صائب خليل
أخيراً، أوصل “الحماس الإنساني العالمي” مشكلة سورية إلى مجلس الأمن، فهل هي “صحوة ضمير” عالمية لم نعرفها من قبل؟ أم هي مجرد نسخة مكررة أخرى من “النفاق العالمي” التي تنتشر بكثافة على تاريخ البشرية المخجل؟
من يراقب اردوغان وهو يرفع أهتمامه “الإنساني” بالشعب السوري إلى مستويات غير طبيعية، لا يستطيع إلا أن يرتاب فيما وراء ذلك، فالسياسة وواجب القائد تجاه بلده، لا تعرف مثل هذه المواقف البالغة التعاطف تجاه شعب بلد آخر، حتى لو كان ذلك القائد شديد العاطفية بالفعل. فأردوغان لم يضح بعلاقات بلده مع جار هام فقط، بل أوصلها إلى حد العداء وإلى قضية حياة او موت بين البلدين، لم تصلها أشد الحالات عدوانية بين تركيا وجاراتها المتعادية تقليديا منذ الأزل، وضحى أيضاً بجهود وتضحيات كبيرة كانت تركيا قد بذلتها في حملتها لـ “العودة إلى الشرق” والوقوف بوجه التسلط الإسرائيلي منذ أيام أسطول الحرية. فكيف تناسقت أهداف تركيا الإنسانية مع أهداف أميركا وإسرائيل العدوانية حول سوريا بهذا الشكل الكبير؟(1)
وحقيقة الأمر أن كل من أراد شن عدوان عسكري في التاريخ، دعمه بغطاء إعلامي “إنساني”. وقد فسر هتلر نفسه هجومه الأول على جيكيا بأنه إنساني، ووصف الأمريكان إحتلالهم للفلبين في القرن التاسع عشر بآيات مغرقة في الإنسانية والدين، وأحيط هجوم الناتو على كوسوفو في نهاية القرن الماضي، بالكثير من التعابير “الإنسانية”، حتى أن البروفسور جومسكي أصدر كتاباً بعنوان “النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة”، فضح فيه نفاق “الإنسانيون الجدد” حين قارن بين “حماسهم الإنساني” للهجوم على كوسوفو، وافتقار ذلك الحماس لتطهير عرقي كانت تقوم به دول صديقة لهم مثل تركيا في ذلك الوقت ضد الأكراد، بل دعمها بقوة!
اكتشف الأمريكان سر قوة “الإنسانية” و “الديمقراطية” كغطاء سياسي، فأسسوا العديد من المنظمات “الإنسانية” الساعية لنشر “الديمقراطية” التي تحضر الأجواء في العالم من أجل التدخل الأمريكي “ألإنساني” في اللحظة المناسبة. فيكتب “جوليان تاي” عن “المؤسسة القومية من أجل الديموقراطية” (NED) وهي إحدى تلك المنظمات التي تنشط اليوم في سوريا: “هي منظمة تقدم نفسها على أنها منظمة غير حكومية تنذر نفسها رسمياً لـ “التنمية ولتعزيز المؤسسات الديموقراطية في العالم”. ولكنها في الحقيقة تنظيم يموله الكونغرس الأميركي بنسبة 95 بالمئة. وقد اكتسب إنشاؤها صفة رسمية عام 1982 في ظل إدارة الرئيس ريغان.” (2)
ويكتب تييري ميسان عنها: “منذ ثلاثين عاماً تقوم “المؤسسة القومية من أجل الديموقراطية” (NED) بتنفيذ الجانب الشرعي من العمليات غير الشرعية التي تنفذها وكالة الاستخبارات الأميركية. ومن غير أن تثير الشبهات، أنشأت المؤسسة المذكورة أوسع شبكة فساد في العالم عبر شراء نقابات العمال وأرباب العمل والأحزاب السياسية من اليسار واليمين، ممن وضعتهم في خدمة مصالح الولايات المتحدة لا في خدمة مصالح المنتسبين إليها. “(3)
ومن جوليان تاي نعلم أيضاً إن “مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان” في سوريا، هو التنظيم الرئيس التابع لـ (NED) وهو أيضاً شريك لـ ” الاتحاد العالمي لحقوق الإنسان” (FIDH). وقد حصل الاتحاد على مبلغ 140 ألف دولار أميركي دفعتها (NED) بعد اجتماع عقد بين كارل غيرشمان ومنظمات حقوق إنسان فرنسية مزعومة. “
ويمكننا أن نرى علامات “الحماس الكاشف للكذب” في الحركة والنشاط والحزم غير المتوقعة للجامعة العربية أيضاً. فهي تبدو أكثر حماساً لإسقاط الأسد من اية قضية عربية طرحت عليها مهما كانت خطيرة– إلا اللهم ما بدا خلفه إرادة أمريكية إسرائيلية ايضاً. وهنا نجد حماساً واستعجالاً واستنفاراً غير طبيعي للجامعة، تقوده قطر، من أجل معاقبة نظام عربي، يمكن أن يقال عنه بالتأكيد أنه ليس أسوأ الأنظمة العربية، إلا وفق مقاييس إسرائيل، فالجامعة تبدو متفقة تماماً مع مقولة باراك: “سقوط الأسد نعمة للشرق الأوسط”! (4) أو مع أمنية الناتو بإثارة “حربٍ أهليةٍ تغلي” كمقدمة للتدخل (5)
ومن أغرب تداعيات “المشاعر الإنسانية” في موضوع سوريا، القرار الأخير للدول الخليجية، والذي بدأته السعودية بسحب مراقبيها من بعثة الجامعة العربية الى سورية بعد “تاكدها من استمرار نزيف الدم وقتل الابرياء” حسب تعبيرها. ولا يفهم المرء كيف يمكن لسحب مراقبين أن “يوقف نزيف الدم” ، لكن يمكننا أن نصدق أكثر ما قاله وزير خارجية سوريا بأن ” تقرير المراقبين لم يعجبهم فقرروا الإلتفاف عليه”(6)
وتتجه الجامعة العربية اليوم للتعبير عن مشاعرها “الإنسانية” إلى تدويل القضية ودفع الأمور باتجاه الحرب الأهلية من خلال وضع شروط تعلم مسبقاً أن الحكومة السورية لا يمكن أن تقبلها. (7)
وتقف قطر على رأس “المتحمسين الإنسانيين” في القضية السورية، ويبدو أن مشاعرها تقتصر على الحلول العنيفة وإسقاط الحكومة السورية. فوضع الأمير “كل إمكانيات قطر” تحت خدمة ذلك الهدف. (8)
فلم تكتف قطر بتجنيد كل طاقاتها الدبلوماسية والمالية والعسكرية والإعلامية المتمثلة بقناة الجزيرة لهذه المهمة، بل دفعت برجال الدين إليها فاستنفر القرضاوي الذي دخل الموضوع بكل “ثقله الديني الإنساني” رغم أن الدعوة للتدخل الأجنبي تخالف التعاليم الإسلامية بصراحة. (9)
وعن الحماس القطري للتدخل “الإنساني” في ليبيا كتبت “الفيغارو”: ” في حين بدا الغربيون متردّدين في تسليح الثوار، فقد سارعت “الدوحة” لتدريب المقاتلين الليبيين قليلي الخبرة. وبموافقة أجهزة الإستخبارات الغربية، فقد تم إرسال ما لا يقل عن ٢٠ ألف طن من الأسلحة القطرية إلى ثوار ليبيا.
ونقلت عن وزير خارجية إسبانيا السابق، ميغيل أنجيل موراتينوس لا يجرؤ أي مسؤول عربي على مواجهة القطريين”. (10)
لكنك “لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت” كما يقال، ويمكننا أن نلاحظ انحسار الزخم الذي اعطاه “الإعلام الإنساني” لذلك التدخل في الدول العربية الذي تقوده قطر. فبعد نجاح الثورة الليبية أنقلب على قطر الكثير من ثوار ليبيا, متهمين حكام قطر “بتنفيذ أجندة خفية ,… لتحقيق مصالح قطرية وأمريكية وإسرائيلية”. وحذر علي الترهوني نائب رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الليبي من خلال مجلة تايم الأمريكية قائلاً: “القطريين جلبوا السلاح وأعطوه لأشخاص لا نعرفهم.” (!!)
وحدث امر مشابه في تونس فتظاهر تونسيون أمام سفارة قطر في تونس احتجاجاً على تدخلها في شؤون بلادهم. لذلك يصف البعض ما حدث في دول ثورات الربيع العربي بأنه “ثورة جديدة في ليبيا ضد قطر!” (11)
ويلاحظ في كل الحملات “العسكرية الإنسانية” أن عواطف أصحابها الجياشة لم تكن في أي يوم من الأيام موجهة نحو شعوبهم وأوضاعها الإنسانية والديمقراطية. فكلنتون، صاحب حرب كوسوفو الإنسانية، كان ممثلاً بامتياز لمصالح الشركات الكبرى ومشاريع العولمة التي زادت قسوة الحياة على فقراء بلاده وجيرانها، إن لم يكن العالم. ولم يعرف تاريخ الولايات المتحدة رئيساً تم تحطيم أسس المجتمع المدني والديمقراطية فيه بقدر ما حدث أيام جورج بوش الإبن، والذي كان يصرخ بوجه أحد مستشاريه بأن لا يزعجه بالدستور، لكنه يبدو مستعداً للتضحية بألاف الأمريكان والترليونات من دولاراتهم من أجل إقامة دستور وديمقراطية في العراق!
وتساءل الكثيرين أيضاً عن موقف أمير قطر و “معنى نصائحه لسوريا, فيما دولته وأمثالها لا تحكم إلا من خلال أسر عائلية لا تفقه معنى المساواة والعدل والحقوق والواجبات بين المواطنين” – وقال وزير العدل الأردني السابق حسين مجلي “أن قطر التي تقود ما يسمى العمل العربي هي قاعدة أجنبية. كما أن قناتي الجزيرة والعربية هما غرف عمليات أمريكية صهيونية”(12)
وعن “إنسانية” القرضاوي الإسلامية قال الأمين العام لهيئة علماء لبنان الشيخ يوسف الغوش: “لم نسمع من يوسف القرضاوي اعتراضاً على تهويد القدس, ولا على منع الآذان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة, ولا حتى على القصف الاسرائيلي لغزة ومعبر رفح, ولم نسمعه يرد على تصريحات مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة نيوت غينغريتش الذي أتهم الفلسطينيين بأنهم إرهابيون.”
هكذا يكشف “الموقف الإنساني” المزيف نفسه تدريجياً، وكلما طال الوقت أفتضح المزيد، وأحرج دعاة “التدخل الإنساني” أمام شعوبهم وتلك التي تتجه إليها “عواطفهم الجياشة”، ويصير الدفاع عن مواقفهم أكثر صعوبة.
لقد عبر حمد بن جاسم ، رئيس الوزراء القطري في مقابلة مع الجزيرة مؤخراً عن ذلك الإحراج حين قال: “إن اتخذنا قرار في الجامعة العربية نلام، وإن لم نتخذ قرار نلام..”!، ولم يشر إلى الجواب الواضح، وهو أن الشارع يرى أن رياح الحماس الإنساني والقومي للجامعة التي يقودها فعلياً، لا تهب ، إلا وفق الأجندة الإسرائيلية الأمريكية، فلا تتخذ القرارات، إلا عندما تخدم تلك القرارات تلك الأجندة، ولا تتخاذل إلا عندما يخدمها التخاذل!
http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&id=288744 (1)
http://www.alintiqad.com/essaydetails.php?eid=49393&cid=88 (2)
http://www.alintiqad.com/essaydetails.php?eid=50146&cid=88 (3)
http://www.al-akhbar.com/node/27579 (4)
http://rt.com/news/nato-civil-war-syria-011 (5)
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=172209&cid=21&fromval=1 (6)
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=172099&cid=21&fromval=1 (7)
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=169359&frid=21&seccatid=23&cid=21&fromval=1 (8)
http://www.alalam.ir/news/901814 (9)
http://groups.google.com/group/fayad61/browse_thread/thread/8ff9e9d75552728c (10)
http://www.algeriatimes.net/algerianews19238.html (11)
http://groups.google.com/group/fayad61/browse_thread/thread/e8912e3f954b37ec (12)