عبدالامير الركابي
لم تنشا في العراق حتى هذه اللحظة، ” ثقافة عراقية ” تتناسب بالفعل مع الحقيقة العراقية ، او ومع الخاصيات التاريخية لهذه البقعة من العالم ، وماعرف في القرن العشرين من ظهور لمايسمى الافكار الحديثة ، لم يكن باي معنى، متناسبا والضرورات الوطنية الخاصة ،مايشمل كافة الافكار، ومنها الماركسية والقومية والليبرالية . فلقد ارتاحت النخبة الناشئة حديثا ” الافندية ” الى ماجاء من الغرب مباشرة، او عبر وسائط عربية، وسعت الى محاكاتها او اعتبرت نفسها معنية باقلمتها على ” واقع العراق “. وعلى هذه الاسس، اقيمت الدولة، واسست الاحزاب، وظهرت الابداعات في المناحي كافة، الشعرية والنثرية وغيرها من صنوف الثقافة.
كما لعبت المصادر الاكاديمية، دورا مهما في بلورة مناهج النظر الى التاريخ العربي والعراقي . ومن هنا كما هو معروف، تسرب فرع اخرمهم للغاية ، من فروع الصدوع للمناهج الغربية المستعارة، ولشبكة وعالم الاكاديميات الاوربية ومناهجها، وسبلها الراسخة في البحث والتفكير . وكل هذا لم يكن متناسبا مع واقع العراق، ولا مع مناحي ابداعيته وخصوصيته من حيث كونه مركزا حضاريا مميزا، سواء في مجال الفعل والنموذج التاريخي، اوعلى مستوى الاضافة .
ومن اخطر ماتم تبنيه في العصر الحديث ايضا ، ذلك الاعتقاد الذي روجه الفكر الغربي ، والذي يجزم بنهاية مفعول، ومنجز، وبالاساس آليات الحضارات السابقة على العصر الحديث . وهذا المفهوم يغلق الباب على اي احتمال مستقبلي، ويمنع ظهور اي تصور حضاري عالمي آخر، قد يكون متجاوزا للمنظور الغربي السائد ، الامر الذي لايتفق مع الحقيقة الكونية، ولا مع طبيعة التاريخ .
وتتجلى خطورة هذا المفهوم في العراق بالذات ، على اعتبار انه كان صاحب اول رؤية ذات طابع كوني . فالابراهيمية وسلسلة قراءاتها الكبرى ، تمثل الظاهرة الكونية الحضارية الاولى باجلى تعبيراتها ، وهذه ماتزال اثارها وحضورها في العقيدة والوجدان الانساني، تضاهي اية عقيدة اخرى معروفة . والسؤال الذي ينبغي ان يطرح والحالة هذه هو ، اذا ماكانت تلك الرؤية تستحق من ورثتها وابنائها، تقصيا مناسبا، يوازي اهميتها وخطورتها في التاريخ . وقبل ذلك اذا كانت تصلح للاستحضار، او انها ماتزال مهياة للحضور والفعل . وكل هذه الاسئلة تستدعي في واقع الامر نمطا مختلفا من المثقفين ، ومسلكا اخر، لايشبه المسلك المعروف والذي هو من نمط الافكار والممارسات المستعارة الجاهزه .
هنالك في التاريخ العراقي من الاسرار والمضمرات والمسكوت عنه ، مايمثل ميدانا لاحدود له، ويكمن هذا في مجال الممكنات التي مايزال من المحتمل ان تقدم للبشرية، الامر الذي يفاقم مجال المسؤولية المتعلقة باستجابة المثقفين لضرورات المنشا والكينونة . وكما ان الحاضر يبقى من دون مثل هذا الاتجاه ضائعا، فان الماضي يصبح بلامعنى، مع بقاء فعل اولئك الذين لايملون من التبحر في الطبري، وابن الاثير، والمسعودي ، مصدقين اقوالهم، او معدلين بعض مايرد فيها . الامر الذي يضع الثقافة العراقية امام مستلبين ، هما مستلب المفهوم الاسلامي الجزيري، المفروض على العقل العراقي ، ثم الاستعارة الغربية الراهنة .
ومع ان مانتحدث عنه ونعلن الاعتراض عليه ، يعد بالنسبه لبدان او شعوب اخرى، من قبيل الامور العادية واللازمة ربما ، الا انه يحتل في العراق مكان المسالة الخطرة على جميع المستويات . اولها مفهوم الفكر والثقافة المجرد نفسه . هذا ناهيك عن معنى تصادم هذه الوجهة مع مقدسات وثوابت راسخة . غير ان مثل هذه المخاطر بحد ذاتها، تعني في الوقت نفسه ان معركة الثقافة العراقية ، هي معركة كبرى وتاريخية . ومن نوع تلك المعارك التي يتغير على ايقاعها التاريخ والوجود الانساني برمته . فكم والحالة هذه ينبغي ان يتحمل من ينهضون بمثل هذه المهمة او بجزء منها . وفي اي مكان يجب ان يوضع مثل هذا الفعل، اذا مابدات ملامحه تسفر عن نفسها ، او راحت تتحقق بالفعل .
لم تبدا الثقافة العراقية بالتعبير عن ذاتها بعد، واذا حدث ذلك، وبدا الاتجاه الى التناغم مع مقتضياتها وحقائقها ، فان نذيرا كونيا وعالميا، سوف يدق حتما اجراسا يسمعها البشرالاحياء في كل مكان .