الثقافة الأدبية للجميع
ــــــــــــــــــــــ
في زيارتي الاخيرة للقاهرة في نيسان الماضي قصدت مطعم قدورة لتناول الغداء وهذا ما أعتدت عليه في كل زيارة من زياراتي للقاهرة ان اخصص يوما لتناول الغداء فيه والذي يقع في حي المهندسين , وحسب ماقيل لي ان هناك فرعين آخرين في القاهرة وفرعا في كل محافظة من المحافظات المصرية , وتمتاز هذه المطاعم انها متخصصة لبيع الاسماك فقط بالأعتماد على اسطول من سفن صيد الاسماك العائدة لصاحب المطعم , وعندما تدخل فرع حي المهندسين يجرك احد العمال الى غرفة الاسماك وهي غرفة مبردة لاتقل مساحتها عن ثلاثين مترا مربعا , تحتوي على رفوف وضع عليها انواع مختلفة من الاسماك ( سمك موسى , البوري , الشأنك , الاستاكوزا , الكبوريا , الجمبري وانواع متعددة اخرى ) وبعد اختيارك لنوع السمك و وزن الكمية التي تحتاجها من هذه الانواع , يعطيك العامل المختص ورقة فيها نوع السمك والوزن وتدخل المطعم الكبير نوعا ما والمكون من طابق أرضي وطابق أول , وبعد أن ان تختار المكان المناسب والطابق الذي يتلائم مع مزاجك يأخذ منك عامل آخر هذه الورقة ليأتي لك بالطعام خلال اقل من عشرين دقيقة , وفي هذه المرة كنت على موعد مسبق للقاء أحد الأصدقاء وزميل مهنة , اقام في القاهرة بعد إحالته إلى التقاعد فوجدته امامي في انتظاري متأبطا ملفا صغيرا حسبته بادئ الأمر معاملة اقامة او ما شابه ذلك إلا أنه صارحني بعد جلوسنا في المكان الذي اخترته بنفسي في الطابق الأول مكاسرا لأحد الشبابيك الذي يشرف على الشارع مباشرة , بأنه بدأ بالكتابة استجابة لنصيحتي قبل مغادرته البلد واستقراره في القاهرة , إذ يومها طلبت منه في محاولة لقتل الفراغ أن يكتب أي شيء يخطر في باله , في حينها تندر علي قائلا بأن ذلك بعيد عنه وأنه لم يفكر بذلك على الأطلاق , أجبته على الفور .. حاول .. حاول مبتدءا بكتابة نكتة قد سمعتها , ثم تذكر حادثة طريفة كانت قد وقعت معك , وحاول من توثيقها وبالتأكيد أنها كثر , وبكثرة المحاولات
سوف تجد لنفسك هواية قد لاتجد متعة سواها ، ولكنه لم يحاول في حينها وسافر إلى القاهرة للإقامة هناك , مستجيبا لما تتطلبه شروط الإقامة , وأن هذا الملف الذي بيده ماهو إلا نتاجاته خلال الاشهر الماضية وقد استقر مزاجه على كتابة القصة القصيرة , فقلت له ، لدينا وقتا كافيا لمناقشة ما تحمله ريثما يكتمل طعامنا , هات ماعندك , فإذا أجد نفسي أمام ملف يحتوي على خمس قصص قصيرة لها من الأحاسيس والمقومات الكتابية مايستوجب الإنتباه وانا اقرأ القصة القصيرة الأولى ثم الانتقال للاخريات وقراءة بعض العبارات في هذه وتلك , فأثنيت عليه وعلى جميل ماكتب إلا أني قلت له صراحة هذا رأيي ولكن بالتأكيد أن لذوي الإختصاص آراءً اصوب وأقوم , حينها قال لي .. أصبت , وهذا ما اسخبرك به بعد تناولنا غدائنا , ولكل حادث حديث .
وبعد تناولنا غدائنا تحدثنا عما له من صلة بما كتب , ونحن نحتسي الشاي , موضحا له رأيي الصريح بأن الكتابة عالم آخر للكاتب , إلا أن هناك اشكالية ضبط اللغة , وكما تعلم أن للغة فروعا كثيرة , فمن قواعد أصول الكتابة , إلى قواعد اللغة , فقه اللغة , ضبط الكتابة الأملائية , الأشارات والعلامات الكتابية وأمور أخر كل ذلك من شأنه أن يعطي النص الكتابي خصوصيته الكتابية والخوض في مجرياتها ما يجعل المتلقي يتأقلم طبيعيا عند قراءة النص , أجابني باني سأعرف ما هو بفاعل بعد خروجنا من المطعم , وعند خروجنا إستأجر سيارة أجرة قاصدين مصر الجديدة مما دعاني للإستفسار عن السبب وهو يسكن في مدينة 6 اكتوبر ؟ , أجابني بأن هناك دكتورا جامعيا عراقيا بدرجة استاذ لغة عربية , أقام هناك منذ مدة ليست بقصيرة ، وسوف نستأنس برأيه , أجبته على الفور , اصبت الهدف , وعند وصولنا إلى ماقصدنا كنا وحها لوجه مع ذلك الأستاذ ويبدو أنه كان على علم مسبق بقدومنا ، قدمني صديقي له للتعارف , ما دعاه للترحاب بنا وبمقدمنا , وبعد استراحة قصيرة جيئ بكأسي عصير معتذرا , من انه مصاب بالسكري لذا جيئ بكأسين فقط , ثم تساءل الدكتور عما يبغيه صاحبي من امر الزيارة , أجابه أنه يريد إبداء رأيه بما كتب من قصص قصيرة , فذهلت من ردة فعل هذا الاستاذ الذي سرعان ما بدا منزعجا لما سمع قائلا .. ومالذي جعلك تنحو منحى هذا الامر ( شجابك على هذه الشغلة ) ؟ إشارة منه إلى أن مجال تخصصه العسكرية , فأفغر صديقي فاه وهو يجمع أفكاره للرد على هذا السؤال الغريب الذي لم يخطر على باله قط , ولم يتكلم ببنت شفة , وكأن أصابه الخرس , فأسعفته بالرد والكلام من أن كل التخصصات الأكاديمية لها دراساتها الخاصة بها إلا المواهب فلها منابعها وجذورها ولايمكن تكميمها , فلو درس احدهم الرسم لسنين طوال ولم يمتلك موهبة الرسم فسوف لن يكون رساما قط وهذا ما ينطبق على النحات , والخطاط والموسيقي والشاعر , وربما كان زميلي قد امتهن العسكرية إلا انه كانت له هناك موهبة نائمة لم يوظفها نحو مايستوجب من توظيف وقد وجد فرصته الآن في توظيفها , وبخاصة صنوف الأدب فأنه متاح للجميع , فأن لم يكن بارعا في احداها إلا أنه بالتأكيد سيكون متذوقا , وما قيمة مايكتبه الكاتب إذا لم يكن هناك من متذوق ؟ فلو رجعنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن ديستويفسكي كان عسكريا , ومحمود سامي البارودي عسكريا , وعلي محمود طه مهندسا , واحمد شوقي حقوقيا , وابراهيم ناجي طبيبا , ويوسف ادريس , طبيبا , ويوسف السباعي عسكريا , واحمد رامي اختصاصه ادب فارسي , وبدر شاكر السياب , ادب انگليزي , وهلال ناجي محاميا وكذلك نجيب محفوظ كان هو الآخر حقوقيا , بينما عباس محمود العقاد لم ينل شهادة السادس الإبتدائي إلا أنه كأن في داخله بركان موهبة الكتابة في الأدب العربي , والقائمة تطول , وهنا وجب عندي سؤال جوهري في مغزاه , كم من الرسائل الجامعية تم أخذها بنتاجات هؤلاء القامات الأدبية ؟ وأعني بها نيل شهدات الماجستير والدكتوراه بمختلف العناوين , كان تكون .. فلان دراسة في حياته وشعره , الدعابة عند فلان ، السرد المنهجي في كتابات فلان … الخ , ثم كم من البحوث تم اخذها لنيل الدرجات الوظيفية ؟
سعد عبد الوهاب
سعد عبد الوهاب طه
كأن تكون درجات المدرس المساعد ، استاذ مساعد او الأستاذية , توقفت عن الكلام وساد الصمت لبضعة لحظات وتسائل ذلك الأستاذ عن مهنتي فأجبته على الفور , أنا هو الآخر عسكري ومتقاعد حاليا , حينها أجابني بأن ماتطرقت له كان صائبا , وأن طريق الكتابة الأدبية لم يكن من السهولة , فقلت له , وهل قرأت ماكتب زميلي استاذنا الفاضل ؟ فأنت تتحدث عن اغلاق امكانيات الإبداع قبل أن تقرأ ، اقرأ وتمعن ثم سنتحدث عما كتب في آخر المطاف … وحاولت تغيير جو الحديث إلى أمور الحياة في مصر ، وأخيرا سألت ذلك الدكتور .. عفوا دكتور , وهل لديك مؤلفات لنستقي وننهل منها وأنت ترى أننا مغرمان بالقراءة الادبية ؟ هنا تسمر لسانه وكأن صاعقة نزلت عليه , وأجابني بتردد بانه وبصفته أكاديميا , لم يكن له هناك وقت كاف للتأليف لإنشغاله بالمحاضرات وتصحيح دفاتر الإمتحانات والإشراف على الأطاريح الجامعية … وتبين لي ان هذا الأستاذ لم يكن له أية مؤلفات سوى أطروحة الماجستير وأطروحة الدكتوراه , إذن لماذا يسعى إلى إغلاق بوابة المواهب لغيره؟ ومضى الوقت سريعا لنستأذن الأستاذ بالخروج وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي منفردا بصديقي , وقلت له لا عليك , استمر بالكتابة بغض النظر عما إذا كان هذا وذاك وذيـّاك راضون ام غير ذلك وتبقى الموهبة متفجرة إذا ماتم إستنفارها بالإضافة إلى عامل الثقة بالنفس الذي هو أكبر من كل الاحتمالات .