كتب على العراق / ارض مابين النهرين في العصر الحديث، المرور بزمنين وطورين من التاريخ المنتمي للدورة الثالثة، الأول منه تغلب عليه اشتراطات ” الاستبدال” التاريخي والاستعارة الاسقاطية، قبل ان تبدا ملامح وعي الذاتيه والهوية التاريخيه المتعذرة، والمطموسة على مدى سبعة الاف عام، والطور الثاني تبدا الياته وملامحه الأولى بالتنامي مع الثورة التحولية الثانيه عام 1958 ، يوم تفقد من حينه الظاهرة الاستعارية النقلية الايديلوجيه، مايكون لها ويتسنى من حيثيات وضرورة نابعه لا من طبيعتها، بل من اشتراطات الصراعية مع شكل فبركة الدولة الحديثة الاستعماري الحديث، ومايتصل بها من متغيرات عالمية، ونوع نظام دولي مستجد خاضع للهيمنه الغربية تفكرا ونموذجا.
ولم يكن متيسرا وقتها وفي لحظتها مع اخرالخمسينات، الانتقال الى انبثاق المنظور( الوطن / كوني ) الرافديني/ العراقي، وسادت حالة من الفراغ المفهومي على هذا الصعيد، بينما العراق ينتقل الى الصيغة الثانيه بسماتها”الريعيه العقائدية الايديلوجية القرابية”، من الدولة، التي حلت بعد عشر سنوات على ثورة 14 تموز التحولية الثانيه غير الناطقة، كتدبير استثنائي دل في حينه على استمرار وطاة النموذج الحداثي الغربي من ناحية، وعلى دخول عامل استثنائي من خارج الاليات التاريخيه الصراعية الازدواجية حيز الواقع، مع حضور “الريعيه النفطية”، الوسيلة التي لولاها لاستحال قيام الدولة من الأعلى بعد ثورة تموز 1958 ، ولدخل العراق مسارا مختلفا كليا وغير معرف له مثال من بين أي من اشكال وأنواع الحالات، وأنماط النظم المعروفة في العالم الثالث والعالم، ماقد ادخل سياقات تشكل “الوطنيه العراقية” طورا من التجربة الاضافيه الشديدة القسوة، انتهت بعودة الاحتلال، وبسحق الدولة الريعيه 1968/2003وريثة الدولة الأولى 1921/1958 القائمه على مبدأ قلب علاقات الملكية التاريخيه في الأرض، لاعلى يد اوربا الحداثة هذه المرة، بل من قبل الإمبراطورية المفقسة خارج رحم التاريخ، والمضطرة للبحث عن ذاتهيتها الضائعه المستلبة، وطلبها، في قلبه واعماقه.
وقتها كان قد تعين بصورة حاسمه موقع الحزب الشيوعي العراقي ضمن البنيه الازدوادية باعتباره قوة برانيه، تنتمي للاطار الأعلى المركب من خارج التشكل الوطني والنصاب المجتمعي، وكانت مجموعة الظواهر الرئيسية الايديلوجيه الحزبيه قد عرفت ابان وبعد ثورة تموز، وفي غمرة تفاعلاتها تحولا نقلها من حيث كانت تأسيسا ونشاة اقرب الى المستوى الأسفل المنتفكي، وباعتبارها قوى تستمد حضورها من إيقاع الصراعية بين عالم اللادولة المساواتي المشاعي وهو في حال تعرض للهجوم الامضى، الى قوى تتمحور لتصير قاعدة للاطار الأعلى ودولته بشكلها الريعي، وفي حين اختفى من بينها حزب الليبراليه المفترضة الشعبوي “الحزب الوطني الديمقراطي” وذاب تلقائيا، حل مع الوقت داخل حزب البعث وعبر سياقات من الانتقال والتحوير السلطوي “حزب تكريت” محل حزب “الناصرية”، و( البكر / صدام حسين) مكان “فؤاد الركابي”، وعلى مستوى الحزب الشيوعي، الحزب الكردي بدل / حزب المنتفك التاسيسي/ و “عزيز محمد”، مكان “فهد”، لم تلحظ ولم تبين او تقارب دلالاته التي استمرت تطمس ايديلويجا، بالاخص مع غياب أداة النظر والتحليل الضرورية المطابقة لواقع غير ناطق.
ويبقى تحوّر الأحزاب الايديلوجية بعد ثورة 14 تموز1958 احد اهم المظاهر الأساسية في المشهد العراقي، إضافة لدخول عامل “الريع” النفطي، ونحن نتحدث هنا عن قوى برانيه مركبه من خارج البنيه المجتمعية، مثلها مثل الدولة التي اقيمت على يد الاحتلال عام 1921 قائمه على فرضية اكراه الواقع العراقي بعد تزويره، ونفي بنيته التاريخيه واستبدالها بنموذج الغرب الحديث، وسواء الكلاسيكيه منها او تلك التي تتصارع معها، فالحزب الشيوعي قام على رؤية للعراق وتشكله الحديث، هي الرؤية الاستعمارية الاستشراقيه تاريخيا، وعلى مفهوم “ويرلند” وسرديته التي تحيل نشاة العراق اليوم الى عام 1831 ، مع مايعرف بالالتحاق بالسوق الراسمالية العالمية، لتبرير المقطع الطبقي النموذجي الغربي، واساس رؤية كهذه هي حتما متناقضه حتما مع مقتضيات الواقع والبنيه الازدواجية التاريخيه والياتها.
ومن المثير ان يتصدى للشان العراق الحديث، ثلة من الأشخاص يجهلون جهلا كليا ومطلقا، العراق وتكوينه، وبنيتة، ف”فهد”يوسف سلمان، و “كامل الجادرجي”، و”فؤاد الركابي” هم اميون وجهله عراقيا، غير مؤهلين اطلاقا، ولايحق لهم التنطع لمهمة إقامة كيانات سياسية سوى انهم استندوا في ما ذهبوا اليه على حزمة تصورات وأفكار منقوله، استوردوها من خارج بلادهم بسطحية، من دون ان تكون لديهم القدرة او المؤهلات بالحد الأدنى لتوطينها، فضلا عن إعادة انتاجها، فالحزب الشيوعي العراقي لم يفهم على “شيوعيته”، حقيقة المجتمعية اللاطبقية التاريخيه المشاعية لمابين النهرين، ومن ثم فانه ماكان ليقف محاكما نظرية ماركس وماديته التاريخيه من منطلق كون المشاعية يمكن ان تكون نمطا مجتمعيا غير طبقي، لايتشكل الا بصيغة لاطبقية كما حال المجتمع العراقي الأسفل في الدورتين التاريخيتين، الأولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، مع مايترتب على مثل هذه المحاكمة من إعادة قراءة للماركسية ولماركس ونظريته.
سوى ذلك لم تكن الشيوعيه المنقولة، وبالأخص طبعتها الحزبيه اللينينيه، ان تعي الضرورة الراهنه، والمقتضى التاريخي المستجد، مايجعل للعراق “ماركسيته” مابعد ماركسية الغرب. فيوجب واقعا وتاريخيا ماهو ابعد، من نوع التحول والانقلاب الأحادي الأوربي الطبقي، المنطوي اليوم في الظاهرة الغربية، وفي الانتقال الالي الذي حققته، ونوع مترتباته على البنية المجتمعية على مستوى المعمورة، ومدى التقاء ذلك مع “التحولية” التاريخيه المتعدية للمجتمعية، ومن ثم لاشكال انقلابيتها الطبقية.
وأول ماتتأسس عليه الشيوعيه في العراق واساس تخنيثيتها للمجتمع الأسفل، تبنيها البداهي للوطنية الشكلية والكيانيه المفبركة، المؤسسة على السردية الاستعماريه للعراق الحديث ونشاته وتاريخ بدء تشكله، وظواهره التي من طبيعته، واغرب مانصادفه هنا ونتعرف عليه، ميل شيوعيين نقليين مفترضين الى اجبار”مجتمع شيوعي كينونة”، على الالتحاق بكيانية مركبة برانيا، وبخلاف اليات التشكل الوطني، وبالضد منهاـ ناهيك عن التوافق مع اشتراطات اكتمالها، وفي حين كان على هؤلاء ان يسهموا ان لم يعملوا جاهدين على توفير الاطار التمثيلي الاحترابي لمجتمع اللادولة الأسفل وهو في ذروة ازمته وقسوة الهجوم الاستعماري عليه، ماجعله بامس الحاجة لان ينتقل من الثورة غير الناطقة، الى النطق الذاتي الممتنع، وجد الحزب المذكور ليستفيد من احتدام الصراعية الناشيء بعد إقامة الكيان المفبرك ليوطد كيانيته العقيمه غير المتناغمه مع الحقيقة البنيوية التي وجد ضمنها، الامر الذي تحول وان كان مقبولا اضطرارا قبل ثورة 14 تموز، الى ممارسة مضادة مخالفة ومناقضة للحقيقة “الوطنية” من صنع الظاهرة الدولية المستجدة، واشتراطاتها لدرجه تحول الحزب المذكور الى قوة اساسيه مكملة من قوى الفبركة البرانيه المضادة الساعية كينونه واساسا الى تخنيث مجتمعها لاجل تكريس وجودها واستمراره .
كانت استخلاصات الحزب “النظرية” تتوقف مركزة عند “شبه استعماري شبه اقطاعي” وهو الشعار الذي بموجبه ونقلا عن مايعرف باجواء واجمالي موضوعات “حركة التحرر” الدائرة في فلك روسيا ضمن معركتها مع نقيضها الاوربي، هذا ولم يكن للحزب أي حضور يذكر على المستوى النظري والتحليلي، فكان بالأحرى قوة “عمليه”، الصراع ومتعلقاته اعلى منه وغزير بالمعطيات التي لاتستدعي منه جهدا استنباطيا، ولم يكن هو باية حال صانعا للحدث الذي يتعداه بقدر ماسعى الى محاولة تطويعه، او الاسهام فيه بحسب ماهو متاح له ضمن الصراعية الغربية الروسية، وفي حين كان المطلوب القول بان ماهو قائم منذ عام 1921 ليس دولة نتاج التشكل الوطني، ولا هي حصيلة اكتماله، ولا هي تعبير او دلاله على النصاب الاجتماعي المفترض في قيام الدول، وانه بالأحرى وسيلة استعماريه ناتجه عن مازق استعماري، اضطر الى تبديل وسائله لضمان سيطرته واحتلاله المبطن، وان الاستعمار الإنكليز مستفيد في هذا من ناحية جوهريه، تتمثل في افتقار المجتمع المساواتي والعراق المتشكل حديثا للوسائل المضادة، وفي مقدمها وعلى راسها، النطقية الذاتيه ومقضياتها ومايترتب عليها وينتج عنها، وهو مايمثل المهمة الوطنيه الرئيسية التاريخيه الواجب تركيز الجهد والطاقة الوطنيه لاجل تحقيقا كمهمه أساس، يحرم ابان البحث عنها، وقبل الوصول اليها، اعتبار القائم من شكل سلطة مفبركة “شرعيا”، او يمثل باي شكل كان، ظاهرة موضوعيه، سوى كونها عقبة ولحظة قطع ضمن مسار التشكل الوطني الحديث المستمر منذ القرن السادس عشر.
اذن ليس من علاقة يمكن ان تربط بين الشيوعيه المستعاره، والعراق المجتمع الازدواجي التحولي، والامر نفسه ينطبق على بقية الأحزاب الايديلوجية، والتي اعتاشت وامكن ان تكون وتظل موجودة، مثلها مثل الدولة المفبركة بسبب افتقار العراق للمنطوق الذاتي، والهوية المتعذرة الممتنعه، الامر الذي سيتجسد متفاقما ومتضخما ابان ثورة 14 تموز 1958 وفي غمرتها، كما في مساراتها وماقد الت اليه، وصولا الى التدبير الدولوي الثاني بعد عام 1968 الى 2003 ،عندما عاش هؤلاء على اكتشاف نظري وحيد هو “الدكتاتورية”، بلا تحليل للواقع، ولطابع الصراع الرئيسي، وتجلياته، واشكاله، بينما كانت اليات انتهاء حضور الظاهرة الايديلوجية الحزبيه تصير طابعا مميزا، ونمط تازم استثنائي عاشه العراق هذه المرة كحالة فراغ كلي من اسفل، مع استمرار تعذر النطقية التاريخي، وبقاء هياكل وبعض اشكال من الحزبيه الايديلوجيه بما هي انتماء متكلس، ووهمية مضاعفة تصل حد الخطل، مع ابشع صنوف القصور العقلي.
ـ يتبع ـ
الحزب الشيوعي وتخنيث الشعب العراقي؟/3
اترك تعليقا