب آخر أقوى منه وأشرس. هكذا تعكّر مزاج الذئب وسرت في عروقه ثورة من غضب؛ وصاح: كيف لمجموعة ضعيفة محتقرة أن تتجاسر على جبار مثلي! ثم أسرع بالذهاب إلى الوادي وراح يصرخ وينادي: “أيها الجبان إن كنت أكثر بأسا مني تعال ونازلني في الحال؟ “. ولما كان الوادي خاليا من أي ذئب آخر، فقد تردد صوته في الأرجاء حتى خيل إليه، أن في الوادي ذئب سواه، يسخر منه ويتحداه ويطلبه للنزال، وهكذا قفز من قمة الجبل نحو الوادي ولقي حتفه فمات.
سُرَّتِ الخراف بالنبأ واستبشرت خيرا بقدوم الثعلب، فصفقت ورقصت واحتفلت بعودة الحياة إلى سابق عهدها من السكينة والهدوء، والتخلص من بطش الذئب والعيش الذليل. لكن الثعلب لم يكن ليكتفي بتحقيق النصر والتخلص من الذئب؟ بل تلهفت نفسه وبرزت أنيابه الحادة، جوعا وشهوة لطراوة لحم الخراف. ولمعت في رأسه فكرة حين نادى رعاياه من الخراف مبتهجا وقال: ” أصدقائي وإخواني. شاهدت بعيني هلاك الذئب عدوي وعدوكم يموت في قعر الوادي. ولن أطلب منكم إلاّ ردا لمعروفي معكم فتقدموا لي طبق لحم طازج في كل يوم.
خيم الوجوم على الخراف وتولاها الصمت والخوف، وسرت القشعريرة في أجسادها الباردة النحيلة، وطأطأت رؤوسها جزعا من الذعر وكيف انطلت عليها الحيلة، ولم تجد سبيلا للتملص من الثعلب، فأجرت القرعة على من يكون الضحية، ومن يقع عليه سوء الحظ يكون أول وليمة للثعلب. وهكذا وقعت القرعة على أصغر الخراف.
شلت أطراف الحمل الصغير من دنو الأجل ورهبة الموت المحتم، ومضى إلى الثعلب مشغول البال مرعوبا وهو يفكر في الطريق كيف الخلاص؟ ولما وصل إلى الثعلب استجمع شجاعته وقال له بصوت لا يخلو من الخوف:
“ما أعظم حظي ياسيدي أن تقع القرعة عليّ؟ شرف كبير لي أن يلامس لحمي الطري أنيابك، وأكون أول من ينعم قائدنا العظيم بأكله، لكن لي رجاء قبل انقضاء الأجل، هل بحت لي بالسر كيف خلصتنا من الذئب الجبار؟”
سخر الثعلب من سذاجة الحمل الصغير، وقد انطلت عليه الخديعة، وتقدم إلى الأمام بخطواته الواثقة ووراءه الحمل الضعيف الوديع، حتى صارعلى حافة المهوار إلى الوادي، وهو يختال منفوخ الصدر معتزا بقوته وذكائه.
ثم راح يقهقه ويقلد الذئب وهو يشير نحو الوادي. في هذه الأثناء اغتنم الحمل الفرصة في غفلة من الثعلب، وتقدم خطوات سريعة من الخلف، ونطحه بعزم وقوة فهوى إلى قعر الوادي، وسقط بجانب الذئب ومات.
هكذا تمكن الحمل الصغير الضعيف؟ أصغر حمل في القطيع من النجاة بنفسه، وخلَّص معه سائر الخراف، وحينما عرفت الخراف ما حدث، تولاها الفخر والإعجاب بالحمل الوديع، كيف عاد سالما وكيف قتل الثعلب.
لكنها شكّت بقصته واعتقدت أن وحشا في الوادي، يفوق الذئب والثعلب قوة ودهاءً. وعادت الخراف إلى خوفها القديم، خشيت أن تصادف محنة وعدوا آخر. هكذا عشقت الحيوانات المفترسة لحم الخراف، وهكذا تولدت عقدة الخوف في نفوس الحملان الضعاف، من أعداءٍ جُدُدٍ كالنمور والثعالب.. والذئاب.