د. سامان سوراني
مع ظهور التنين المذهبي برز وعاظ و أنبياء جُدد قاموا باحتلال المنابر و زوايا الجوامع، لكي يقولوا بملء أفواههم ويعلنوا علی الملأ بأنهم انتخبوا کأوصياء علی شؤون الحقيقة والحرية والعدالة، يعلون من شأنهم كمسلمين ليخفضوا من قدر الآخر المسيحي أو اليزيدي أو البوذي تمهيداً لاستبعاده واستئصاله، هدفهم الأول والأخير هو صناعة نماذج أصولية و مخربين سذجة يُستخدمون كمطارق آلية لهدم ثقافة التعايش السلمي. هذه العملة وجدناها في الديانات الحديثة أيضاً كالنازية والستالينية والماوية، ونعني بالعملة إرادة االإستئصال والممارسات الفاشية أو البربرية ضد الآخر بسبب إنتمائه العرقي أو الديني أو القومي أو الطبقي.
إنهم يتعاطون مع الأشياء من منظور أصولي تراجعي و يجعلون من الدين مصدر عداء و بغض و صدام. و بنفيهم الواقع الجديد لا يريدون الخروج من تمترسهم وراء الهويات المغلقة أو الجامدة و لا يتركون قوقعتهم الفكرية ولا يهتمون قيد أنملة بما يجري في هذا العالم من أفكار و أحداث. شعاراتهم فقدت مصداقيتها من فرط خوائها أو من فرط إنتهاكها،
فما جری يوم الثاني من كانون الأول عام 2011 لم يكن دسيسة، ولا هو بالطبع، مجرد انحراف عن الخط المستقيم، كما يعلق عليه المعلقين السياسيين، الذين صدمتهم التصرفات الفاشية والأعمال البربرية. فما نستنكره من تصرفات أولئك الشبان، الذين كانت الشرطة تحاول صدّهم عن التخريب يوم قيامهم بالتظاهرة تحت شعار “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، هو ما زرعناه منذ عقود في العقول والنفوس من نصوص و تعاليم و معايير و أحکام و فتاوی لا تعترف بالآخرين الذين نطالبهم بأن يعترفوا بنا و بمقدساتنا.
فما ندينه و نتبرأ منه هو من بنات الفكر الأحادي و العقل المغلق والعقيدة الاصطفائية و الهوية النرجسية و ثمرة ثقافتنا و مؤسساتنا التعليمية الدينية، التي تنتج الأرهابي والمخرب، کما تنتج الأبله الثقافي المقلد لشيخه أو إمامه تقليداً أعمی، فضلا ًعن المفسر المشعوذ، الذي يدعي أن كل ما أنتج من المعارف العلمية الحديثة، منصوص عليه في القرآن. الداعمين لسياسة العنف الاجتماعي و الديني يسعون لإيقاظ الفتن و الصراعات القديمة النائمة في أقاصي الذاكرة وفي کهوف التاريخ و يؤججون الذاكرة الموتورة، لكي تبرز علی السطح و تترك مفاعيلها السلبية، ولكي تترجم کفتن مذهبية أو طائفية بهدف تمزيق المجتمع الكوردستاني، الذي هو اليوم بأشد الحاجة الی الوحدة والإتحاد في سبيل الوصول الی حقوقه المشروعة.
وهذا مآل الفكر الاحادي والاشتغال بمنطق التسامح الذي يقوم علی التساهل مع الآخر، مع الاعتقاد بخطأه والانتقاص من مشروعيته، أنه يلغم المجتمعات والهويات، بقدر ما يطمس أو ينفي ما تنطوي عليه من التنوع والتعدد.
فالهجوم علی محلات لبيع المشروبات الروحية و أماكن مدنية للراحة والاستجمام والنقاهة تابعة لطوائف دينية أو غيرها في بعض المدن والأقضية الكوردستانية، هي حصيلة التمترس وراء الثوابت المقدسة وعبادة الأصول والسلف، فهي محاولات لزرع الفتن أو التوترات، التي تلغم أو تسمّم صيغ التعايش بين الأديان والطوائف، لكي تعيدنا الی الوراء، بعد أن بدأنا بخطوات نحو الأمام للاندراج في عالم الديمقراطية و بعد أن رفعنا شعارات التحديث والتنوير والتقدم وبعد أن أردنا أن نكون نموذجاً مدنياً و حضارياً في المنطقة في عصر عولمة الهويات و بروز المواطن الكوسموبوليتي.
للأسف نقول بأن الحداثيون والنخب المثقفة في كوردستان بمجاملتهم للتيارات الدينية لم يستطيعوا فهْم دفع المجتمع نحو الفضاء العلماني المعاصر والطيف الديمقراطي الحقيقي، كما لم يحسنوا هم أن يتغييروا، لذا نری هبوط شعاراتهم وفشل العديد من مشاريعهم وتحول بعضهم الی ملحق لرجال الدين بشعاراتهم ومشاريعهم، فظاهرة المد الإخواني ومحاولة التيارات الدينية من جديد لإکتساح ساحة الفكر الكوردستاني دليل علی إرتداد الكوادر الحزبية الحديثة الی قواعد الطائفة التقليدية و الانتقال من جلباب الأب الی عباءة الفقيه.
فلسفة التعايش السلمي بين المذاهب و الأديان و الطوائف دليل الحضارة و الرقيّ الاجتماعي ووسيلة للشفاء من الداء المزمن عندنا والمستحكم في نفوسنا و عقولنا. الداء الذي يصادر حرية التفكير و يشلّ إرادة الخلق والإبداع و يدمّر القوّة الحيّة. فرفع شعار الحاكمية الإلهية والعمل بمنطق الفتوی تنتج الإرهاب وانتهاك الحرمات والحدود والسعي الی أسلمة الحياة تترجم فقراً وجهلاً وسطواً علی منجزات الغير، بقدر ما تدمر صيغ التعايش بين المسلمين و غير المسلمين. أما منطق الفتوی علی هذا المذهب أو ذاك يسمم نظام الحياة ويدمر صيغ التعايش بين المسلمين أنفسهم، كما هي الوقائع الصارخة والمحن المريرة.
نحن نعرف بأن الدول هي شؤون دنيوية بشرية، مصلحية أو عقلية، تنسب الی بناتها والقائمين بها، كما كان يفعل الأقدمون وأن خلع الطابع الديني أو القدسي عليها من خلال شعارات الحكومة الاسلامية، ينتج المفعول السلبي، دولة لا تحترم فيها القوانين المدنية، جامعة بين مساویء القدامة والحداثة. نهاجم الغرب وثقافته، لكننا نعيش في معظم شؤون دنيانا علی ما ينتج في الغرب واليابان والصين من سلع و أدوات أو علوم ومعارف و خدمات.
لكي لا نسقط في امتحان الفردية والمواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني علينا أن لا ننسی بأن الآخر هو شطرنا الذي لا مفر منه، خاصة في عالمنا اليوم، انه وسيط لا غنی عنه. و من حاول نبذه أو إلغائه أو أبلسته، فانها ترد عليه سوءاً بقدر ما تجعله أسوأ مما كان فيه. وتلك هي المفارقة، مزيد من التأليه والتنزيه، لمزيد من الحرائق والخرائب.
وختاماً: “عقلية التكفير والتأثيم و استخدام مفردات العصور الوسطی ما عادت تصلح للبناء والعمران، بل تخرب العلاقات بين الناس و تسهم في تشويه سمعة إقليم كوردستان في العالم و الإساءة الی ما ندافع عنه.”
د. سامان سوراني