الدكتور زاحم محمد الشهيلي
تعد الثورة الفرنسية الشعبية الكبرى، التي اندلعت عام ١٧٨٩، الشرارة الأولى التي غيرت مجرى التاريخ في حياة المجتمع الأوروبي، والتي كانت ثمرة لجهود قادة حركة “التنوير” الفرنسية من الفلاسفة والمفكرين أمثال فولتير، ومونتسكيو، وجان جاك روسو وغيرهم، حيث شاركت فيها فئات المجتمع الفرنسي المتضررة وخاصة الطبقة المعدومة التي عانت من امتيازات طبقة النبلاء، ورجال الدين، وحاشية البلاط، بحيث قضت الثورة على مضاجع الظلم والعبودية والطغيان والترف في قصور الملوك والأمراء والقساوسة والرهبان في فرنسا، واقتحم الثائرون الغاضبون حصن الباستيل الشهير وحولوه إلى ركام، والذي كان يعد رمزا للظلم والطغيان والاستبداد الملكي، واستمر الثائرون بالسيطرة على الحصون الحصينة الواحد تلو الأخر بقيادة مجموعة من قادة الحراك الشعبي من ابرزهم (جورج دانتون وماكسيمليان روبسبير)، وتم إلقاء القبض على الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت وتقديمهم للمحاكمة. وبعد انعقاد “المؤتمر الوطني” للفترة ما بين ١٧٩٢- ١٧٩٥ أُعلن عن قيام الجمهورية الفرنسية وانهاء الحكم الملكي، وإلغاء قانون العبودية، وإعدام الملك وزوجته إلى جانب عدد من اتباعه أنصاره.
قطع قادة الثورة، وعلى رأسهم روبسبير، العهد على أنفسهم بعدم الاعتراض على استمرار الثورة حتى تحقيق أهدافها، ومن يعارض هذا النهج سوف يحكم عليه بالإعدام بتهمة الخيانة ويقطع رأسه أمام الجماهير الثائرة بواسطة المقصلة Guillotine التي نُصبت لهذا الغرض في ساحة الثورة بباريس، الامر الذي مهد لبدء عهد جديد سمي بعهد ارهاب الثورة بزعامة روبسبير، في الوقت الذي كانت فرنسا بامس الحاجة الى معالجات آنية للفقر والفاقة والبطالة وتفشي الأمراض وانعدام البنى التحتية والتعليم والصحة.
وبسبب ان الثورة أضحت تهدد عروش الملوك في اوروبا، فقد واجهت معارضة شديدة من قبل ملوك ايطاليا وأسبانيا والنمسا وألمانيا وبريطانيا، مما دفع قادة الثورة لتنظيم صفوفهم واعلان التجنيد العام استعدادا للدخول في حروب خارجية من الصعب التكهن بنهاياتها، رغم الوضع المزري للمجتمع الفرنسي آنذاك، الذي كان لا يحتمل مثل هكذا مغامرات، الامر الذي ادى إلى انشقاق في قيادة الثورة بين مؤيد لاستمرار الثورة، ومعارض يطمح إلى إيقافها والبدء باجراءات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ومعالجة الفقر، والشروع بفتح حوار مع ملوك دول الجوار لطمأنتهم والتعهد لهم بعدم تجاوز الثورة حدود فرنسا ومطالبتهم بإقامة علاقات حسن الجوار مع فرنسا قائمة على الاحترام المتبادل.
كان جورج دانتون، احد ابرز قادة الحراك الشعبي الفرنسي انذاك والمنافس القوي لـ روبسبير، من اشد المعارضين لنهج استمرار الثورة، وطالب مع مجموعة من رفاقه ومؤيديه بإيقافها والبدء بإجراء إصلاحات سريعة للوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي المتردي لتحقيق طموحات الجماهير الثائرة، مما دفع رفيقه روبسبير، المؤيد بشدة لاستمرار الثورة والانفراد بقيادتها، إلى إلقاء القبض عليه مع مجموعة من رفاقه وزجهم في السجن بتهمة الخيانة، واصدرت المحكمة امر الإعدام بحقهم، وسيقوا إلى المقصلة في ساحة الثورة ليتم فصل رؤوسهم عن اجسادهم بتهمة التامر على الثورة وسط هتافات حشود الجماهير الغاضبة المطالبة بالقصاص من الخونة، والتي لا تعرف ما ستؤول اليه احداث ثورتهم.
اصر روبسبير على تصفية خصومه السياسيين حين اصبح على راس لجنة الامن العام للثورة، بحيث ساق اكثر من خمسة آلاف معارض لنهجه إلى المقصلة بحجة معارضتهم لنهج الثورة، والذي يعد نتيجة حتمية للصراع بين الفصائل السياسية المتناحرة، حيث عرفت تلك الفترة الدموية (١٧٩٣ – ١٧٩٤) من عمر الثورة ب”عهد الارهاب”، الامر الذي زاد الوضع العام الفرنسي تعقيدا، وواجه القادة المعتدلون صعوبة في ادارة الحروب الخارجية وانهاء الصراع الداخلي والبدء بالتنمية الاقتصادية والبشرية، مما دفع زعامات “المؤتمر الوطني” الى اتهام روبسبير بالخيانة، وتم إلقاء القبض عليه عام ١٧٩٤ وقيد إلى مقصلة الاعدام مع شقيقه وعدد من رفاقه، بعد ان تخلى عنه أنصاره، وتم فصل رؤسهم عن اجسادهم، الامر الذي مهد الطريق أمام نابليون كارلو بونابرت- السياسي الشاب ذو ٢٦ ربيعا والقائد العسكري الفرنسي من اصول إيطالية- للظهور في حياة الفرنسيين، لينصب نفسه حاكما على فرنسا بعد تلك الفترة بدعم الطبقة البورجوازية، والذي قاد حروبا خارجية مبهرة سيطر من خلالها على معظم أنحاء اوروبا حتى وصل إلى مصر واصطدم بالإنكليز هناك، ليموت عام ١٨٢١ في منفاه الثاني جزيرة (سانت هيلانه).
وبذلك فشلت الثورة الفرنسية، الأم التي أكلت ابناءها، في تحقيق أهدافها “المادية” التي قامت من اجلها، بسبب ارهاب الثورة الناتج عن الصراع الدامي بين الفصائل السياسية المتناحرة، والحروب الخارجية، وعدم القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية حقيقة داخلية تلبي حاجات وطموحات الجماهير الثائرة ضد التمييز الطبقي والظلم والعبودية ومصادرة الحريات والوضع الاقتصادي المتردي للمجتمع. لكنها انتصرت “معنويا” في فرنسا خاصة وأوروبا عامة من حيث انها كسرت حاجز الخوف لدى الجماهير من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة بالحديد والنار، وكانت حافزا ومثالا رائعا يقتدى به للكثير من الثورات التي أعقبتها في القارة الباردة والعالم إلى يومنا هذا، والتي نقلت المجتمع الأوروبي من عصر الظلم والظلمات إلى عصر النور والتنوير.
وبعد ان اسدل الستار على احداث الثورة إلى الأبد، كتب الأديب الالماني المعروف (جورج بوشنير) مسرحيته الشهيرة “موت دانتون” Dantons Tod سنة ١٨٣٥ التي صور فيها المشاهد الدامية والمؤلمة لعهد الارهاب الذي مرت به الثورة الفرنسية الكبرى والمشاهد الشعبية التي تبين عفوية الجماهير الثائرة ضد الطبقية والظلم والطغيان والفقر والحرمان وكبت الحريات والترف الملكي، بهدف اظهار ابرز الاسباب التي ادت الى فشل الثورة كي تتم دراستها وتجنبها من قبل قادة الثائرين ضد النظام الملكي في المانيا، حيث عُرفت تلك الفترة الأدبية في المانيا بادب ما قبل ثورة آذار Vormärzliteratur التي اندلعت في المانيا عام 1848 على غرار الثورة الفرنسية.