الجريمة المركبة
ـــــــــــــــــــــــــ
تعالت القهقهات مابيني وبين الدكتور صلاح وانا اتكلم معه على الهاتف النقال وهو ينعتني بالشايب نتيجة لما اعانيه من عوارض صحية مختلفة التوصيف ، مابين الخمول احيانا وحالات مرضية مقلقة في احيان أخرى ، ولكن لم اتردد في اجابته بما امتلكه من قول صريح باني لا اتحفظ في ذكر عمري وتركت ذلك للنساء ، نعم فاني قاربت أن أبلغ من الكبر عتيا ، وهذا ماجعله يفسر قولي بأني منزعج لما نعتني به من نعت مما دعاه بالتأسف والإعتذار ولأجد نفسي مبتهجا في الرد عليه بأنه لا داعي للاعتذار عن أمر طبيعي نعيشه مع بعض ، لاسيما إننا متقاربان في العمر ، وصداقتنا تمتد إلى الدراسة المتوسطة على الرغم من أني مدرك بأن الإعتذار صفة سامقة المعاني وثقافة راقية الإدراك ، لايعيها إلا من كان مثقفا راقيا ، ومهما تململنا واضفنا من أقوال ، فهذا لن يغير من المعادلة أي شيء ، هنا اقترح علي زيارته في مستشفى الزبير العام ، للقيام ببعض الفحوصات التي لابد منها والتي يتم إجراؤها بشكل طبيعي بخاصة للذين من هم في اعمارنا ، والتي تكون بحكم الواجب في البلدان المتقدمة ، كتخطيط القلب ، وفحص السكر التراكمي ونسبة الهيموغلوبين بالدم وبشكل دوري ، فوافقته على ذلك على أن يكون ذلك في اليوم التالي ، مما دعاني إلى انهاء مكالمتي معه آملا لقاءه في اليوم القابل في المستشفى ، ورحت في تفكير عميق لما آلت اليه صحتي بعد أن شافاني الله من أقسى أمراض العصر الحديث عند إصابتي بالكورونا والذي تطلب مني عزل نفسي عن الناس مايقرب الأكثر من الشهر ، ونتيجة لذلك ، تغيرت بعض الأمور الجسمانية عندي ، من نسيان ووهن في قابلية الحركة وفقدان حاسة الشم ، لذلك استنجدت باحد الزملاء ليميز عطر نسائي أحببت أن أهديه لزوجتي في رحلتي الأخيرة إلى اسطنبول ، إلا أن الأهم من ذلك شعوري الدائم بالإعياء والذي تسبب أن اكون في عجلة من أمري لزيارة صديقي دكتور صلاح في مستشفى الزبير العام ، ونمت ليلتي وأنا بقلق بالغ ، ورحت أفكر كثيرا فيما إذا كانت صحتي تحت باب امراض الشيخوخة والتخوف الأهم من أن أكون عالة على اهلي ، حينها تكون وفاتي راحة لي ولأهلي ، وهذا مارأيته بأم عيني وسمعته عن قرب لكثير مثل هذه الحالات .
اطلقت العنان لسيارتي وانا اقودها نحو ظالتي للقاء صديقي دكتور صلاح وحسب اتفاقنا يوم امس ،
وعند الساعة العاشرة كنت معه وجها لوجه ليقودني بنفسه إلى المختبر ، اجلسني مسؤول المختبر على كرسي صغير بدون أجنحة بعد أن عرفني إليه الدكتور صلاح ، وراح يضع شريط بلاستيكي اعلى من مرفقي الأيسر بقليل ، آه ، كم هو مزعج منظر السرنجة بيد مسؤول المختبر ، وكأني رأيتها كزئير أسد وهي تقترب من وريد يدي وتدخله بهدوء خجول ومع ذلك استمر انزعاجي المفرط لها .
ابتسم الدكتور صلاح وهو يقول ها قد انتهت مرحلة الرعب بينما مسؤول المختبر مندهش من تصرفي وأنا الرجل الكبير المرعوب من ابرة اصبحت من الأمور الإعتيادية في حياتنا الصحية ، شكرت مسؤول المختبر لرقة مشاعره ولطفه معي ، ولكن المثل يقول أن الذي يرى مشاكل غيره ، تهون عليه مشكلته ، اذ بعد خروجنا من المختبر ، رأينا هناك حركة غير طبيعية في مدخل طوارئ العيادة الخارجية للمستشفى ، عربة نقل المرضى يقودها بعض الممرضين ، عليها جسم انسان لم نحدد جنسه فيما اذا كان رجلا او إمرأة لأنها مغطاة بغطاء نوم صيفي فيه من الألوان ما اختلف منها وهم يدخلونها إلى غرفة طوارئ العيادة الخارجية ، فساقنا الحرص إلى ماساقنا للوقوف على مايجري من الأمر ، وعند اقترابنا قبل الكشف عليه ، لم نر سوى حبل متدلي من تحت ذلك الغطاء ، وهناك على مقربة منه امرأة حسبتها اربعينة العمر في حالة يرثى لها ، بكاء وعويل ، ولطم الصدر والوجه صارخة باعلى صوتها .. يا اسفي على شبابك ، يا اسفي على شبابك يا ابني ، ولكني لم اتحمل الموقف ، حينها خرجت بعيدا عن غرفة الطوارئ ، ليلحق بي دكتور صلاح ، الذي استفهم الأمر بأن ابنها مات منتحرا شانقا نفسه ، فاعتذرت الطوارئ من استقباله لأنه ليس من اختصاصها ، ولكن تم تحويل الأمر إلى الطبابة العدلية فذلك من صلب إختصاصها ، لقد أحزنني الموقف كثيرا بخاصة حالة الأم وتأثرها المفزع وهي تودع فلذة كبدها ، هنا اعتذرت من الدكتور صلاح من البقاء معه والذي اوعدني بانه سيأخذ نتائج فحوصاتي الطبية معه إلى البيت ، وعلي مراجعته عند التاسعة مساء وبعد عودته من عيادته .
رجعت إلى البيت وحالة البؤس قد تجذرت في صدري وشتت كياني مع استذكار تكرار منظر تلك الأم البائسة ، وحينما دعتني زوجي لطعام الغداء اعتذرت لها طالبا منها فنجان قهوة لعلها تريح اعصابي المتوترة ، نعم ما اقسى فقدان الأب والام لأحد ابنائهما ، بالأمس القريب عانيت ماعنيت من الم ومرارة وانا ارى ابني يقارع فايروس الكورونا ، دعوت الله في كل لحظة وفي كل صلاة آملا متضرعا ومتوسلا الله أن يعجل بشفائه ، وعندما نزلت سكينة الله على صدري بشفائه ، وزعت النذور على مستحقيها وكأن الفرحة ضاق بها صدري فكانت أكبر مما يتحمله .
الإيام ولادة بالمفاجئات التي راحت تفاجئنا بأمور قد لانستوعبها ، وهذا ماحصل معي وأنا أقف أمام مفاجئة كبرى يهتز لها الضمير بعد جلوسي في صالة الأستقبال وجها لوجه مع الدكتور صلاح في بيته بغية استلام تقارير المختبر ، ولكنه اصر على إطلاعي عليها بعد معرفة تفاصيل تلك الجريمة الوقحة النكراء التي رأيناها صباح ذلك اليوم ، إذ تبين من نتيجة فحص الطبابة العدلية بأن ذلك الشاب لم يمت من جراء الإنتحارشنقا بل مات مسموما قبل عملية الإنتحار المزمعة ، هذا ماخبره به زميله مسؤول الطبابة العدلية في مركز الطب العدلي ، وعند مسائلة أمه عما تعرفه عن تلك الحالة ، أجابت بغبائها المفرط من أنها دخلت عليه في غرفته ووجدته منتحرا بشنق نفسه مستعينا بمسمار المروحة في سقف الغرفة ، في الوقت نفسه قامت ابنتها بتصوير الحالة بنقالها الخاص لحظة دخولهما عليه ، وبعد التدقيق في الفيديو المصور ، ادرك المحقق من أن الحالة مفتعلة وان هناك بعض الأمور مايطابق تقرير الطب العدلي ، إذ أيقن أن هناك شيئا ما بعد التدقيق في الفيدو المصور وهو يطرح السؤال ، كيف علق نفسه وليس هناك مايؤكد صعوده على شيء مرتفع كأن يكون كرسيا باقيا تحته ؟ وبعد السين والجيم تبين أن تلك المرأة لم تكن أمه ، بل كانت زوجة أبيه ، وعملت على دس حبات المنوم والسم في افطاره ، وهذا ماتسبب في وفاته مسموما ، وقد تعاونت مع ابنتها في تكملة جوانب الجريمة من شد الحبل وتعليق الجثة ، يالها من سذاجة سمجة وغباء وصدق من قال أنه ليس هناك من جربمة متكاملة الأركان .
ســــــــعد عبدالوهاب طه