ان تشبيه “الحالة الكردية” على أنها “إسرائيل ثانية” كما يصفها
البعض…، قول غير صحيح مطلقاً، وهو ناجم عن ترسبات وأوهام والتباسات قومانية يمينية عربية وغير عربية،…
المناضلون والمثقفون الأكراد بمن فيهم تلك الشريحة الواسعة من المثقفين العضويين، لهم الدور البارز والمتقدم في عموم مراحل النضال، في إنضاج وتعميق الحراك الديمقراطي وإعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة والعدالة الاجتماعية، آلاف الكوادر الكردية ناضلت وتأهلت في صفوف الجبهة الديمقراطية والثورة الفلسطينية، وحتى نتحدث عن التاريخ علينا أن نتوخى الدقة العلمية، وعلى سبيل المثال دورهم في العراق، ودورهم في إنجاز “المصالحات المجتمعية الوطنية”، وهنا لا أتحدث عن السياسات الفوقية المعزولة، بل أتحدث عن الحراك الديمقراطي الكفيل بتكريس وحدة المجتمع العراقي على أسس جديدة، وتعميق هويته وثقافاته بين الأوساط الطبقية المغيبة في الحياة السياسية والاجتماعية، وتلك المهمشة والمعممة على جميع مكوناته، أي أقصد طبقات القاع والمهمشين، ونحو تغيير واقعها وإنجاز حاجاتها الاجتماعية والمطلبية، وتنمية إحساسها بالضيّم، قوة هذا الترابط والتقاطه لم تتوقف عند أي انتماء ومكون كان، أو عند هويات المكونات، وكانت تنتقل وتجد ذاتها على امتداد الوطن العراقي تجمعها المصالح المشتركة، ولا تشوهها التمايزات في تصنيف الهويات الفرعية، هذا المفصل الكفاحي شكَّلَ بُعداً رئيسياً لاكتشاف قوة هذه الحركة، تقوم على العناصر والتجمعات الأكثر وعياً والشرائح الاجتماعية المهمشة على اتساع الوطن، وعي كبير ضد الانسلاخ والإقصاء والفصل بشتى أشكاله…
اليوم يعيش العالم تحت ظلال العولمة، والشعوب تتفاعل نحو عولمة شعبية بديلة، والأهم أن هذا التفاعل يجري في رحاب ما يسمى “القرية العالمية”، وعلينا وعلى الشعوب المكافحة بتحويلها إلى قرية إنسانية عاقلة عادلة من موقع الانغمار بالعلوم والتقدم، الانغمار بالمعارف وتجارب الشعوب، بالثقافة والقيم الرفيعة والفنون، بالإنجازات الرائعة للبشرية… وهنا مرة أخرى نُعول كثيراً على الثقافة الكردية، لأنها تمتلك مخزونا نضاليا كبيرا، ولأن لها مثقفين متميزين على امتداد تاريخها، هذه الثقافة التي لن تفقد خصائصها، كما لن تفقد هويتها القومية والإنسانية التقدمية، وهي ثقافة نضالية إنسانية رفيعة على مستوى التفاعل والتلاقح مع الثقافة العربية والثقافات المجاورة، ومن عمق التاريخ، هذا ما يرفع عناصرها ويحصنها من الذوبان، كما حصنها من الابتلاع الشوفيني التاريخي والراهن على يد أنظمة الهيمنة القومجية الاستبدادية واليمينية في الشرق الأوسط، وهي تتحدى ظروف الانتهاك، كما لا يمكن عزلها أو تواريها، لأنها تستطيع أن تبني وطناً، لا تفرقها المصالح ويضيع فيها الفقير والمحروم، أو يهيمن عليها وتُستلب إرادتها من قبل الأمراء وملوك الطوائف وخنادقهم المتبدلة لحسابات خاصة ومصلحية ذاتية، بديلاً من أن تكون مهمومة بالحرمان والبطالة وغياب الخدمات والنهب والفساد المستشري في الدولة والنُخب الحاكمة باسمها في المألوف السياسي السائد، وفيما اطلع الآن؛ فإن الثقافة الكردية التقدمية وعلى امتداد تراثها هي مع تعميق الشعور الشعبي بوحدة المصالح والتطلعات والهموم على أسس ديمقراطية وتوافق وطني في المشهد العراقي ذاته والبلدان الأربعة في الشرق الأوسط.
أمام هذا المعيار الواقعي فإنه يسقط التوصيف بـ “إسرائيل ثانية”، فلا فوبيا لدى التيارات القومية اليسارية الديمقراطية والتقدمية إطلاقاً، البعض هنا يؤسس طالعه من طبائع الأنظمة الطبقية اليمينية والرجعية، وخصوصية مرجعياتها المركزية في الحكم وفي هيمنة مفاهيم تقليدية لـ “الأمن القومي”، فضلاً عما تركته الانعكاسات السلبية والغائمة للصراع الداخلي في المكونات داخل مجتمعات الشرق الأوسط، من ظواهر الاستبداد السياسي، وتصاعد مدّ الأصوليات السياسية والإيديولوجية والدينية المذهبية، والتي انعكست فيما بعد على إنتاج أزمات أكثر تعقيداً.
سبق وأن تحدثت عن أزمات الجوار التي أطلقت العنان لمكبوتات أصولية وسلفية عبرت عن منظورها الدموي المتطرف للهويات، ثنائيات صراعية بعيدة عن اشتغالات العقل السياسي والثقافي، مثل ثنائيات “الاستبداد والحرية، السلطة والنظام التعددي، الإسلام والآخر، المذهب والمذهب الآخر”، هذه المكبوتات جرى تأجيجها، وهي التي بررت وتبرر وتسهل وجود القوات الأميركية في العراق، ناهيك عن حساسية المنظور الأمني الذي جاء مع معطيات نشوء العراق الراهن، والناجم عن طبيعة علاقته مع قوات الاحتلال الأميركي؛ في الوقت الذي تنحاز به الولايات المتحدة بالكامل إلى “إسرائيل”، بما يعني من مكيالين، وبما يستبطن من معضلات أخلاقية، أليس هذا ما دفع بن لادن وعبر توصيفاته بالربط بين الاحتلال والولايات المتحدة والآخر العراقي “المسيحي” بالدعوة للحرب ضد “الكلدانيين ـ الآشوريين المسيحيين” سكان البلاد الأصليين شعوب وحضارات السومريين، الآشوريين، البابليين… الخ.
وهذا ليس بمعزل عن أزمات الجوار وألاعيبها وصادراتها “الفقهية والبشرية”، فسياسات الدول تقوم على أعراف “التعامل الإيجابي والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشأن الداخلي، وحل مشاكل الشعوب بحق تقرير المصير القومي ـ الإثني بالحوار والمفاوضات والطرق السلمية، فلماذا كان يجري هذا كله تاريخياً وراهناً، وليس فقط منذ مطلع القرن العشرين (معاهدة سيفر 1919) حتى يومنا.
وحول “الموقف السلبي للدول الكبرى تجاه الدولة الكردية”، لنعود إلى الإستراتيجيات التي رُسمت للمنطقة مع مطلع القرن العشرين، فالخرائط الموجودة راهناً على أرض الواقع هي نتاج هذه الإستراتيجيات للدول الراهنة بخرائطها، فظهرت حينها دول جديدة جراء التقسيم، وعلى واقعها القائم الراهن يدور الصراع الإقليمي.
وتبرز القضية الكردية القديمة الجديدة بعد الإطاحة بالنظام السابق على المستوى الإقليمي، مع ملاحقة وملاحظة التغييرات في أجندة الدول الإقليمية والدولية الشرق أوسطية، فالمشروع الأميركي يمكن حصره بطورين: الأول والأبرز هو محاولة تحكمه بالتطورات في العملية السياسية بكاملها الداخلي والخارجي؛ ويلاحظ تأطيرها في مديات زمنية محددة، من أجل إنجاز وإنضاج قوى لها مصالح وأجندة سياسية تابعة للتطلعات الأميركية، وفي الثاني إدخالها في مشروعها الشرق أوسطي “الشرق الأوسط الجديد”، والدخول في صراع إقليمي “العراق الجديد” على قاعدة تعقيدات وتشابك المصالح الإقليمية في امتدادها في المنطقة، ونحن نرى أن هذه النتائج التي تحصل في العراق الجديد، حيث برزت قوى إقليمية جديدة تبحث عن دورها ومصالحها في الإقليم عموماَ، وعلى أساس تلك الرؤية دخلت أنظمة الحكم الشرق أوسطية في حروب داخلية عبر مكوناته، كلاً منها يبحث إما عن الإمساك بالسلطة، والآخر يعمل على العودة إليها، فيما شهدناه من حروب إرهابية دموية بائسة، لعبت بها قوى قومجية ودينية طائفية ومذهبية أصولية في تناحر عبثي دموي جرى تصديره في أكثر من بلد في الشرق الأوسط ضد حق الشعوب بتقرير المصير.
وتكتمل اللوحة بها إذا ما أضفنا أن القوى الطبقية والسياسية الحاكمة في الشرق الأوسط تتسم بصفات طائفية ومذهبية، ولا يعني هذا تبرئة الدولة المنهارة باتشاحها رداء العلمانية، حين نرى أنها حصرت الأنشطة الاقتصادية بعمومها الغالب بيد طائفة مستفيدة، لكن ما جرى في السلطة الحاكمة سحب نفسه بالأساس على أحزاب مذهبية…
في كردستان ـ العراق، رغم خصوصيات الاستقرار السياسي والأمني، وتدفق الموارد المالية من حصص “النفط مقابل الغذاء” إلا أن العملية الاقتصادية التي جرت في الإقليم ونتائجها، تداخلت فيها معطيات في التطور الاقتصادي والسياسي في كردستان، فقد دمجت عضوياً بين الجهازين الحزبي والإداري، في غياب الفصل بين الحزب كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني وبين أجهزة الدولة باعتبارها الفاعل الأساسي في المجتمع، كما تقدمت الوشائج والروابط العشائرية للتشكيلات الحزبية السائدة في أجهزة الدولة الإدارية، وجرى تداخل في البنية مع الأنشطة الاقتصادية بكل ما ينتج عنها، وبروز قوى طبقية بتطلعاتها السياسية، والطفرة في قطاع العقار وتوزيع الأراضي وارتفاعها إلى أرقام خيالية…
لا نغفل هنا وفرة الموارد المالية، وازدهار قطاع الخدمات، فالشمال مُورد في الحصار من دول الجوار وبما يحمله من ترابط المصالح الاقتصادية والسياسية بين الأطراف المتعاقدة من قبل القوى النافذة في الإقليم، وبرزت سلبيات انحسار مساحة الأراضي الزراعية المزروعة، بسبب الوفرة والمستوردة وامتناع عدد واسع من الفلاحين عن الفلاحة، فالنموذج المصدر هو الرأسمالية المتوحشة، المترافقة مع عشرات الفضائيات وهيمنتها على الفضاء العام، ويفسر هذا أيضاً الكم الهائل من الصحف ومحاولات الهيمنة على الحياة الفكرية والسياسية، هنا لا يخص الأمر كردستان، بقدر ما يخص ذلك الإعلام الطائفي، بدلاً من إعلاء شأن المواطنة والديمقراطية وصيانة مصالح البلاد، وحق الشعوب بتقرير المصير بدون “وصاية استبدادية مدنية أو دينية”…
على هذا الواقع؛ فضلاً عن المشكلات الموروثة التي صنعها النظام السابق جراء سياساته مع العديد من دول الإقليم الكويت، إيران، سورية، السعودية، فضلاً عن الديون الكبيرة على المستوى الاقتصادي، وتعقيدات الوضع الأمني العراقي ذاته، فإننا نشاهد التدخل القديم الجديد بالشأن العراقي، وهنا تبرز كردستان العراق في الأعمال والتهديدات التركية العسكرية، بدءاً من قضايا المياه، فضلاً عن دخولها أيضاً على قضية الصراعات القومية في العراق، خاصة بما يتعلق بالتركمان، وقضية كركوك، وتهديدات حزب العمال الكردستاني التركي، والذي يواجه بعمليات عسكرية دائمة داخل الأراضي العراقية كما حال العمليات العسكرية الإيرانية ضد حركات كردستان إيران، وبالنظر إلى أن العلاقات العراقية ـ التركية كانت محكومة بعوامل معقدة مع النظام السابق، فإنها اليوم محكومة بعوامل أخرى، حيث لا يمكن لتركيا القيام بعمليات عسكرية في الأراضي العراقية دون ضوء أخضر ساطع أميركي، فقد كانت تدخلاتها العسكرية إبان وجود الدولة المركزية وسيلة لإضعاف سلطة بغداد قبل الغزو، بل وإحراج النظام الاستبدادي السابق، تلك التي جرت شمال خط عرض 36، أما بعد الاحتلال والسيطرة على العراق من قبلها، فإن من واجبها وفقاً للقوانين الدولية باعتبارها قوة احتلال أن تمنع أي عدوان خارجي على أراضيه، حتى لو جاء من الحلفاء والتوابع، فبعد سقوط النظام السابق، فقد تحولت جذرياً علاقات الأكراد بالمركز إلى علاقات وديّة تقوم على أساس النظام الفيدرالي الذي أقره الدستور العراقي…
وإذا ما نظرنا إلى الدور الأميركي فهو يشكل المفصل في البحث عن أطر جديدة للعلاقة بين تركيا والعراق، من المفترض أن يبرز منذ التاسع من نيسان/ إبريل 2003، وفي سياق اتفاقية “سحب القوات الأميركية من العراق ومصالح دول الجوار”، وعلى الرغم من إعلان الحكومة العراقية الراهنة موقفها من “حزب العمال الكردستاني في تركيا”، وترتيب أوراق البيت العراقي بدءاً من ترسيخ سيادة العراق، وعودة انتظام الحكم الطائفي، المذهبي في الواقع الإقليمي والدولي، بما يتيح ضمانات حقيقية لحماية مصالح العراق وموارده، وفق الضوابط والقانون الدولي، وحمايته من مخاطر التدخلات والتهديدات، وصولاً إلى خروج العراق من البند السابع لميثاق الأمم الدولي…
من باب المقارنة يمكن رصد تدخلات الجيش التركي في كردستان العراق، خلال الفترة من آب/ أغسطس 1991 إلى تموز/ يوليو 1996 بأكثر من 14 غارة جوية وثمانية عمليات تدخل عسكري بريّة، فضلاً عن عملية “فولاذ” والتي بدأت في 21 آذار/ مارس 1995 وانتهت في 4 أيار/ مايو 1995، شارك بها 50 ألف جندي ووصلت إلى عمق 100 ـ 200 كم داخل الأراضي العراقية، في النصف الأول من عام 1997 نفذ الجيش التركي 13 عملية داخل الأراضي العراقية هي عمليات غزو بري، و58 عملية قصف جوي، و38 عملية قصف مدفعي، أما تانسو تشيلر وزيرة الخارجية في حكومة نجم الدين أربكان آنذاك ـ عام 1996 ـ 1997، فقد أعلنت حكومتها عزمها على “إنشاء منطقة عازلة على الأراضي العراقية بعمق 20 كم وبطول 331 كم، أي على امتداد الحدود بين البلدين…
إن الاتفاقية المسماة “اتفاقية سحب القوات الأميركية من العراق ومصالح دول الجوار” كإطار إستراتيجي للولايات المتحدة مع العراق، تحتوي كثيراً على ما هو حمّال أوجه مختلفة، فهي إن ضمنت “حماية العراق من التدخلات الخارجية” لا سيما دول الجوار، واستهداف من جرى وصفهم بالوثيقة بـ “المتمردين والخارجين على القانون”، لكنها بذات الوقت تتيح إقامة اتفاقيات أخرى مع دول الجوار الإقليمي في سياق قراءة الملفات الأمنية، بما يذكر باتفاقية “سعد اباد واتفاقية الجزائر” بما بها من ذاكرة كردية وأبعاد تاريخية، فضلاً عن العقد التاريخية للدول الإقليمية وأزماتها المعقدة، خاصة وأن الاتفاقية الأميركية ـ العراقية يمكن أن فحصها وقراءتها على أرض الواقع، بالطموح الإقليمي التركي الراهن، ودوره في الأجندة المرسومة من واشنطن في أزمات الشرق الأوسط في سياق الرؤية الأميركية ومصالحها…
إن حق تقرير المصير هو حق شامل لجميع الشعوب، وسبق ومنذ الستينيات والسبعينيات أن أكدنا على حق الشعب الكردي بتقرير مصيره (راجع كتاب حواتمة: “اليسار العربي… رؤيا النهوض الكبير ـ نقد وتوقعات” ص23، ص29)، وهو من المعاني الأكثر إفصاحاً وإشراقاً، لقد خاض الكرد نضالهم المديد من أجل القيم الرفيعة، وبذات الوقت خاضوا نضالهم الديمقراطي من أجل العدالة الاجتماعية ومعهم الملايين غير الكرد الذين يحلمون بنهارٍ آمنٍ وليل مسالم وحياة محبة وحرية وعدالة اجتماعية، هؤلاء لهم الحق في حرية الاختيار العقلاني المدروس، بهذا المعنى يحمل المثقفون الكرد على اتساعهم وإبداعهم مواصلة التقدم، وعبر تاريخ من النضال من أجل القيم الإنسانية الرفيعة، صراع القيم الإنسانية الكونية الحقّة المنحازة للإنسان وتقدمه، رسالة العقل في أعمق نداءاته الإنسانية إلى الحرية التي لا تستقيم بدون محبة، إلى الحياة التي لا تستقيم بدون عدالة… الحياة الأكثر قداسة ورفعة، وأثمن قيمة…
أركز هنا على العقلانية الكردية، ودروس الرهانات الخطرة في تاريخ الحركة الوطنية الكردية، واستخلاصاتها منذ عشرينيات القرن الماضي؛ بالتعمق والتفحص للإستراتيجيات الدولية وعدم الانزلاق إلى رهانات إقليمية ودولية غير مضمونة، حين لا يمكن عزل ما يجري في الإقليم من قبل القوى الإقليمية دون حساب التعقيدات والإشكالات عن شروط صناعتها مع الفاعلين الكبار الدوليين في راهنيتها التاريخية…
نايف حواتمة، زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والمقال مقتطف من مقابلة أجراها حميد كشكولي لمجلة “الحرية”.