خالد بوفريوا
صك “تشارليز تيلي” اصطلاح الحركات الاجتماعية على أنها “سلسلة من الأداء المتواصل والمعارضات والحملات التي يقوم بها الأشخاص العاديين لرفع مجموعة من المطالب”[1].
واعتبر كذلك ان الحركات الاجتماعية وسيلة مهمة تسمح للأشخاص العاديين المشاركة في السياسة. وعرفت الحركة الاجتماعية بصفة شمولية على أنها “عمل جماعي يهدف إلى تأسيس نظام جديد للحياة”[2] وشهدت هذه الاخيرة في العقود الأخيرة، انتشارا كبيرا واتسعت أدوارها نتيجة لعجز المؤسسات التقليدية أو قصورها عن التصدي لأشكال محددة من المخاطر التي تهدد المجتمعات البشرية على اختلاف مشاربها، هذه المشكلات تعتبر من نوع المشاكل التي لا تستطيع المؤسسات الحكومية والسياسية السائدة في المجتمعات الحديثة أن تتصدى لها، بل إننا في المقابل نشهد تزايد الهيمنة التي تمارسها على حياتنا الاجتماعية وخاصة المؤسسات التجارية والاقتصادية، والأجهزة الحكومية البيروقراطية ونفوذ وسائل الإعلام. وكثيرا ما تنشأ الحركات الاجتماعية الاحتجاجية بغرض تحقيق التغير حول قضية عامة مثل التوسع في الحقوق المدنية لإحدى شرائح السكان، وقد تبرز مقابل هذه الحركات، حركات أخرى مضادة تسعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن، ونشهد مثل هذه الحركات المضادة في عدة مجالات من بينها الحركات الدينية، وتمثل الحركات الاجتماعية الشكل الأكثر فعالية وقوة وتأثيرا في المجتمع.
وقد تعددت أشكال الحركات الاجتماعية وأنواعها ومجالاتها، فحجم العضوية في بعضها لا يتجاوز العشرات بينما يتسع في حركات أخرى ليشمل الآلاف من الناس، وفيما تستطيع بعض الحركات أن تزاول أنشطتها في ظل القوانين السائدة في الدولة، فإن بعضها الآخر يضطر إلى العمل بصورة سرية، ومن الخصائص التي تميز الحركة الاحتجاجية هي قدرتها على النشاط على الهامش التي تسمح الحكومة من الوجهة القانونية بالنشاط فيه في أماكن وأوقات معينة. لذا وعلى هذا الاساس فقد أصبحت الحركات الاجتماعية والاحتجاجية موضوعا للدراسة والتحليل ينشغل به الكثير من أهل العلوم الاجتماعية والسياسية بهدف فهم شروط انتاجها وسيرورتها وآفاق تطورها، ويمكننا أن نبين ذلك مثلا في التظاهرات الاحتجاجية الواسعة والمؤثرة التي تواجه المؤتمرات التي تعقدها منظمة التجارة العالمية في مختلف المدن في العالم.
المحور الاول : الحركات الاجتماعية (اشكالية المفهوم والتأصيل التاريخي).
الفقرة الاولى : الحركات الاجتماعية وزئبقية المفهوم .
يشير مصطلح الحركة الاجتماعية إلى “الجهد الملموس والمستمر الذي تبذله جماعة اجتماعية معينة من أجل الوصول إلى هدف أو مجموعة أهداف مشتركة، ويتجه هذا الجهد نحو تعديل أو تغير أو تدعيم موقف اجتماعي قائم”[3]. كما يعرفها “إريك نوفو Eric Neuveu” على أنها “تعبئة النساء والرجال حول الأمال، العواطف والمصالح وهي كذلك وصفة ممتازة حتى نضع للنقاش الرهانات الاجتماعية للبحث حول العدل واللاعدل، كما أنها مناسبة أحيانا لتحريك المجتمع والسياسة للتسجيل في الذاكرة الجماعية”[4].
أما الحركة الاحتجاجية فقد عرفت على أنها “فعل اعتراض تقدم عليه جماعة ضد أخرى حول قضية محددة ومحدودة وملحة الوجود، فهي بهذا مندرجة ضمن منظومة العمل التاريخي، لا ضمن منظمة التنظيم الاجتماعي”[5].
وبالرغم من الحضور القوي الذي أصبحت تسجله الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في مختلف الأنساق الاجتماعية والسياسية، فإن ايجاد مفهوم دقيق ومحدد لها مازال بعيدا، فمازال تعريف هذه الحركات يعرف اختلافات تبعا لتعدد المقاربات والمنطلقات النظرية والمنهجية، لذا فإنه على الرغم من كثرة التعريفات للمفهوم الحركات الاجتماعية، إلا أن الباحث يواجه جملة من الصعوبات عند التصدي لتناول هذه الحركات وتحديد خصائصها وأنماطها ويعود ذلك لعدة أسباب من بينها:
تنوع هذه الحركات واختلاف أدوارها وأهدافها.و كذا تعدد الاتجاهات النظرية القائمة على دراستها، الأمر الذي يخلق صعوبة في التعميم بشأنها[6].
الفقرة الثانية : التأصيل التاريخي للحركات الاجتماعية .
ارتبطت نهضة الحركة الاجتماعية الحديثة بالاقتصاد والتغيرات السياسية التي حدثت في بريطانيا في منتصف القرن الثامن عشر والتي تضمنت تفعيل الدور السياسي والقيمة السوقية، فقد نشطت الحركة الجماعية الأولى لمناصرة “جونويلكس” الشخصية السياسية المثيرة للجدل، حيث هاجم جون ويلكس رئيس تحرير نورث بريتن بشدة، كما انتقد شروط السلام التي قبلت بها الحكومة في معاهدة باريس 1763، ومنه اعتقل ويلكس بعد صدور أمر قضائي بتهمة التحريض، لكن في الأخير حكم رئيس القضاة لصالح ويلكس في نهاية المطاف، ونتيجة لهذا الحدث أصبح ويلكس رمزا لحركة السيادة الشعبية بين أوساط الطبقة المتوسطة، وأصبح ويلكس رئيس مجلس محلي في لندن عام 1769 ونشط لجماعة تدعى “مجتمع لأنصار وثيقة الحقوق” حيث عززت سياسات ويلكس بشدة. وكانت هذه أول حركة متواصلة ومدعومة، حيث تضمنت اجتماعات عامة ومظاهرات، لكن حرصت هذه الحركة على عدم تجاوز الحدود وعدم التمرد وحاولت إصلاح أخطاء في الحكم من خلال المناشدة بسياقات قانونية موجودة وتصورات لتكون شكل محفز لتحقيق الترتيب التوافقي والدستوري برلمانيا.
ومن بين الحركات الاحتجاجية التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في بريطانيا لإبطال العبودية، قال “بوجين بلاك” عام 1963 “أصبح التأثير السياسي الشعبي المتوسع ممكنا بفضل الجمعيات” فالمنظمة السياسية البرلمانية الحديثة هي نتاج أواخر القرن الثامن عشر، ولا يمكن أن يكتب تاريخ الإصلاح من دونها. ولقد كانت الحركة الوثيقة هي حركة التجمع الأولى للطبقة العاملة في العالم وأنشئت للإصلاح السياسي بين عام 1838 وعام 1848 واعتبر ميثاق 1838 البيان الرسمي لها.
وفي عام 1848 استخدم العالم الألماني “لورنزفون شتاين” مصطلح “الحركات الاجتماعية” في كتابه “الحركات الاشتراكية والشيوعية منذ الثورة الفرنسية”.
وقد قاد “مارتن لوثركنج” حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والتي تعتبر من أشهر حركات القرن العشرين.
وتعد الحركات العمالية والحركة الاشتراكية نماذج للحركات الاجتماعية والتي تهدف لإنشاء أحزاب ومؤسسات اجتماعية وديموقراطية، فقد استطاعت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة مثلا إجراء الكثير من التغيرات من خلال إدخال أو تعديل بنود في الدستور ومثل ذلك ما حققته الحركات النسوية في ميادين المشاركة السياسية[7]. كما اعتبرت هذه الحركات في الدول الفقيرة وسيلة ضغط للاستمرار والإصلاح، على سبيل المثال أدت الثورة الروسية عام 1905 وعام 1917 إلى سقوط نظام القيصرية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وفي الفترة ما بعد الحرب ظهرت العديد من الحركات مثل: حركات التحرر من الاستعمار، حركة حقوق المرأة وحركة الحقوق المدنية وحركة السلام وحركة البيئة …إلخ، وغالبا ما أطلق عليها اسم الحركات الجديدة.
وأدت هذه الحركات إلى ظهور الأحزاب والمؤسسات، ومنه إلى دخول حركات اجتماعية عالمية في اواخر التسعينات مثل الحركة المضادة للعولمة. ويمكننا أن ننظر إلى الحركات الاجتماعية الجديدة من زاوية التناقضات الداخلية التي تتميز بها الديمقراطية الليبيرالية.
ففي الوقت الذي يظهر فيه الحماس للعمل السياسي التقليدي، فإن تعاظم الحركات الاجتماعية الجديدة وتعدد أهدافها وادوارها إنما تدل على أن المواطنين في المجتمعات الحديثة ليسوا عازفين عن العمل السياسي، كما أن هذه الحركات تشير إلى تزايد الاقتناع لدى الناس أن العمل والمشاركة المباشرة قد يكونان أكثر جدوى ونفع من الاعتماد على رجال السياسة والنظم السياسية[8]، وعلى هذا الأساس فإن الحركات الاجتماعية تمثل إحياء للمبادئ والممارسات الديمقراطية في كثير من البلدان، وهي تمثل واحدة من المحاور الأساسية للثقافة المدنية والمجتمع المدني، وتنشط فيه مؤسسات اجتماعية حيوية بارزة مثل العائلة والجمعيات والمنظمات.
لذا فقد أصبحت الحركات الاجتماعية الحديثة في المجتمع الغربي ممكنة من خلال التعليم وزيادة تنقل اليد العاملة بسبب الصناعة وتحظر المجتمعات، حيث يعتقد أحيانا بأن حرية التعبير والتعليم والاستقلال الاقتصادي السائد في الثقافة الغربية من مسببات ظهور الحركات الاجتماعية المعاصرة، ومهما نقل فإن الحركات الاجتماعية لازالت مرتبطة بالأنظمة السياسية والديمقراطية، وأصبحت الحركات الاجتماعية على مر السنين تعبير عالمي للمعارضة
لفهم الحركات الاجتماعية والاحتجاجية لابد من وقفة سوسيوتاريخية للجذور الأولى لانبعاث هذه الفعاليات وضمن هذا السياق يمكن تقسيم تاريخ الحركات الاجتماعية إلى ثلاث مراحل:
أ- المرحلة الأولى: (ما قبل 1968) والتي ظهرت فيها اجتهادات منظري الحركات الجماهيرية، هذا بدون الإغفال عن التراث المتصل بالمجتمع المدني والصراع الطبقي العائد إلى كل من هيجل وماركس فضلا عن نتاجات منظري السلوكيات الجماعية المتأثرة ببارسونز.
ب- المرحلة الثانية: (ما بين 1968-1989) لقد شهدت هذه الفترة ظهور الحركات الاجتماعية الجديدة متمثلة بصعود الحركات الطلابية في أوروبا وحركات السود في الولايات المتحدة الأمريكية المطالبة بحقوقها، وغيرها من الحركات مثل الحركات النسائية والحقوقية والبيئية والتي دفعت الباحثين إلى الاهتمام بزوايا جديدة ودوائر اوسع من الاهتمام.
وكانت حركة الشباب بأوروبا عام 1968 قد شكلت لمرحلة جديدة طرحت فيها لأول مرة مطالب سياسية، لم يستطع احد أن يصنفها ضمن المطالب اليسارية[9].
وبعد ذلك انتقلت هذه الظاهرة إلى العالم الثالث وأمريكا اللاتينية بصفة خاصة، وأخيرا انتشرت هذه الحركات وترسخت جذورها على نحو ملحوظ في أسيا، واللافت للانتباه أن الحركات الاجتماعية الجديدة في طبعتها الآسوية واللاتينية ولدت وتحركت في أطر وسياقات جديدة في خضم حركة مطلبية اقتصادية أو مهنية تخص بعض الفئات الاجتماعية صاحبت المصلحة في تحقيق هذه المطالب.
ت- المرحلة الثالثة: وتتعلق بالفترة الزمنية الممتدة من (1989 إلى الوقت الحالي) وقد عرفت هذه المرحلة تطوير للمقاربات النظرية بهدف فهم التحولات التي تعرفها دينامية الحركات الاجتماعية وارتباطا بعولمة الحياة الاجتماعية التي أكسبت الحركات الاجتماعية أبعادا جديدة بظهور أنماط أساليب وأنواع جديدة منها تلك المناهضة للعولمة والليبيرالية الجديدة[10].
واللافت للانتباه في هذه الحركات الاجتماعية في طبعتها الاوروبية أو في طبعتها التالية في العالم الثالث أنها ناضلت من أجل تحقيق مطالبها بعيدا عن أطر الأحزاب السياسية والنقابات في العديد من هذه البلدان[11].
ويمكن القول أن هذه الحركات الاجتماعية الجديدة التي تتبنى بصفة عامة مطالب اقتصادية واجتماعية تندرج في مجموعتين:
المجموعة الأولى: تتبنى مطالب اقتصادية أو مهنية للفئات اجتماعية جديدة بعضها لم يعرف طريقة لتنظيم النقابي او الاجتماعي من قبل، وقد يرجع ذلك إلى أن هذه الفئات في معظمها هي فئات مهمشة، تسكن مساكن عشوائية بائسة أطراف المدن يطحنها الفقر، الجهل، المرض.
المجموعة الثانية: تتبنى هذه المجموعة مطالب اقتصادية أو مهنية لمجموعة سكانية لا تندرج ضمن فئة اجتماعية واحدة من حيث التقسيم الاجتماعي للعمل.
المحور الثاني : التأصيل النظري للحركات الاجتماعية ومساهمة السوسيولوجيا .
الفقرة الاولى : الحركات الاجتماعية ومسلسل التأصيل النظري .
لقد تمكن عدد من الباحثين من بناء نظريات قائمة بذاتها وفي هذا السياق يمكن تلخيص النظريات والمقاربات الآتية:
الاتجاه الماركسي: يرى هذا الاتجاه أن الحركات الاجتماعية هي ذلك الحراك الجماهيري الذي ينشأ نتيجة للصراع الطبقي ولصراع المصالح المادية (الاقتصادية، الاجتماعية) والتي تهدف إلى التغير في الأوضاع القديمة. وبهذا المعنى فإن المقاربة الماركسية تنظر للحركات الاجتماعية بكونها تنشأ نتيجة للظروف اقتصادية واجتماعية قاسية والتي تدفع طبقة من الطبقات لتوحيد صفوفها لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التقدم الاجتماعي لجميع أفراد تلك الحركة، وانطلاقا من فكرة التغير فإن نشاط الحركات الاجتماعية حسب الماركسية ينطوي على السعي لتغيير القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي الذي يقوم عليها، الأمر الذي يترتب عليه توازنات جديدة وقوى وأشكال جديدة للملكية والسلطة.
وينطلق هذا الاتجاه من دراسة الواقع الاجتماعي للحركات الاجتماعية من واقع أن الحركة الاجتماعية محكومة بجوهر الإنسان الذي يكمن في منظومة علاقات الانتاج الاجتماعية، والتي تعتمد على شكل الملكية لوسائل الانتاج وأشكال توزيع الثروات، وذلك من خلال الصراع بين الطبقة العاملة (البروليتاريا) المقهورة والمستغلة من الطبقة الرأسمالية (البورجوازية) المسيرة، الأمر الذي سيقود انتصار الأولى على الثانية بهدف القضاء على الطبقات في المجتمع. ومنه يمكننا القول أن الاتجاه الماركسي في تناوله نشأة الحركات الاجتماعية وظهورها يطابق بين مفهومي الحركة الاجتماعية والطبقة ويجعل التناقض بين قوى الإنتاج والصراع بين الطبقات والذي يهدف إلى القضاء على الطبقة المسيطرة والوصول إلى حالة مجتمع بلا طبقات.
الاتجاه البنائي: انطلاقا من الفكر البنائي الوظيفي، ظهرت العديد من النظريات التي تتناول الحركات الاجتماعية والتي تفسر أسباب وظروف نشأتها ومن بينها:
أ- نظرية السلوك الاجتماعي: تعود إلى سنوات الخمسينات من القرن العشرين حيث انطلق من خلالها دراسة وتحليل الحركات الاجتماعية وتستند هذه النظرية في تفسيرها للحركات الاجتماعية خلاصات علم النفس الاجتماعي وسيكولوجية الجماهير، كما أنها تربط ميلاد الحركات الاجتماعية بحدوث مظاهرات وأشكال من “الهيستيريا الجماعية” حيث تنتقل العدوى الجماعية، بمعنى أن الحركات الاجتماعية وفقا لهذا الفهم تنطوي على ردود فعل ليست بالضرورة منطقية تماما في مواجهة ظروف غير طبيعية من التوتر الهيكلي بين المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الحركات الاجتماعية تظهر في المجتمعات المريضة، فهي تتضمن أشكال من المشاركة السياسية والاجتماعية[13].
ويعتبر هذا الاتجاه أن نشأة الحركات الاجتماعية ترجع بالأساس إلى الاستجابة العاقلة لتوترات عنيفة في المؤسسات الاجتماعية والتي تؤثر على مجمل النظام الاجتماعي والاقتصادي وتهدد وجوده واستقراره، وبهذا المعنى فبروز الحركات الاجتماعية إنما يشكل انعكاسا للمجتمعات المريضة والتي تعاني من وجود خلل في مؤسساتها، لأن المجتمعات السليمة، إنما تتواجد فيها الأشكال الصحية للمشاركة السياسية والاجتماعية.
ب- نظرية الحرمان النسبي: تفسر هذه النظرية بروز الحركات الاجتماعية ونشأتها استنادا إلى شعور الأفراد بالحرمان من جراء إحساسهم بالتناقض بين التوقعات المشروعة والواقع أو ضمن المقارنات بين أحوالهم في الماضي والحاضر، أو ما بين أنفسهم والآخرين، فيشعرون بالرضا إذا ما كانوا أفضل حال، وبالسخط والإحباط إن ما كانوا أسوء حالا ومنه يتحول السلوك إلى حركات اجتماعية.
ويأخذ على هذه النظرية تركيزها على عامل الحرمان الاقتصادي بالأساس دون غيره من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية والتي قد تسبب مثل هذا الشعور بالحرمان، فضلا على أن هذه النظرية تفسر أسباب قيام العديد من الحرات الاجتماعية وانضمام الأفراد إليها، دون أن يكون لهم الإحساس بالحرمان النسبي.
ت- نظرية الضغوط البنائية: وفقا لهذه النظرية فإن هناك جملة من العوامل التي تشير إلى التفاعل بين مؤثرين هما: الخلل المؤسسي في البنى الاجتماعية من جانب وذلك نتيجة لعدم قدرة تلك المؤسسات على القيام بوظيفتها المطلوبة وعجزها عن الاستجابة لمطالب الجديدة وإفساح المجال أمام القوى الاجتماعية مما يؤدي مثل هذا الخلل من تفشي الشعور بالسخط والاغتراب وانتشار الظلم والإحباط، ومن جانب آخر ظهور الاعتقاد العام الذي يتبلور في صورة إيديولوجيات ورؤى جديدة تسعى لإحداث مثل هذا التغيير للأوضاع القائمة.
ومن أبرز الاتجاهات الحديثة في تفسير الحركات الاجتماعية هي:
نظرية تعبئة الموارد: لقد تطورت هذه النظرية في الستينات من القرن العشرين وهي تبحث في نشوء الحركات الاجتماعية وآليات تدبيرها وتشكلها بواسطة الموارد الاقتصادية والسياسية التي تتوفر للأفراد والجماعات المنخرطة في الفعل الاحتجاجي، وكانت البدايات الأولى لهذه النظرية في الولايات المتحدة الأمريكية، في سياق البحث عن إطار تحليلي للحركات الاجتماعية، خصوصا مع تنامي الحركات النسائية وحركات السود والمدافعين عن البيئة.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الحركات الاجتماعية هي استجابة منطقية في مواجهة مواقف جديدة طرأت على المجتمع حديثا، وتعتبر فرصة لانتقال المجتمع من الوضع الحالي ولا ينظر أصحاب هذا الاتجاه للحركات الاجتماعية على أنها مصدر من مصادر الخلل في المجتمع بل كجزء من العملية السياسية والنظام السياسي نفسه وتسعى إلى الوصول إلى الصورة الأفضل ويتم ذلك من خلال قيام تلك الحركات بتعبئة الموارد وتوظيفها لصالح المجتمع وتطوره.
ويأخذ على هذه النظرية تركيزها على كون الموارد عاملا أساسيا لتشكيل الحركات الاجتماعية، مع إغفاله أن هناك حالات قد تفتقر فيها بعض الحركات الاجتماعية للموارد.
نظرية الحركة الاجتماعية الجديدة: تطورت هذه النظرية في أوروبا لتبرير مجموعة من الحركات الجديدة التي عرفتها الستينات والسبعينات، تنظر هذه النظرية للحركات الاجتماعية كفعل اجتماعي عاكس لتناقضات المجتمع الحديث بسبب العولمة والبيروقراطية المفرطة، ويعتبرون أصحاب هذه النظرية أن الحركات الاجتماعية الجديدة هي نتيجة ظهور تناقضات اجتماعية جديدة والمتمثلة في التناقض بين الفرد والدولة وهو الدافع من وراء انتقال هذه المقاربة من المصالح الطبقية إلى المصالح الغير طبقية المتعلقة بالمصالح الإنسانية العالمية[14]، وهي تهتم في الغالب بتطوير الهوية الجماعية والمراهنة على الفئات الوسطى بدلا من الطبقة العاملة. وما يميز هذه النظرية هو ابتعادها عن إطار الطبقة، ويشكل المكون الثقافي فيها جوهر العمل والنشاط، حيث يركز على الهويات والقيم التي تبتعد عن تلك الأبعاد المادية والاقتصادية التي دعت إليها الحركات الاجتماعية التقليدية.
ويمكننا القول أن تكوين الحركات الاجتماعية الجديدة لا يتأسس بالضرورة على إطار إيديولوجي واحد يجمع بين أفراد تلك الحركة وإنما الأهم هو المزج بين القضايا الاجتماعية العامة والخاصة بالشكل الذي يمكنها من تحقيق الهدف العام والمتمثلة في محاولة تلخيص حالة الاغتراب الذي يعيشونها.
غير أن هذه النظرية واجهت العديد من الانتقادات منها أن:
مصطلح الجديدة له دلالات مفاهيمية خصوصا وأنه يبالغ في تحديد الاختلافات بين الحركات التقليدية والجديدة.
نظرية أو نموذج الفعل-الهوية: يرى أصحاب هذه النظرية أن الحركات الاجتماعية تحول دون الركود الاجتماعي وهي تعمل ضد الأشكال المؤسسية القائمة وكذا المعايير المعرفية المرتبطة بها، فهي تقوم ضد المجموعات المهيمنة على عمليات إعادة الانتاج الاجتماعي والاقتصادي، وتشكيل المعايير الاجتماعية، كما يرون أن هناك إحلال تدريجيا يتم في استبدال النمط القديم للرأسمالية الصناعية بمجتمع آخر وهو مجتمع ما بعد التصنيع القائمة على البرمجة، ويتميز هذا النوع من المجتمع بأنواع أخرى من العلاقات والصراعات الطبقية، وتهيمن فيه الطبقة التكنوقراطية، في حين ينتهي دور الطبقة العاملة كفاعل أساسي ضد الأوضاع القائمة، ويعتبرون أن الصراع الطبقي ذو طبيعة اجتماعية ثقافية وليس ذو طبيعة اجتماعية اقتصادية[15].
وإن الحركات الاجتماعية في طبيعتها القديمة والجديدة تفترض وجود صراع حول مصالح الدفاع عن الحقوق، مع ما يعانيه الصراع والدفاع من وجود خصوم أو مالكين لوسائل الانتاج والإكراه ونظرا لكون العلاقات الاجتماعية قائمة على الصراع الدائم بين من يملك ومن لا يملك، فإن الصراع الطبقي يتواصل ويمهد لانبثاق الحركات الاجتماعية، ذلك أن الحركات الاجتماعية يمكن تشكلها حول مصالح يدافع عنها الفرد أو يحرض الناس للتحرك نحوها[16].
الفقرة الثانية : مساهمة السوسيولوجيا في تحليل وتفسير الحركات الاجتماعية.
أ- مساهمة بيار بورديو: يعتبر بيار بورديو واحدا من أهم المفكرين الذين ساهموا في توسيع دائرة النقاش والتحليل حول الحركات الاجتماعية التي عرفتها فرنسا والعالم من انتفاضة الشباب في أوروبا سنة 1986، منذ ذلك التاريخ استمر بورديو في الاهتمام بتفاصيل هذه الحركات، إلى الدرجة التي صار فيها اسمه مرتبطا بحركات مناهضي العولمة، ليس كباحث فقط وإنما كمنظر، فهو يشكل مع “شومسكي وأنطونيو نيغري وتيار” أبرز المنظرين للحركات الاحتجاجية المناهضة للعولمة
وقد اهتم بيار بورديو بتناول أنماط السيطرة الاجتماعية بواسطة تحليل مادي للنتاجات الثقافية وذلك في إطار إبراز آليات إعادة الانتاج المتعلقة بالبنيات الاجتماعية، وهو يركز في تحليله للحركات الاجتماعية إلى ما بلوره من مفاهيم وأطروحات بخصوص الحقل، والرأسمال، والعنف والمثقف الجمعي، فأدوات التحليل التي اعتمدها بيار بورديو تفيد في فهم ديناميات الحركات الاجتماعية، خصوصا عندما يتم تمثلها كحقول صراعية في نزاع وتنافس مستمر مع مؤسسات الهيمنة والاحتواء[17].
ولقد دعا بورديو إلى “حركة احتجاجية أوروبية” تكون خطوة أولى وهي حركة تفترض مزيدا من الالتزام والانخراط الايجابي للنقابات والحركات الاجتماعية والمثقفين والذين لا بديل أمامهم لمواجهة إكراهات العولمة واقتصاد السوق غير إبداء الرفض والاحتجاج ماديا ورمزيا دفاعا عن الاجتماعي وذلك بإبداع قنوات جديدة لمواجهة الرأسمالية العالمية التي مزجت بين التكنولوجيات الحديثة وسلطة رأس المال وهو يمنحها إمكانيات قصوى للهيمنة والتأثير داعيا بقوة إلى تحصين العلاقات والممارسات الاجتماعية.
فمنذ 1995 بدأ “بيار بورديو” ينظر للحركات الاجتماعية الجديدة ويناضل في إطاراتها المختلفة مقدما في ذلك نموذج للمثقف العضوي، ورافضا كليا النيو ليبيراليةودليله ما انتهى إليه من مقاربات سوسيولوجية وما يؤمن به من التزام سياسي، فما راكمه في كتبه المشهورة:
– مهنة عالم الاجتماع le métier de Sociologue
– الحس العملي le sens pratique
– بؤس العالم la misère du monde
وما إلى ذلك من كتب عميقة جعله ينظر للحركات الاجتماعية محتجا على العولمة والرأسمالية المتوحشة التي تتأسس على قوانين اقتصادية مجحفة[18].
ب- مساهمة ألان تورين: تعتبر الحركات الاجتماعية من بين اهم المباحث الأساسية التي اشتغل عليها ألان توربن، حيث تتميز الحركات الاجتماعية الجديدة عند تورين بقدر معين من التنظيم والاستمرارية اللذين يؤديان إلى الفعالية في إعادة إنتاج تاريخ الأنساق الاجتماعية ويؤسس ألان تورين الحركة الاجتماعية على ثلاثة مبادئ أساسية هي:
مبدأ الهوية: ويقصد به ضرورة تحديد الهوية الذاتية التي يمكن أن تكون متعددة ومركبة (مجموعة، طبقة، شريحة اجتماعية، …) وبمقابلها أيضا يجب تحديد هوية الخصم.
مبدأ التعارض: يفترض مبدأ التعارض في الحركة الاجتماعية تحديد الخصم، أي يجب أن يكون الخصم الذي تقوم عليه الحركة واضحا وموضوعيا، مثال: الحركة العماليةضد تنظيم العمل من أجل الاستقلال العمالي.
مبدأ الكلية: ويقصد ألان تورين هنا بأن الحركة الاجتماعية مكونة من وعي جمعي وبصيغة جمعية وشمولية لا أقلية وفردية من اجل النجاح في التأثير على الرأي العام من أجل الحصول على الحقوق والمطالب[19].
ومنه فالحركات الاجتماعية التقليدية تتكون من ثلاث عناصر حسب “ألان تورين”:
– الدفاع عن الهوية والمصالح الخاصة.
– المنافسة والصراع.
– الرؤية المشتركة في تقاسمها الحركة مع منافسيها[20].
والواقع أن آلان تورين يستند بالحركات الاجتماعية إلى موقفه النقدي من فكر ما بعد الحداثة باعتباره فكرا هداما للنموذج العقلاني، مؤكدا أن هذه الحركات هي فعل خاص يؤشر على سلوك جمعي للفاعلين من جماعة معينة تناضل ضد جماعة أخرى من أجل القيادة الاجتماعية فالصراع حاضر بقوة في مستوى هذه الحركات، ويميز تورين في تصنيفه لهذه الحركات بين الجانب النوعي المتصل بالأشكال والصيغ، والجانب التنظيمي المفتوح على شروط الانتاج والتكوين[21].
وأن العمل السوسيولوجي حسب رأي آلان تورين لا يفترض ممارسة ذات بعد واحد، فثمة عوامل أخرى أكثر أهمية يتوجب الانتباه إليها في تفسير الفعل الاجتماعي.
لقد عمل آلان تورين على تأسيس نظريته حول الحركات الاجتماعية وتحديدا حول الجديد منها في منجزه “الوعي العمالي la conscience ouvrière” والذي يعتبر فيه العمال فاعلين نازحين بامتياز.
الخاتمة :
يمكننا القول أن ظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية عابرة لمختلف النظم السياسية، فهي موجودة في النظم الديموقراطية وغير الديموقراطية، لكنها في الأولى عادة ما تؤدي إلى تطوير النظام ولفت الانتباه إلى ثغر ومظالم اجتماعية أو تهميش سياسي يؤدي إلى تحسين أدائه وأحيانا تجديد نخبته، أما الثانية فإنها تكرس أو تعمق أزماتها لأنها عادة ما يعجز عن الاستجابة لمطالب المحتجين السياسية، وقد يستجيب لجانب من المطالب السياسية والاجتماعية عن طريق تغيرات في بنية العلاقات بين النظام والمحتجين، غير أنه يلبي جانبا ويرفض جوانب كثيرة بصورة لا تجعله قادرا على الاستفادة منها من أجل التطور الديموقراطي والانفتاح السياسي.
ومن كل ما سبق يمكننا تبين دور وأهمية الحركات الاجتماعية في عملية التغير الاجتماعي وتحقيق المطالب، وعلى اختلاف أنواعها ومسببات حدوثها وانتشارها ونجاحها وفشلها، فإنها ظلت فاعلا رئيسيا في المشهد السياسي والاجتماعي لعدة قرون، ولقد ظلت بذلك رغبة الإنسان في ممارسة الاحتجاج ضد اللامساواة والطبقية والعبودية والحرب وغيرها من مظاهر الظلم الاجتماعي دافعا للاستمرار رغبته في استعمال وسائل تتيح له استرداد حقوقه ومواجهة خصومه ولو باستعمال العنف.
الهوامش :
[1] تلي تشارلز، الحركات الاجتماعية، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، مصر، 2005، ص44.
[2] BOUDON RAYMOND et autre, Dictionnaire de Sociologie, Impression Bussiere, France, 2005, P159.
[3] غيث محمد عاطف، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2006، ص394.
[4] NEVEU ERIK, Sociologie de mouvements sociaux, Edition la Découverte, 2002, P03.
[5] الشوبكي عمر وآخرون، الحركات الاحتجاجية بين السياسي والاجتماعي في الوطن العربي، (مصر، المغرب، لبنان، البحرين)، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، لبنان 2011، ص151.
[6] نوير عبد السلام، الحركات الاجتماعية والسياسية، مجلة الشؤون الاجتماعية، العدد 100، الشارقة، الإمارات العربية، 2008، ص25.
[7] أنتوني غدنر، علم الاجتماع، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، عمان، الأردن، 2005، ص487.
[8] أنتوني غدنر، نفس المرجع السابق، ص488.
[9] سمير أمين وفرانسوا اوتار، مناهضة العولمة، حركة المنظمات الشعبية في العالم، مركز الدراسات، القاهرة، مصر، 2003، ص54.
[10] عزة خليل، الحركات الاجتماعية في العالم العربي، مركز البحوث العربية والإفريقية، القاهرة، مصر، 2006، ص32.
[11] فريد زهران، الحركات الاجتماعية الجديدة، مركز القاهرة للدراسات، ط1، القاهرة، مصر، 2007، ص55.
[13]معمري سارة، المجال العام المفتوح ووظيفته في عملية المظاهرة، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع، جامعة الجزائر 02، 2015، ص55.
[14] معمري سارة، مرجع سابق، ص55.
[15] أنتوني غذنر، مرجع سابق، ص486.
[16] خليل أحمد خليل، المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، دار الحداثة، بيروت، لبنان، ط1، 1984، ص95.
[17] BOURDIEU PIERRE, L’essence du néolibéralisme, le monde diplomatique, Mars, 1998, P22.
[18] العطري عبد الرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب، دفاتر وجهة النظر،العدد 14، الرباط، المغرب، 2007، ص37.
[19] ألان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، ترجمة أنور مغيث، القاهرة، مصر، 1997، ص29.
[20] GUY VAILLANCOURT (J), Mouvement ouvrier et mouvements sociaux, l’approche D’Alain Touraine, Revue cahiers de recherche Sociologique, Montréal, N°17, 1991, P213.
[21] العطري عبد الرحيم، المرجع السابق، ص34.