الجفاف يهدد دجلة والفرات.. لهذا يدفع العراق ثمن حرب المياه
صلاح حسن بابان
يخوض العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003 حرباً مغايرة في التكتيك والمضمون يبدو من ملامحها أنها ستكون طويلة الأمد بانخفاض معدلات إيرادات نهري دجلة والفرات بحوالي 50% عن معدلاتها الطبيعية خلال الأعوام الماضية، ليتسبب انخفاض مليار لتر مكعب واحد من المياه بخروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية المنتجة عن الخدمة، بحسب إحصائيات شبه رسمية. كما ويخسر في ذات الوقت آلاف المليارات المكعبة سنوياً بسبب ما يمكن تسميتها بالحرب المائية التركية الإيرانية عليه.
هذا الإجراء دفع وزارة الموارد المائية العراقية لإجراء مخاطبات ولقاءات رسمية مع تركيا وإيران وسوريا بشأن كميات المياه الواصلة إليه، وعقد لقاء مع الجانب السوري وتم التواصل فنياً مع الجانب التركي للاتفاق على تقاسم الضرر الناجم عن قلة الإيرادات بسبب تغير المناخ حسب الاتفاقية الموقعة بين الدول.
وشهد العراق مؤخرا تراجعا كبيرا في مناسيب نهري دجلة والفرات، خاصة في المحافظات الجنوبية، مما دفع بمنظمات حقوقية ونقابات إلى التحذير من آثار كبيرة على القطاع الزراعي واحتمال توقف بعض محطات مياه الشرب في تلك المحافظات، لكن وزارة الموارد المائية أكدت أن لديها خزينا مائيا مناسبا لهذا الموسم.
كم يستهلك العراق من المياه؟
ويستهلك سُكان العراق -البالغ عددهم نحو 40 مليون نسمة الآن- ما يُقدر بـ 71 مليار متر مكعب من المياه. وعام 2035 سيصل عدد السكان إلى أكثر من 50 مليوناً، ومن المتوقع أن تنخفض المياه السطحية إلى 51 مليار متر مكعب سنوياً بعد إكمال كل المشاريع خارج الحدود.
وبشأن ايرادات المياه القادمة من إيران، هناك تفاوت وقلة في الإيرادات في سد دربندخان بمحافظة السليمانية بكردستان العراق حيث وصلت إلى معدلات متدنية جداً، وكذلك سد دوكان في المحافظة نفسها والتي وصلت نسبة الانخفاض فيه الى 70%. إلا أن ديالى هي الأكثر ضرراً كونها من المحافظات الزراعية المهمة ومصدر إروائها يعتمد على نهر ديالى سيروان بحوالي 80%، وكذلك نهر دجلة نحو 19-20%.
وتسبب انخفاض معدلات الإيرادات المائية في مناطق وسط وجنوب البلاد -وتحديداً الأهوار- بارتفاع نسبة الملوحة بالإضافة إلى تباطؤ سرعة جريان هذا المجرى، مع احتمال تكرار جفاف السنوات السابقة، لاسيما وأن معدلات التبخر عالية.
وشهدت الأهوار خلال السنوات الماضية ما بين عامي 2003-2018 تراجعاً كبيراً في منسوب المياه حتى أصيبت بجفاف كبير، الأمر الذي أدى إلى نفوق آلاف الحيوانات والأسماك، وهجرة السكان المحليين بعيداً بحثاً عن مصادر المياه.
وتشكل الأمطار 30% من موارد العراق المائية، في حين تقدر كميات مياه الأنهار الممتدة من تركيا وإيران 70% بحسب المديرية العامة للسدود بالعراق.
زحف الصحراء
وتستخدم تركيا وإيران المياه ورقة ضغط وبأجندة سياسية بحتة وبعيداً عن حقوق الجيرة وحق الإنسان في المياه، لذلك من تداعيات هذه الحرب المائية غير المعلنة أن يواجه العراق كدولة مصب في المستقبل المنظور مخاطر جمّة تكون عميقة في تأثيرها وذات مدى واسع النطاق، تأتي في مقدمتها الإدارة غير الكفؤة وما يقابله من سوء إدارة الدولة للملف المائي، كما يرى كبير خبراء الإستراتيجيات والسياسات المائية رمضان حمزة محمد.
ويرى محمد أن هذا الضغط سيتسبب في تناقص إمدادات المياه الصالحة للشرب كمّاً ونوعاً، وتدهور البيئة وبؤر ملايين الدونمات من الأراضي الزراعية وخروجها من الخدمة، مما يسرع في زحف الصحراء نحو المدن وبالتالي زيادة الهجرة من الريف إلى الحضر بسبب قلة مياه الري، وبالتالي التنافس على مياه الري بين مختلف المستخدمين. ويُحذر كبير الخبراء من أن استمرار هذه الحالات دون معالجة سريعة سيجعل القادم أسوأ ويسبب الكوارث الإنسانية التي لا تحمد عقباها.
وعن انعكاسات ارتفاع درجات الحرارة على شحّ المياه وقلة تساقط الأمطار، والكمية التي يحتاجها العراق من المياه، يتوقع الخبير الإستراتيجي أن يشهد العراق والمنطقة ارتفاعا كبيراً في درجات الحرارة وباستمرار موسم الصيف لنهاية موسم الخريف، لتزيد هذه الضغوط المناخية من احتمال مستقبل أكثر سخونة وجفافًا في البلاد، وستزيد حالات التبخر من المسطحات المائية العراقية سواء الطبيعية كالثرثار وبحيرة الحبانية أو خزانات السدود مما يقلل من الخزين الإستراتيجي الذي يعتمد عليه العراق في تغطية نقص التصاريف الواردة من تركيا وإيران.
وسيزداد أيضاً التبخر من الغطاء الأخضر مما يزيد من حاجته الى مياه الري، وستترك تغيرات المناخ عدداً من الرابحين والخاسرين فيما يتعلق بإمدادات المياه.
ويقرّ كبير خبراء السياسات المائية بأنّ العراق هو الطرف الخاسر في المعادلة المائية إذا استمر الجفاف لأكثر من موسم، باستمرار تحكم دول الجوار المائي بالمياه، والتقاسم غير العادل لها، مؤكداً حاجة العراق إلى أكثر من 50 مليار متر مكعب من المياه كحد أدنى لتلبية متطلباته المائية.
وقد أدى معدل الانخفاض الحالي إلى مخاوف في العراق من نقص كمية مياه نهر دجلة إلى نصف الكمية، بعد أن بدأت تركيا تشغيل سد إليسو الذي انتهت من بنائه في يناير/كانون الثاني 2018، مما عجّل من انخفاض منسوب المياه، ووضع العراق أمام مشكلة حقيقية، خصوصاً بعد أن حولت إيران أيضاً مجرى الأنهار التي كانت تساهم بتزويد العراق بالمياه.
ويصف محمد في تعليق منه -على بناء السدود والمشاريع الإروائية العملاقة من قبل تركيا وإيران، دون التشاور مع العراق والالتزام بالأعراف والقوانين الدولية- بأنه يتسم بموقف “من يملك ومن لا يملك” وهذا يثير الجدل اليوم حول مجموعة السدود التي تبنيها الدولتان.
ولم يتم التوصل حتى الآن مع العراق باتفاق في حسم نتائج بناء السدود في مجالات تتراوح بين تحقيق توافق حول التنمية المستدامة لكل من دولتي المنبع، وكونها مبررة بشكل عام بفوائدها الاقتصادية والسياسية، وبين معارضة العراق لإنشاء هذه السدود بتحكمها الشبه الكامل بتصاريف المياه إليه، ولأضرارها البيئية ومخاطرها في زيادة النشاط الزلزالي بالمنطقة سواء من حركة الصفائح التكتونية وتنشيط الفوالق والصدوع بالمنطقة القريبة من مواقع هذه السدود أو من الهزات الأرضية المستحثة Induced Seismicity)) التي تسببها الخزانات الكبيرة لهذه السدود.
ويختم الخبير الإستراتيجي العراقي تصريحاته بأن مخاطر الزلازل تهدد استقرار السدود نفسها، وسيكون لها آثارها السلبية على تركيا وإيران ومن ثم دول الوسط والمصب.
خسائر اقتصادية
وتسبب هذه الحرب المائية خسائر اقتصادية جمّة للعراق، يقدّرها الخبير والباحث الاقتصادي إيفان شاكر بمليارات الدولارات سنوياً، وتحديداً على القطاع الزراعي، بالإضافة إلى زيادة في نسبة البطالة وتأثيرها السلبي على الأمن الغذائي.
وتأتي الثروة الحيوانية ثانياً بعد الزراعية، وبالدرجة الأساس تربية الأسماك، بتضررها بسبب التصحر الحاصل تحديداً خلال هذه السنة، لاسيما مناطق وسط وجنوب البلاد التي تكونُ أشد تأثيرا من المناطق الشمالية لأن الزراعة تعتمد بشكل شبه كلي على مياه الأنهار، حسب شاكر.
ويُشكل منسوب المياه في مناطق الوسط والجنوب نسبةً أقل من المناطق الشمالية، مما يُسبب تصحراً لمساحاتٍ واسعة من الأراضي الزراعية، فضلاً عن عجز في كمية المياه الصالحة للشرب التي يستهلكها المواطنون في تلك المناطق.
وفي حديثه للجزيرة نت، يحذر شاكر من مخاطر استمرار تقليل حصة المياه من قبل إيران وتركيا، ويُشير إلى شلل الجانب الزراعي بشكل شبه كامل كما أنه يحدّه من التطوير، يأتي ذلك كله في وقت يواجه العراق خطرا غير مسبوق هذه السنة بسبب الجفاف والتصحر الحادث بمساحات واسعة في عموم البلاد بسبب قلة منسوب مياه الأنهر الواردة من إيران وتركيا بنسبة 50% وفقدانه لكل مليار متر مكعب من حصته من المياه مما سيسبب تصحراً لـ 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية، مما يهدد بالتصحر بحلول عام 2040 لعدم إطلاق حصة مياه كافية من قبل الدولتين الجارتين.
ضعف الحكومات
من جانبه يُحمّل الكاتب والمحلل السياسي العراقي هادي جلو مرعي الحكومات المتعاقبة عدم وجود إستراتيجية واضحة لحماية الأمن القومي المائي، ويتهمها بأنها انشغلت بمشاكل لا حصر لها سواء كانت خلافات سياسية أو مشاكل اقتصادية أو نزاعات خارجية وداخلية على مدى عقود، مما أدى إلى غياب السياسات الواعية والالتزام بطريقة عمل منظمة في مواجهة التحديات التي يفرضها واقع البلاد الجغرافي للعراق وعلاقاته مع دول يفتقد فيها لعنصر التكافؤ.
وفي رده على سؤالٍ للجزيرة نت حول ما إذا كان ضعف حكومات ما بعد 2003 زاد من تعمق المشاكل المائية، يؤكد مرعي أن هذا لعب سبباً رئيساً في ذلك، مشددا على ضرورة عدم تحميل كامل المسؤولية لتركيا أو إيران فهما دولتان لهما سياسات خاصة ومطامح وطرق إدارة للمياه وتعانيان من جفاف في بعض المناطق، ولابد من وجود فاعل عراقي قوي يضع معاهدات حقيقية تحمي مصالحه شرط ألا تكون مجرد اجتهادات وتفتقد إلى الحكمة والوضوح.