علاء اللامي
لماذا هي الأولى وما قبل الأخيرة:
القولُ إنها الحرب الفلسطينية الصهيونية الأولى، لا يعني أيَّ بخس أو استهانة بكفاح الشعب الفلسطيني وانتفاضاته وثوراته وحركاته المقاومة المسلحة طَوال قرن ما يزال مستمرا. ولكننا نتحدث هنا عن حرب كاملة الأركان والأوصاف، هي الأولى لأنها، ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، انطلقت بقرار فلسطيني بحت وبتخطيط فلسطيني وقوات مسلحة فلسطينية.
أما لماذا هي ماقبل الأخيرة فذلك لأنها أعادت هذا الصراع إلى المربع الأول، مربع اغتصاب الأرض سنة 1948 وإنشاء الكيان وتهجير نصف السكان الأصليين من وطنهم، ولأنها هزَّت هذا الكيان هزّاً عنيفا وأكدت له أن لا مستقبل له في المنطقة وأن انتصاراته على الأنظمة العربية في العقود الماضية وتسلحه بالسلاح الحديث والتكنولوجيا الغربية العالية لم تحمه من الهزيمة المرة التي ذاقها يوم السابع من تشرين الأول الماضي، ولقد كانت هذه الحرب بمثابة التمرين العام والحقيقي على الحرب القادمة والتي ستكون الأخيرة معه وتنتهي بتفككه وزواله.
لقد انكشف هذا الكيان على حقيقته ككيان أيديولوجي خرافي ديني ومعه انكشف الابتزاز الذي كان يقوم به حملة الخطاب العلماني القشري المزيف والذي يناوئ فصائل المقاومة الفلسطينية بحجة أنها إسلامية سلفية كحركة حماس، قافزين على حقيقة يؤكدها القانون الدولي والإنساني العام ومعطيات التأريخ والتي تقول إن الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي لا علاقة لها بإيمان المقاومين ونوع الأيديولوجية التي يحملونها. هذا أولا، وثانيا فقد سقطت ورقة التوت عن الخطاب الديني السلفي الصهيوني خلال هذه الحرب الدموية التي يشنها الكيان بعد هزيمته أمام المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان.
مَن يريد تحويل الصراع إلى ديني:
لقد سقطت ورقة التوت عن جوهر الخطاب السلفي الرجعي للكيان كما قلنا، والأدلة كثيرة لعل من أهمها قيام ثلاثة وأربعين حاخاما بتوجيه فتوى مكتوبة إلى نتنياهو يبلغونه فيها بـ “جواز” قصف مستشفى الشفاء في قطاع غزة من ناحية دينية، كما نقلت القناة”14″ الإسرائيلية. الحادثة الثانية في هذا السياق هي تصريحات نتنياهو شخصيا في 25 تشرين الأول/ أكتوبر، والتي هدد فيها إنه سيحقق “نبوءة إشعياء” في هذه الحرب، واصفاً الفلسطينيين بأنهم “أبناء الظلام”، والإسرائيليين بـ “أبناء النور”. حيث قال: “سنمضي قدما بسرعة لتحقيق النصر، وبقوتنا الجماعية وإيماننا العميق بصلاحنا وخلود الشعب اليهودي. نحن أهل النور، وهم أهل الظلمة، سوف نحقق نبوءة إشعياء”. فمن هو إشعيا وماذا تضمنت نبوءته تلك؟
إشعيا هو أحد أنبياء التوراة، عاش في القرن الثامن ق.م. وكسائر أنبياء التوراة لا توجد أدلة إركيولوجية “آثارية” ملموسة، أو أدلة تأريخية من خارج التوراة تؤكد وجوده التأريخي قط، ويقتصر وجوده إذن على الوجود الروائي ضمن السردية التوراتية.
وهذه النبوءة التدميرية، لا تتعلق بالفلسطينيين الذين كانوا قد اندمجوا وذابوا بالكنعانيين أهل البلاد الأصليين بل تتوعد المصريين والدمشقيين بالخراب الشامل الذي سينزله إله الجنود “رب الإسرائيليين القدماء” بهما، فبخصوص مصر تقول النبوءة:
” هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا، وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا. وَأُغْلِقُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ فِي يَدِ مَوْلًى قَاسٍ، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ عَزِيزٌ، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ”.
أما بخصوص دمشق فقد تضمنت نبوءة إشعيا الآتي: “وحْيٌ مِنْ جِهَةِ دِمَشْقَ: هُوَ ذَا دِمَشْقُ تُزَالُ مِنْ بَيْنِ الْمُدُنِ وَتَكُونُ رُجْمَةَ رَدْمٍ. مُدُنُ عَرُوعِيرَ مَتْرُوكَةٌ. تَكُونُ لِلْقُطْعَانِ، فَتَرْبِضُ وَلَيْسَ مَنْ يُخِيفُ. وَيَزُولُ الْحِصْنُ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْمُلْكُ مِنْ دِمَشْقَ وَبَقِيَّةِ أَرَامَ”.
هذه هي نبوءة إشعيا التي بعثها نتنياهو “ابن النور” حيةً تسعى، وتوعد أعداءه “أبناء الظلام” بتنفيذها، فهل عرفنا الآن من هم الذين يريدون أن يجعلوا الصراع الفلسطيني الصهيوني حربا وصراعا دينيا طائفيا، ومن هم أولئك الذين يكررون أنهم يريدونه صراعاً بين حركة مقاومة ضد دولة احتلال اغتصبت الأرض وتبيد الشعب صاحبها؟
للأنثروبولوجيا كلمة:
لندع كلام السياسة جانباً لدقائق، ولنستمع لما تقوله علوم التأريخ والآثار والإناسة عن أكذوبة إسرائيل القديمة البائدة والأكذوبة الأخرى القائمة اليوم، لنتمعن بهذه الخلاصات:
-هذه الدولة التي يسمونها “إسرائيل” ليس لها حدود رسمية معلنة حتى اليوم.
-علمها الرسمي بخطيه الأزرقين يؤكد خرافة الوعد التوراتي بأن أرض إسرائيل ستمتد بين الفرات والنيل، بمعنى أنها تريد ضم نصف العراق الغربي ونصف مصر الشرقي وما بينهما.
-ليس لهذه الدولة دستور مكتوب بل ثمة مجموعة مما يسمونها القوانين الأساسية اعتبرت دستورا. “بسبب عدم قدرة المجموعات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي على الاتفاق على هدف الدولة وهويتها ورؤيتها على المدى الطويل” كما تقول الوثائق الصهيونية.
– لم تحدد هذه القوانين الأساسية الصهيونية نوع الدولة، فهي “دولة” فقط، فلا هي جمهورية ولا هي ملكية ولا هي إمارة!
-وهي دولة قائمة على الانتماء العنصري الإحادي رغم أن سكانها في غاية التنوع الإثني وبينهم ملايين العرب الفلسطينيين الذين تشبثوا بأرضهم ولم يشملهم التطهير العرقي سنة 1948، وهذا الانتماء العنصري ثابت بموجب قانون صدر من برلمانها “الكنيست” هو قانون الدولة القومية لليهود الصادر بتأريخ 19 تموز 2018.
-وحين نقول إنها دولة خرافية أيديولوجية فهي فعلا خرافية لأنها قامت على أساس من مزيج قومي صهيوني وديني توراتي و”وعد إلهي” لا يُلزم أحدا غير المؤمنين بالتوراة، مثلما لا تلزم دولة داعش إلا أعضاء هذا التنظيم فقط.
-هذه الدولة التي يسمونها إسرائيل الصهيونية لا علاقة لها بمملكة إسرائيل المنقرضة إلا لجهة الترويج والبروباغندا. كيف ذلك؟
– إنَّ أورشليم القدس لم تكن عاصمة إسرائيل القديمة أبداً، بل كانت السامرة أو “سامارين” عاصمتها. وجغرافيا فإسرائيل القديمة البائدة نفسها تقع كلها اليوم في الضفة الغربية الفلسطينية.
-(أورشليم) ليست كلمة عبرية، ولم تكن مدينة يهودية، بل هي مدينة بناها اليبوسيون الوثنيون وهم قبيلة كنعانية، و”أورشليم” كلمة كنعانية مؤلفة من مقطعين “أور” وتعني ” مدينة” ومثلها أور السومرية بالعراق، وشاليم أو ساليم التي تعني “السلام” كما يرى باحثون، فيما يرى آخرون منهم عالم الآثار التوراتي المؤيد للصهيونية ويليام ألبرايت أن شاليم كان إلهاً للغروب والغسق في حين كانت شقيقته الإلهة سَحَر إلهةً للشروق والسَحَر”.
-إن (إسرائيل) القديمة لم تكن دولة يهودية توحيدية بل وثنية تعددية، وقد لعنت التوراةُ هذه الدويلة وملوكها من سلالة آل عُمري. ومما ورد بخصوص هذا الملك المؤسس الحقيقي لها قول التوراة (ولم يعمل عُمري الشيء المستقيم في عيني الرب. وعبد الأصنام التي عبدها يربعام. وعمل من الشر ما لم يعمله أي ملك آخر من قبله من ملوك إسرائيل (1 مل 16: 26؛ مي 6: 16).
-أما (أورشليم) القديمة، فقد كانت بلدة أو قرية زراعية كنعانية صغيرة، ولم تصبح يوما عاصمة إمبراطورية يهودية كما زعمت التوراة، ولكنَّ بني إسرائيل من العبريين أو من يُزْعَم أنهم عبريون، تسللوا إليها وسيطروا عليها وأنشأوا دويلة – أو مشيخة بمصطلحات توماس طومبسون – سمّوها يهوذا صغيرة إلى جانب العديد من دويلات المدن الكنعانية باعتراف التوراة حيث نقرأ: “فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً، وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِمْ وَعَبَدُوا آلِهَتَهُمْ” (قض 3: 5).
-إنَّ دويلة “يهوذا” أصغر مساحة من إسرائيل البائدة، وهي عبارة عن حزام من القرى حول مدينة أورشليم القدس، وأن الدويلتين المنقرضتين “إسرائيل” و” يهوذا” لا تتجاوز مساحتهما نصف مساحة فلسطين، فما معنى مصطلح “أرض إسرائيل” الذي أحيَّته الحركة الصهيونية المعاصرة وأطلقته على عموم أرض فلسطين القديمة والمعاصرة؟
-أما دولة إسرائيل الصهيونية القائمة اليوم فمن الطريف أنها تقع كلها على أراضي فلسطين التأريخية التي لم يسكنها بنو إسرائيل المنقرضون!
-وأخيراً، فإن اسم “إسرائيل” نفسه ليس لقباً عبرياً للنبي يعقوب بل هو اسم كنعاني مركب من مقطعين “إسرا” واختلفوا في معناها بين صرع الرب حسب سفر التكوين، وأسر الرب، وجندي الرب…إلخ، والثاني “إيل”، وإيل هو الإله جزيري “سامي” يقابل إله اليهود يهوه ويهوى؟ يهوه «الرب» هو الاسم الرئيسي في العهد القديم، ويتجنب اليهود عموما استخدام اسم الرب واستبدلوا به أسماء أدوناي أو إلوهيم عند قراءة الكتاب المقدس. فمن أين جاء اسم الإله الوثني إيل؟
أما كلمة إلوهيم والتي هي صيغة جمع جزيرية قديمة لكلمة (إله)، فتعكس بقايا الوعي الديني الوثني التعددي لدى اليهود في فترة ما قبل التوحيد.
إنَّ هذه المعطيات والحقائق لم يكتبها باحثون عرب ومسلمون بل باحثون متخصصون محايدون أحيانا وبعضهم إسرائيليون ويهود توراتيون وغير إسرائيليين، وسأذكر أدناه أسماء بعضهم مع عناوين كتبهم وخصوصا المترجمة إلى العربية والمتوفرة في نسخ رقمية (PDF) مجانية على الانترنيت ويمكن أن تكون مفيدة في ميدان التثقيف الذاتي لجيل الشباب العربي المعاصر:
– “التوراة مكشوفة على حقيقتها” لفنكلشتاين.
– “اختراع الشعب اليهودي” و”اختراع أرض إسرائيل” لشلومو ساند
– “التطهير العرقي لفلسطين”، و”عشر خرافات عن إسرائيل” لإيلان بابيه.
– “اختلاق إسرائيل القديمة” لكيث وايتلام .
ما بعد الطوفان
ولأن هذه الحرب هي الفلسطينية الصهيونية الأولى، ولأنها بدأت بهذا الزخم، فقد كان رد العدو عليها دمويا استهدف المدنيين الفلسطينيين وقتل الآلاف منهم بكل برودة دم بعد أن حصل على شيك أميركي غربي مفتوح للقتل. والواقع فلم يحقق العدو شيئا. بل بدأ يخفف من سقف أهدافه من “تغيير الشرق الأوسط بشكل عميق” والقضاء على حركة حماس واجتثاثها من الجذور إلى إضعاف حماس والإطاحة بحكمها في غزة ثم جرى تخفيض هذا السقف إلى ما هو أوطأ من ذلك، وبدأ إعلامه يروج لحل “ترحيل الجناح العسكري لحماس من غزة على طريقة “بيروت 1982″، وأخيرا استقرت قيادة العدو على تهديد مضحك يقول “سنقطع أية علاقة لنا بغزة” فعن أية علاقة يتحدثون وهم يحاصرون القطاع وسكانه براً وبحراً وجواً منذ سنة 2006؟ هل يقصدون حرمان 15 ألف عامل فلسطيني من دخول الكيان؟ حسنا هم بهذا سيزودون المقاومة برصيد بشري جديد!
لكل ما تقدم من عوامل، يمكن أن نتوقع أن هذه الحرب ستطول وهي مستمرة في شكل حرب إبادة من الجو من طرف العدو، وحرب قنص والتحام من المسافة صفر من طرف المقاومة. فقيادة الكيان تدرك أن هذه الحرب هي حرب وجود أو زوال بالنسبة لها في مواجهة أصحاب الأرض الحقيقيين – وليس من الخالي من الدلالة أن ثلاثة أرباع سكان غزة هم من ضحايا التطهير العرقي الصهيوني الذين هُجِّروا من مدنهم وقراهم سنتي 1948 و1967فتجمعوا في مخيمات غزة، وقيادة المقاومة الفلسطينية تدرك أنها حرب بقاء واستعادة الوطن وسيكون ثمنها باهظا بسبب وحشية ودموية العدو وشركائه في المقتلة.
ما ينبغي الانتباه له والحذر منه في هذه المرحلة هو الطعنات من الخلف التي قد توجهها أنظمة التطبيع التي أثبتت تبعيتها للصهيونية وخصوصا في حكومات الخليج العربي والمغرب الأقصى إضافة إلى مصر والأردن اللتين لم يبدر من حكومتيهما أي تلويح أو تلميح لإلغاء اتفاقيات السلام والتطبيع وقطع العلاقات مع دولة الكيان كما فعلت جمهورية بوليفيا غير العربية ولا الإسلامية، وفي حين اكتفت الحكومة الأردنية باستدعاء سفيرها والطلب من حكومة الكيان عدم إعادة سفيرها الى عمان ربما لأسباب أمنية تتعلق بالخشية عليه من الشارع الغاضب فإن الحكومة المصرية لم تبلغ هذا المستوى من الاحتجاج بل أن رد الرئيس المصري على الطلب الصهيوني الأميركي بالموافقة على تهجير سكان غزة إلى صحراء سيناء جاء صادما ومهينا حين طرح أمام إسرائيل مقترحا بديلا بتهجير الغزيين إلى صحراء النقب بدلا من سيناء!
لقد فتحت عملية طوفان الأقصى عصرا جديدا واعدا رغم قسوته وفداحة ثمنه بشرياً لكونه أمام عدو متوحش فاشي النزعة، ولن يكون بإمكان الكيان الإسرائيلي وحماته الغربيين عكس مساره والعودة به إلى الماضي ولا الإفلات من مآلاته الحتمية، فوضعته أمام الحقيقة المرة التي هرب منها سبعة وخمسين عاماً وهي أنه كيان مؤقت، خرافي، عنصري، مفتعل ومفروض على أرض شعب آخر بقوة السلاح والمال الغربيين وتبعية وتواطؤ أنظمة الحكم العربية وإنه سيزول ويتفكك بعد أن يفقد كل عوامل بقائه الجاذبة وفي مقدمتها أمن وسلامة مستوطنيه. وسيبدأ غالبية هؤلاء المستوطنين بالعودة إلى بلدانهم الأصلية.
أختم بالقول؛ إذا ما بدأ تفكك وانهيار هذا الكيان الملطخ بدماء الأبرياء فستكون مهمة الإنسانيين وذوي القلوب الرحيمة العرب في الحد أو التخفيف من عمليات الثأر الانتقامية من الصهاينة مهمة صعبة وشبه مستحيلة بسبب الجرائم الشنيعة والهذيانية التي ارتكبتها دولة “إسرائيل”، وكأن هذه الدولة بقتلها كل أسرة فلسطينية تزرع المزيد من الأحقاد والثارات التي لم يألفها عرب المشرق في الماضي البعيد والقريب!